الضربة الأوكرانية في العمق الروسي: التداعيات على أمن أوروبا وآفاق جهود السلام

الضربة الأوكرانية في العمق الروسي: التداعيات على أمن أوروبا وآفاق جهود السلام
بقلم رئيس التحرير
مع تصاعد حدة الحرب الروسية الأوكرانية، فان الحرب تشهد تحولًا نوعيًا خطيرًا تمثّل في شن أوكرانيا ضربات داخل العمق الروسي. هذه العمليات لم تعد مقتصرة على مناطق النزاع التقليدية، بل امتدت إلى منشآت حيوية داخل الأراضي الروسية، كالمطارات العسكرية، ومصافي النفط، وحتى البنية التحتية المدنية في بعض الأحيان. هذه الضربات، التي تم تنفيذ بعضها باستخدام طائرات مسيّرة وصواريخ بعيدة المدى، تحمل تداعيات إستراتيجية تتجاوز حدود أوكرانيا وروسيا، لتطال البنية الأمنية والسياسية لأوروبا بأكملها، وتهدد ما تبقى من آمال لتحقيق تسوية سلمية للصراع.
الضربات الأوكرانية في العمق الروسي تمثل تغييرًا في قواعد الاشتباك. روسيا قد ترى في هذه العمليات مساسًا مباشرًا بأمنها القومي، وبالتالي تبريرًا لتصعيد ردودها العسكرية، سواء في أوكرانيا أو تجاه الأطراف الداعمة لها. هذا التصعيد يحمل خطر الانزلاق إلى حرب إقليمية أوسع، خصوصًا مع تعاظم الترابط الأمني بين كييف والدول الغربية.
ومع دخول الحرب بعدًا جديدًا، تصبح دول أوروبا الشرقية مثل بولندا، رومانيا، ودول البلطيق، أكثر عرضة للخطر، سواء عبر الهجمات السيبرانية أو محاولات زعزعة الاستقرار. وقد يدفع ذلك الناتو إلى نشر مزيد من القوات وتعزيز البني التحتية الدفاعية، ما يؤدي بدوره إلى مزيد من التوتر مع موسكو.
كل التوقعات أن روسيا قد ترد بضرب شرايين الدعم الغربي لأوكرانيا، سواء كانت سككًا حديدية، أنابيب غاز، أو مراكز لوجستية. وهذا لا يمثل فقط تهديدًا عسكريًا، بل أيضًا خطرًا اقتصاديًا مباشرًا لأوروبا التي تعاني بالفعل من تداعيات الطاقة والحرب.
لا شك أن الضربة العسكرية التي طالت العمق الروسي ومنشاتها ألاستراتجيه سيكون لها انعكاسات على جهود السلام والدبلوماسية وتعقيد مسارات التفاوض ، ويفترض في أي تصعيد نوعي من هذا القبيل يُقابل في العادة بتصلب سياسي، خاصة من الجانب الروسي الذي قد يعتبر أن الضربات تمّت بدعم غربي مباشر. هذا من شأنه عرقلة أي قنوات خلفية أو علنية للسلام، ويدفع الطرفين لمزيد من التصعيد بدل التهدئة.
الضربة الأوكرانية تشكل إضعاف حيادية الوسطاء وهناك عدد من الدول، كالصين وتركيا ودول أفريقية، تبنت مواقف وسيطة تسعى للتقريب بين الطرفين. غير أن ضربات أوكرانيا للعمق الروسي قد تعزز السردية الروسية بأن كييف باتت طرفًا هجوميًا، مما يدفع بعض الدول المحايدة إلى إعادة تقييم مواقفها، أو حتى الميل نحو موسكو سياسيًا.
وفي ظل تصاعد العنف واتساع نطاق الضربات، تنخفض شهية الأطراف الدولية لدفع جهود السلام، خصوصًا في وقت تنشغل فيه أوروبا وأمريكا بملفات داخلية، كأزمات الهجرة، التضخم، والانتخابات. وهكذا، يتم إرجاء الحديث عن الحلول السياسية إلى أجل غير مسمى.
ولا شك أن للعملية العسكرية في العمق الروسي تأثيرات محتملة على الداخل الأوروبي
- تفاقم الانقسام السياسي
تطرح العمليات الأوكرانية العميقة سؤالًا حساسًا داخل أوروبا: هل ما زال دعم كييف يصب في مصلحة الأمن الأوروبي؟ في دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، يمكن أن يؤدي هذا التساؤل إلى صراع سياسي داخلي بين الأحزاب الداعمة للدعم العسكري والأحزاب الداعية للتهدئة.
- صعود الخطاب الشعبوي
كلما طال أمد الحرب وتعمّق خطرها، كلما ازدهر الخطاب القومي والشعبوي الذي يدعو إلى الانكفاء الداخلي ورفض الانخراط في “حروب الآخرين”. وهذا قد ينعكس على نتائج الانتخابات، وربما يؤثر على وحدة الموقف الأوروبي تجاه أوكرانيا.
- قلق أمني شعبي متزايد
المواطن الأوروبي العادي أصبح أكثر وعيًا بأن التهديد قد يطال المدن الأوروبية نفسها في حال انزلقت الأمور أكثر. هجمات سيبرانية أو عمليات تخريبية قد تزرع الذعر وتزيد من الضغط الشعبي على الحكومات لتبني موقف أكثر حذرًا وأقل تدخلًا .
وعليه فان الضربات الأوكرانية في العمق الروسي تُعد تحولا استراتيجيًا في طبيعة الصراع، وتؤشر إلى مزيد من التصعيد وانسداد في أفق الحل السياسي. أوروبا، بوصفها داعمًا رئيسيًا لأوكرانيا، تجد نفسها أمام معضلة صعبة: الاستمرار في الدعم مع تحمّل مخاطر التصعيد، أو التراجع والدفع نحو تسوية سياسية محفوفة بالمخاطر والانتقادات.
في كلتا الحالتين، فإن أمن القارة الأوروبية واستقرارها أصبحا مرتهنين بتطورات حرب لا تبدو نهايتها قريبة، ولا مضمونة العواقب.