صورة البحر في السرد الروائي

صورة البحر في السرد الروائي
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
تُمثِّل صُورةُ البَحْرِ في السَّرْدِ الرِّوائيِّ قِيمةً مَركزيةً شديدةَ الأهميةِ ، وتُشكِّل رَمزيةُ البَحْرِ
في الخِطَابِ الأدبيِّ مَاهِيَّةً فِكريةً بالغةَ الدَّلالة ، حَيْثُ يَتِمُّ نَقْلُ البَحْرِ مِن جُغْرافيا المَكَانِ إلى
جُغْرافيا النَّصِّ ، وَمِنْ التاريخِ المَادِيِّ للظواهرِ الطبيعيةِ إلى التاريخِ المَعنويِّ للظواهرِ الثقافية
.
ويُعْتَبَر الرِّوائيُّ السوري حَنَّا مِينة ( 1924 اللاذقية _ 2018 دِمَشْق ) مِنْ أهَمِّ الكُتَّاب
الذينَ كَتبوا عَن البَحْرِ في الأدبِ العربيِّ ، ويُعَدُّ أديبَ البَحْرِ بامتياز . يَقُول في ذلك : " البَحْرُ
كانَ دائمًا مَصْدَرَ إلهامي ، حَتَّى إنَّ مُعْظَم أعمالي مُبَلَّلَة بِمِياه مَوْجِهِ الصاخب ، وأسأل : هَلْ
قَصَدْتُ ذلك مُتَعَمِّدًا ؟ ، في الجَوابِ أقول : في البَدْءِ لَمْ أقْصِدْ شيئًا ، لَحْمِي سَمَكُ البَحْرِ ، دَمِي
مَاؤُهُ المالح ، صِرَاعي مَعَ القُرُوشِ كانَ صِرَاعَ حَيَاةٍ ، أمَّا العواصف فَقَدْ نُقِشَتْ وَشْمًا عَلى
جِلْدِي ، إذا نَادَوْا : يا بَحْرُ ! ، أجبتُ أنا ، البَحْرُ أنا ، فيه وُلِدْتُ، وفيه أرغبُ أنْ أمُوت …
تَعْرِفُونَ مَعنى أن يَكُونَ المَرْءُ بَحَّارًا ؟ " .
إنَّ البَحْرَ في روايات حَنَّا مِينة يُجسِّد الخَلاصَ للفَرْدِ المُنعزِل ، والتَّحَرُّرَ مِنْ قانونِ اليابسةِ
، والحَنِينَ إلى آفاقٍ لانهائية ، واكتشافَ الأحلامِ البعيدةِ التي لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أحَد . وهَكذا يُصبح
أدبُ البَحْرِ مِنْ خِلالِ الرِّواياتِ مَنظومةً مِنَ التَّفَاصيلِ والصِّرَاعاتِ والدَّلالاتِ والرُّمُوزِ ، حَيْثُ
تَنْصَهِرُ بَرَاءَةُ الطُّفولةِ وَطَهَارَةُ المَكَانِ وَبَكَارَةُ الحُلْمِ في بَوْتَقَةٍ وُجودية واحدة .
وقَد استفادَ حَنَّا مِينة مِنْ البَحْرِ في تَشكيل عوالم حالمة، وصِناعةِ شخصيات مُتناقضة ،
وابتكارِ حَيَوَاتٍ قائمة بذاتها ، تَشتمِل على أبعادِ الوَجَعِ الإنسانيِّ ، وأسبابِ الصِّراعِ الاجتماعيِّ
، ودَلالاتِ مُعَانَاةِ الطَّبَقَاتِ المَسحوقةِ .
إنَّ الفَتْرَةَ التي قَضَاهَا حَنَّا مِينة في البَحْرِ ، وَبَيْنَ الصَّيَّادين والبَحَّارَةِ ، انعكستْ في البُنى
التَّركيبية لأعماله الروائية، حَيْثُ نَقَلَ مِنْ خِلالِهَا تفاصيلَ الحَياةِ البحرية ، ومُشكلاتها ،
وصُعوباتها، والتَّحَدِّيَات التي تُوَاجِه البَحَّارَة ، والأخطار التي تُحْدِق بِهِمْ ، والكِفَاح المَرِير ضِد
قَسْوَةِ الطبيعةِ ، وَرَهْبَةِ البَحْرِ، وَضُغوطاتِ الحَيَاةِ .
ولا شَكَّ أنَّ الزَّمَانَ والمَكَانَ يتقاطعان في جَسَدِ البَحْرِ والتَّجَارِبِ الحَيَاتِيَّة اليَومية للبَحَّارَةِ
الذينَ يُخَاطِرُونَ بحياتهم مِنْ أجْلِ تَوفيرِ لُقْمَةِ العَيْشِ الكريمةِ لعائلاتهم . وكُلُّ رِحْلَةٍ في البَحْرِ
هِيَ رِحْلَةٌ في أعْمَاقِ البَحَّارَةِ وَذَوَاتِهِمْ وأحلامِهِمْ وذِكْرياتهم . وكُلُّ بَحَّارٍ يُعيد اكتشافَ مَاضِيه
وتَرْمِيمَ حَاضِرِه في قَلْبِ البَحْرِ بَحْثًا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ مُشْرِق ، ومُغَامَرَةٍ بَنَّاءَةٍ وَمُثْرِيَة .
وفي الأدبِ العالميِّ يَظْهَرُ البَحْرُ بِكُلِّ عُنفوانِه ورمزيته ، ويَبْرُز اسمُ الروائيِّ الأمريكيِّ
إرنست همنغواي (1899_ 1961) صاحب رواية ( العجوز والبحر/ 1952) التي قامَ
بتأليفها في هافانا عاصمة كُوبا. وقَدْ حازَ همنغواي بفضلِ هذه الرِّواية على جائزةِ بوليتزر
عن فئة الأعمال الخيالية ( 1953 )، وَجائزةِ نوبل للآداب ( 1954 ) ، " لأُستاذيته في فَنِّ
الرواية الحديثة ، ولقوةِ أُسلوبه ، كما يظهر ذلك بوضوح في قصته الأخيرة ( العجوز
والبحر ) "، كما جاءَ في تقرير لجنة نوبل .
تُصوِّر الروايةُ الصِّراعَ بَيْنَ الإنسانِ وقُوى الطبيعة ، وجَسَّدَه في بطلها العجوز (
سانتياغو ) معَ أسماكِ القِرْشِ المُتَوَحِّشَة والسَّمكةِ الكبيرة الجَبَّارة في البَحْرِ ، وتَتميَّز الرِّوايةُ
بِخِبرات واقعية بِعَالَمِ البَحْرِ ، وَتُظْهِر قُوَّةَ الإنسانِ وتَصميمَه وَعَزْمَه عَلى نَيْلِ أهدافِه ،
والوُصول إلى مَا يَصْبُو إلَيْه ، وإمكانية انتصاره على قُوى الشَّرِّ والطبيعةِ ، وَفْقًا لِمَقُولةِ
همنغواي الشهيرة : " الإنسانُ يُمكِن هَزيمته ، لكنْ لا يُمكِن قَهْرُه " .
إنَّ البَحْرَ مُسْتَوْدَعٌ للحِكَاياتِ الشَّعبيةِ ، والأساطيرِ المَوروثةِ ، وَالعَواطفِ الإنسانية
المُعقَّدة، وعَناصرِ الشَّخصياتِ التي تُكَافِح للحُصُولِ عَلى مَوْقِع عَلى خَريطةِ المُجتمع ، وتُعَاني
للحُصولِ عَلى مَكَانٍ تَحْتَ الشمس . وإذا كانَ الشُّعُورُ الإنسانيُّ هُوَ النُّقطةَ المُشتركة بَيْنَ
الأزمنةِ المُختلفة ، فَإنَّ مُطَارَدَةَ الحُلْمِ هُوَ العَامِلُ المُشترك بَيْنَ الظواهرِ الطبيعيةِ والظواهرِ
الثقافية .
والبَحْرُ يُمثِّل الانطلاقَ نَحْوَ فَضاءات مَفتوحة ، ويُجسِّد الانعتاقَ مِنْ قَسوةِ النِّظامِ
الاستهلاكيِّ الماديِّ في المُجتمع ، حَيْثُ يَتِمُّ تَقْديس العاداتِ والتقاليدِ أكثر مِنْ إنسانيةِ الإنسانِ.
والبَحْرُ يُعيد بِناءَ الإنسانِ مِنْ جَديدٍ ، ككائنٍ حُرٍّ ومُتَحَرِّرٍ مِنَ الاغترابِ والاستلابِ ، وهَكذا
يُصبح حُضُورُ البَحْرِ في السَّرْدِ الروائيِّ تَعْوِيضًا عَن غِيَابِ الإنسانِ في ضُغوطاتِ الحَياةِ ،
وإفرازاتِ الأحداثِ اليوميةِ . وأيضًا يُصبحُ وُجُودُ البَحْرِ في الخِطَابِ الأدبيِّ استمرارًا للفِعْلِ
الاجتماعيِّ والفاعليَّةِ الجُغرافية ، لَيْسَ عَلى مُستوى الحُدودِ والمَساحاتِ فَحَسْب ، بَلْ أيضًا
عَلى مُستوى المَعَاني والكلماتِ، وبالتالي يَصِيرُ البَحْرُ أبجديةً جديدةً تُوَازِن بَيْنَ مَشاعرِ
الشَّخصياتِ وَوَعْيِ المُجتمعات.
والبَحْرُ في السَّرْدِ الروائيِّ يَحْمِلُ مَعنى الوِلادةِ الجَديدةِ للكَلامِ عَن طَريقِ المَاءِ ، حَيْثُ
تَغتسِل فِيهِ عناصرُ اللغةِ ، وَتَتَدَفَّقُ كَمَا تَتَدَفَّقُ الأمواجُ . والماءُ سِرُّ الوُجودِ وأصْلُ الحَياةِ
والإبداعِ ، وهذا يُشير إلى أهميةِ المَاءِ كَعاملٍ أساسيٍّ في الحَياةِ ، وكَأداةٍ للإبداعِ في الرَّمزيةِ
اللغويةِ ، والسَّرْدِ الروائيِّ ، والخِطَابِ الأدبيِّ . والمَاءُ أساسُ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ ، ويُعْتَبَر مَنْبَعًا
للإلهامِ والتَّنَوُّعِ ، ويُسَاهِم في تاريخِ الوُجودِ ، والحَضاراتِ الإنسانيةِ، والابتكاراتِ المَعنويةِ