كيف نفهم كثافة استهداف إسرائيل للصحافيين في الحرب على قطاع غزة؟

كيف نفهم كثافة استهداف إسرائيل للصحافيين في الحرب على قطاع غزة؟
سعيد أبو معلا
رام الله ـ غزة ـ يوم أمس الأول، أعلنت نقابة الصحافيين الفلسطينيين، أن عدد الصحافيين الشهداء ارتفع في قطاع غزة إلى 221 شهيدا، عقب استشهاد الصحافي معتز محمد رجب.
قالت النقابة التي أدانت جريمة الاغتيال أن الشهيد سقط أثناء تأديته واجبه المهني في تغطية الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق أبناء الشعب الفلسطيني، حيث استهدفت طائرات الاحتلال مركبة مدنية في شارع النفق بمدينة غزة، ما أدى إلى استشهاده على الفور.
جاء في تأكيد النقابة أن الاستهداف الدموي المتكرر للصحافيين والطواقم الإعلامية الفلسطينية يأتي في إطار سياسة ممنهجة من الاحتلال الإسرائيلي، بهدف إسكات الصوت الحر، وفرض التعتيم الإعلامي على جرائمه، ومنع إيصال الرواية الفلسطينية إلى العالم.
كان يمكن توقع الفقرة الأخيرة من بيان النقابة، فهي متكررة ولازمة في أغلب التغطيات والمعالجات لاستهداف الصحافيين في قطاع غزة. لكن قبل فترة من الزمن، وأثناء عرض فيلم وثائقي سلط الضوء على جانب من معاناة الصحافيين في قطاع غزة، أثارت «القدس العربي» سؤالا على الأسرة الصحافية التي كانت متواجدة وقت العرض، وأعادت طرح السؤال: ما أسباب الاستهداف الكثيف من الاحتلال الإسرائيلي للصحافيين الفلسطينيين في القطاع؟
وأضافت «القدس العربي»: «لا يعتبر هذا السؤال من نافل القول، إنه يحمل دعوة كبيرة لفهم أسباب استهداف الصحافيين في القطاع بعيدا عن مسلمة مفادها أن الاحتلال يستهدفهم لكونهم ينقلون صوت وصورة ما يجري في القطاع من إبادة وحشية للعالم أجمع. ورغم صحة التحليل السابق، نوعا ما، إلا إنه لا يمتلك قدرة تفسيرية كافية لأسباب استهداف الصحافيين في ظل أن الاحتلال في حربه المتوحشة يتجاهل كل العالم وقيمه وبالتالي لن تهمه صورته كما يمكن أن يعتقد البعض، فالاحتلال في جرائمه وإبادته الجماعية يتجاهل الرأي العام الدولي وكل ما كان يظن الفلسطينيون أنه يصنع الفرق في سلوك الاحتلال.
دار نقاش طويل وخلص إلى أهمية بحث وإعادة التفكير في السؤال الرئيسي. «القدس العربي» بدورها سألت مجموعة من الصحافيين والباحثين الفلسطينيين حول «كيف يمكن فهم الاستهداف المكثف للصحافيين في ظل حرب الإبادة في القطاع؟».
الخوف من القادم
الباحث والأكاديمي صالح مشارقة، وهو مؤلف كتاب «الإبادة الصحافية» يقول إن استهداف إسرائيل للصحافيين نابع من أكثر من سبب، أهمها ان إسرائيل تريد التعتيم على الإبادة، بأبعاد الصحافيين والفضائيات والكاميرات عن المواقع التي تقتل الناس فيها، فتقتلهم بدون كاميرات وتطمس أصواتهم وشهادات من كانوا هناك، وهي خبرة يتقنها جيش الاحتلال جيدا.
وأضاف: «بصراحة انهم يخافون من سيناريوهات قد تكرر ما حدث في معسكرات النازية التي ارتكبت الهولوكوست، وبما انهم قد ارتكبوا الإبادة فمن المؤكد أنهم تحت وطأة إخفاء الأدلة وطمس الشهادات التي يجمعها الصحافيون وتمزيق المعلومات مثلما مزقوا الأجساد والمباني والأماكن».
ولصالح رؤية من زاوية أخرى، حيث يضيف: «تعيش إسرائيل في آخر عقدين الشخصية اليمينة بدون فلاتر، مستعمرون ومتطرفون ومتدينون يفتون بقتل أطفال الأعداء، الصحافيون الإسرائيليون يحرضون على القتل على الشاشات، كل فئات المجتمع الاسرائيلي حتى قبل السابع من أكتوبر، صارت يمينية والشخصية الإسرائيلية باتت ذات سلوك فاشي علني، وبالتالي قرار قتل الصحافيين الفلسطينيين قد يحمي هويتهم الفاشية من أية صور أو معلومات قد تصل العالم وتفضحهم، فهم رسميون وأهليون ضد الصحافة الفلسطينية».
يكمل مشارقة: «هناك هزيمة إعلامية لهم ظهرت في ظل حرب الإبادة، بدأت تؤثر على رغبتهم في إعماء الفلسطينيين إعلاميا وقتل صحافييهم وتدمير مقراتهم الإعلامية وإغلاق فضائيات.. هذا السلوك بدأ يتعاظم في ظل خسارتهم الإعلامية الكبيرة للرواية على مستوى العالم بعد الإبادة في غزة، فهم لأول مرة منذ تأسيس كيان الاحتلال بلا رواية ناجحة، بل رواية عسكرية خرقاء تشبه البروبوغاندا النفسية الفاشلة».
ويختم: «في المقابل شوارع العالم تحاسبهم وترفض جرائهم وتكشف لا ساميتهم التي لطالما استغلوها في محاسبة خصومهم، فهم اليوم خصم لأطراف إعلامية وأكاديمية ونسوية وطلابية في كل العالم، وهذا يفقدهم صوابهم ويجعلهم يطلقون يد الجنود لقتل الصحافيين الفلسطينيين».
وفي 17 نيسان/أبريل الماضي حذرت الأمم المتحدة من «ارتفاع هائل» في استهداف الصحافيين في الأرض الفلسطينية المحتلة، حيث قال مدير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة إن أوضاع الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام كانت دائما صعبة حيث تعرضوا للقمع في العديد من الحالات التي سجلها المكتب.
ونبه أجيث سونغاي إلى أن المكتب سجل «ارتفاعا هائلا» في عمليات القتل والاعتقال والرقابة ضد الصحافيين منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 في الأرض الفلسطينية المحتلة.
وأضاف: «شهدنا تدمير مكاتب ومقرات وسائل الإعلام بالكامل. وفي كل من غزة والضفة الغربية، تم اعتقال العديد من الصحافيين الفلسطينيين أيضا. وسجلنا وتلقينا تقارير عن سوء معاملة قد تصل إلى حد التعذيب للصحافيين المعتقلين، بالإضافة إلى تهديدات مزعجة بالعنف الجنسي ضد الصحافيات، وكذلك الرجال والنساء على حد سواء».
وذكَّر المسؤول الأممي بأن الصحافيين هم مدنيون محميون من الهجمات بموجب القانون الدولي الإنساني، ما لم يشاركوا بشكل مباشر في الأعمال العدائية، مضيفا «القتل المتعمد للصحافيين جريمة حرب».
بدوره، قال فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين «الأونروا» إنه منذ بدء الحرب قبل عام ونصف، منعت السلطات الإسرائيلية دخول وسائل الإعلام الدولية إلى غزة لتغطية الأحداث بشكل مستقل.
وقال في بيان أصدره «هذا يغذي الدعاية المضللة، ونشر المعلومات الكاذبة، وخطاب التجريد من الإنسانية». وأضاف أن الصحافيين الفلسطينيين يواصلون عملهم البطولي، ويدفعون ثمنا باهظا.
وشدد على أن التدفق الحر للمعلومات والتغطية المستقلة يشكلان ركيزتين لضمان الوصول إلى الحقائق وتحقيق المساءلة أثناء النزاعات، مضيفا: «لا ينبغي أن تكون غزة استثناء. آن الأوان لدخول وسائل الإعلام الدولية بعد تأخير طال أمده».
الصحافيون ذاكرة الحرب
تجاهل الاحتلال والعالم كل التصريحات السابقة رغم أنها تصدر من أرفع المؤسسات الدولية، هنا يرى أستاذ الإعلام في جامعة الخليل جنوب الضفة الغربية والباحث والصحافي صلاح أبو الحسن، أن إسرائيل تخوض ما يُعرف بحرب الوعي، أي إنها لا تكتفي بالحرب بالسلاح، بل تسعى لتشكيل صورة ذهنية عالمية تتماشى مع مصالحها، وتحطيم الصورة المعاكسة.
وتابع حديثه: «الصحافي الفلسطيني يُعتبر تهديدا مباشرا لهذه الحرب لأنه يخلق سردية مضادة تستند إلى الصورة والشهادة الميدانية. هنا هو يخاطب الشعوب في عقر دارها بلغتها الإنسانية، لا بلغة السياسة وبالتالي فاستهداف الصحافي هو استهداف لعقل الجمهور العالمي، لا جسد الصحافي».
في السياق الفلسطيني، بحسب أبو الحسن، لا يعتبر الإعلامي محايدا بشكل كامل. «كثير من الصحافيين يرون في عملهم مقاومة ناعمة، عبر توثيق الجرائم، ونشر رسائل صمود وفضح الأكاذيب الإسرائيلية، وهذا يجعلهم أعداء غير تقليديين من منظور المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، حتى لو لم يحملوا سلاحا».
«وفي حرب الإبادة، لا تريد دولة الاحتلال شهودا»، بحسب أبو الحسن: «يراد لها أن حربا بلا ذاكرة، واستهداف الصحافي هو وسيلة لطمس الذاكرة الجمعية، فإسرائيل تدرك أن الصحافي يصنع أرشيفا بصريا لا يموت، ويوثق الجريمة بزمنها وسياقها، ما يصعب إنكارها لاحقا. لذا، فإن قتله مبكرا في الحرب، هو قتل للشاهد قبل أن يستدعى لاحقا للمحكمة، أو للضمير العالمي إن بقي منه شيء». ويرى الباحث أبو الحسن أنه في لحظات معينة، ترسل إسرائيل رسائل غير معلنة عبر استهداف أسماء بعينها، بهدف ردع وسائل إعلام كبيرة (كالجزيرة مثلا)، أو إرهاب شبكات صحافية عالمية كي لا تغطي، أو تخفف لهجتها.
وختم: «منظومة التفكير العنصري الإسرائيلي ترى في كل فلسطيني تهديدا وجوديا ما دام قادرا على التأثير، ولو بالكلمة أو الصورة، لذلك يستهدف الصحافي الذي يحمل كاميرا كما يستهدف الطفل الذي يحمل حجرا، فكلاهما يمثل خطرا رمزيا على هيبة القوة الإسرائيلية».
الإبادة تعزز استهدافهم
الصحافي الميداني ومراسل «قناة العربي» في الضفة الغربية عميد شحادة يكمل على الإجابات السابقة عبر إضافة عنصر مهم في فهم السؤال الرئيسي، يقول: «أنظر للموضوع بطريقة مختلفة عما يرى زملائي الصحافيين، قبل فترة كنا في ورشة طرحت سؤال حماية ومساعدة الصحافيين الفلسطينيين في ظل الحرب؟ وقدمت رؤية مختلفة لهذه المسألة».
ويتابع عميد: «في الوقت الذي يكون هناك إمكانية لدى جيش عسكري مدجج بالسلاح كي يرتكب جريمة إبادة جماعية بحق سكان مدينة كاملة، فإنه سيقتل وستمتد جرائمه لتصل إلى 200 صحافي، وكذلك 1000 نجار، و500 حداد، وألفي سائق تكسي، 500 حلاق..ألخ، المنطق والواقع يقولان ذلك».
«بالتالي سؤال: لماذا يكون هناك استهداف مكثف للصحافيين أو لماذا يموت الكثير من الصحافيين في غزة؟ يعتبر غير منطقي»، والحديث للإعلامي الميداني شحادة، «فالجيش يقصف الجميع، إنه يمارس إبادة، وعندما نتحدث عن الإبادة بصدق فإنها لن تميز بين صحافي وغيره، وبين مسعف وخبار، وبين مواطن كبير بالسن وشاب مراهق، إنها فعل إبادي للجميع».
ويتابع: «تحت مسمى إبادة يمنع بالنسبة لي سؤال لماذا يقتل الصحافي، نحن أمام إبادة في كل القطاع، وعندما نتحدث عن إبادة شعب بأكمله يصبح معها موضوع استهداف الصحافيين أقل أهمية».
فالاحتلال يقصف كما يقال بالعامية الفلسطينية «عن جنب وطرف»، وبالتالي عدد الشهداء الصحافيين كبير لأنه عدد الشهداء المدنيين كبير جدا، حسب قاعدة النسبة والتناسب، يبدو ذلك منطقيا، فالصحافي مدني تماما كبقية المواطنين الذين يتم استهدافهم، يستشهد الصحافي بدون ذنب مثلما يستشهد المواطن: طفل شاب، رب منزل، عجوز…ألخ بدون ذنب.
ويلخص حديثه: «الفكرة الأساسية طالما أن هناك إبادة جماعية فإنه من الصعب ومن غير المستساغ التركيز على فئة من دون غيرها، من الصعب حماية صحافي يعمل في الميدان طالما المدني والطفل والمرأة الحامل..ألخ يقتلون بالصواريخ».
ويختم شحادة: «أي مطالبة بحماية الصحافيين في الميدان يجب أن يسبقها بدرجات حماية الأطفال والمدنيين بأي مجتمع وبأي مكان، والعكس صحيح، طالما المدنيين والبنية المدنية في غزة لا يتم قصفها فإنك لن تشاهد صحافيين يقتلون، وطالما الإبادة تشمل الجميع في غزة وعلى رأسهم المدنيون سنرى صحافيين يسقطون ليس لكونه صحافي فقط بل لكونه مدني موجود بجوار مدني آخر، وكل هؤلاء مستهدفون ممن يرتكب جريمة الإبادة الجماعية».
جزء من
«سياسات الإماتة»
تذهب الباحثة في علم الاجتماع السياسي نور بدر إلى تنظيرات الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي في قراءة مشهد الموت في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث تنظر لقطاع غزة على أنها مكان تمارس فيه فكرة السيادة على الموت، أو ما يعرف «بالإماتة».
وسياسة الإماتة هي نظرية اجتماعية سياسية تتعلق باستخدام القوة الاجتماعية والسياسية لتحديد كيفية عيش بعض الناس وكيفية موت بعضهم. ويخلق تطبيق السياسة الميتة ما يسميه أشيل مبيمبي «عوالم الموت»، أو «أشكالا جديدة وفريدة من الوجود الاجتماعي حيث تخضع أعداد هائلة من السكان لظروف معيشية تمنحهم صفة الموتى الأحياء». وجاء في كتاب «السياسة الميتة» لمبيمبي فكرة أن السيادة «تكمن، إلى حد كبير، في القدرة على تحديد من يحق له العيش ومن يجب عليه الموت»، حيث تمارس السلطة دائمًا هذا الدور عبر ممارسة السيادة التي هي في الجوهر منها ممارسة السيطرة على الفناء. فالسيادة تُبنى على حق القتل، والحرب تُستخدم «كوسيلة لتحقيق السيادة، كطريقة لممارسة حق القتل».
وتكمل بدر: «الموت يمارس على كل المواطنين في القطاع، كامل القطاع ممن يتواجدون داخل الحيز الخاص به يحدث معهم فعل الإماتة، وعملية الإماتة تنتقل من فكرة قتل المواطنين بالقصف والصواريخ إلى فكرة وضع المواطنين في ظروف حياة تقود لموتهم».
وعن علاقة ذلك بالصحافيين تشرح بدر: «في الحالتين الصحافيون هم جزء جسدي يعيشون في ذات المكان، عمليا هم يتعرضون للموت الإبادي من خلال القصف بالصواريخ وهي جزء من سياسات الإماتة، وفي جزء منها المجاعة المصطنعة التي خلقها الاحتلال وكذلك مثل انعدام المياه تدمير المنازل والحياة داخل الخيم..الخ».
وترى بدر أن الصحافيين يعيشوا شكلين من الموت، ليس باعتبارهم صحافيين فقط بل لأنهم موجودون في هذا المكان (غزة)، وبالتالي يتعرضون لسياسات الموت والإماتة».
وحول سؤال لماذا يبدو أو يقال إن عدد الصحافيين الذين استشهدوا كبير جدا؟ فهو يعود في جانب منه إلى عملية التركيز عليهم، فالصحافيون ينتمون إلى فئات مهنية يتم التركيز عليها، ولا يتم التعامل معهم بطريقة إحصائية مثلما يحدث مع الشباب أو الأطفال أو النساء..ألخ، أو مهن أخرى، فالمجموعات الأخرى تتلاشى ولا يتم التعامل معها إلا بصفتها إحصاءات، وبالمقابل نسمع قصص الصحافيين ونتأثر بها لوجود منظومة قوى تقف خلفهم، أي مؤسساتهم التي يعملون فيها، فهي تمسك بأصواتهم وصورهم وقصصهم وتقوم بعملية إبرازها».
وتميز بدر بين ثلاثة أنواع من الإعلاميين والنشطاء الذين يتم التركيز عليهم، الفئة الأولى الذين يعملون مع مؤسسات إعلامية دولية، وهؤلاء ينالون اهتماما كبيرا وتغطية واسعة بحكم قوة مؤسساتهم، والثاني وهم الصحافيون الذين يعملون مع مؤسسات صحافية محلية مثل الإذاعات والمواقع الإلكترونية حيث يأخذ موتهم صدى واهتماما أقل من الذين يعملون في المؤسسات الدولية، وثالثا النشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي حيث ينالون اهتماما مصدره المواطنين العاديين ممن كانوا يتفاعلون مع منشوراتهم، إنهم ينالون قوة من قوى الناس العامة.
وتشدد على أن استهداف الصحافيين في جانبه الأول لكونهم يعيشون في القطاع، وهو ما يجعلهم جزءا من الاستهداف العام.
أما المسألة الثانية حسب الباحثة بدر فترى أن الصحافي يتم استهدافه بالموت في ظل أن الجهة المسيطرة (الاحتلال) يريد صوتا وصورة واحدة وهو من يصدرها ويرسلها للعالم، وهو لا يريد إلا تلك الصورة وذلك الصوت الأوحد، وعندما يكون هناك من ينافسه في ذلك عبر تقديم صورة وصوت الإبادة الجماعية، عندما يكون هناك من هو يعيش في جوف الإبادة ويعمل على تقديم الصور والأصوات وتفاصيل المعاناة والجرائم، فإنه يعمل على إزعاج الاحتلال ويشوش على صورته وصوته، هنا يكون الصحافي طرفا يعمل على إنتاج نظام معرفي مزعج للاحتلال، وهو ما يسبب له الضغط والمطالبات وهو ما يجعل من الصحافي عرضة للموت مباشرة. وتقرأ بدر في مشهد استهداف الصحافيين بإنه يقسم إلى مجموعتين، من الصحافيين العاملين في القطاع، وهؤلاء يقع عليهم فعل الموت مباشرة، مثل المصورة فاطمة حسونة التي قتلت مع عائلتها في القطاع بعد أن وصل فيلمها إلى مهرجان كان السينمائي. فالفيلم هو نوع من المعرفة التي أزعجت الاحتلال، وقدمت صورة مخالفة للصورة الموحدة التي تعمل إسرائيل على تقديمها للعالم، فكان نصيبها الموت.
استشهدت المصورة حسونة، برفقة 10 أفراد من عائلتها، بقصف منزلهم في حي التفاح بمدينة غزة، جراء غارة جوية لطيران جيش الاحتلال الإسرائيلي. وكانت حسونة محور فيلم وثائقي، عرض للمرة الأولى في مهرجان «كان السينمائي» حمل اسم «ضع روحك على يدك وامش» للمخرجة الإيرانية سيبيدة فارسي. حيث تناول الوثائقي يوميّات حسونة (25 عاماً).
وباستشهادها، فقدت فلسطين المصورة الصحافية الملقبة بـ«عين غزة»، والتي كانت قد كتبت ذات يوم: «إذا مت، أريد موتاً مدوياً.. أثراً يبقى.. وصوراً لا يدفنها الزمان»، هي التي كتبت بالعاميّة ذات مرّة عبر صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»: «يمكن صوري تضّل عايشة أكثر منّي.. وهذا اللي مخليني مرتاحة».
تكمل الباحثة بدر: «المستوى الثاني من الموت ينال من يقف إلى جانب الفلسطينيين وقضيتهم ويقدم معرفة مزعجة للاحتلال، حيث يتم تشويههم بإنهم يمولون حركة حماس أو يعادون السامية».
وتخلص إلى أن دولة الاحتلال إسرائيل ترى أنها تمتلك شرعية قتل النوعين، مرة بالقتل المادي، ومرة بالقتل المعنوي من خلال مهاجمته بخطاب معاداة السامية وتمويل الإرهاب.
«القدس العربي»: