
غزة… «الدم ما بيصير خبز»

راشد عيسى
لم يكن بنيامين نتنياهو بحاجة لاستعادة عبارة شهيرة منسوبة إلى ملكة فرنسا، عندما قيل لها إن الشعب جائع، فقالت «فليأكلوا كاتو (أو البْرِيوش للدقة)»، لقد استطاع صاحبُ الفترة الأطول رئيساً لحكومة إسرائيل أن ينفي حكاية الجوع برمتها عن قطاع غزة، وهو ضحية حرب دموية لا ترحم مستمرة منذ حوالى العامين، وحصار إسرائيلي منذ 17 عاماً.
في فيديو «مطنطن» (فلا هو تسجيل مسرب، ولا هو زلة لسان) نفى نتنياهو أن يكون هناك مجاعة في غزة، وزعم أن لديه الدليل: «نأخذ آلاف الأسرى ونصوّرهم، ونطلب منهم خلع قمصانهم للتأكد من عدم وجود أحزمة ناسفة». متابعاً: «آلاف وآلاف من الأسرى يخلعون قمصانهم، ولا ترى أي واحد منهم هزيلًا، منذ بداية الحرب وحتى اليوم، بل ترون العكس تماماً».
الشمس طالعة، والناس قاشعة، ومع ذلك يستطيع نتنياهو أن يكذب على الملأ، وبملء صوته.. مِمَّ وممّن سيخجل قاتل!
كيف لو لم يكن الحدثُ الغزي مصوراً ومنقولاً لحظة بلحظة، وخصوصاً جوع غزة، وتجويعها الممنهج، وقد بات هناك مجازر اشتقت أسماءها من الجوع، من «مجزرة الطحين»، إلى مجزرة المساعدات (الأخيرة في رفح)، وقد اعتبرت هذه فخاً مستمراً أوقع حتى الآن 125 شهيداً و736 جريحاً.
هناك عدد هائل من الصور في أرشيف الوكالات، لا تسعه الصحف اليومية، للجوع المذل في غزة، ولطالما شعرنا بالأذى من تلك الصور التي يتراص فيها الغزيون، يتدافعون بمختلف شرائحهم وأعمارهم، أمام مطبخ خيري للحصول على ما يسدّ الرمق، وصولاً إلى صور محاولات الحصول على المساعدات، حيث الحشود تتراكض وتتدافع وتتلقى الرصاص، يغرقون في التراب يحفنون الطحين مع الرمل، وربما الدم.
«الشمس طالعة، والناس قاشعة» على ما يقول مثل شعبي، ومع ذلك يستطيع نتنياهو أن يكذب على الملأ، وبملء صوته، منكراً جوع الغزيين. مِمَّ وممّن سيخجل قاتل!
ولم الخجل إذا كان «المعلم» في البيت الأبيض، رئيس «أعظم» دولة في العالم يكذب في فيديو مُشاهَد ومعاد ملايين المرات في أرجاء المعمورة عندما يعرض صورة، هي لقطة شاشة من فيديو لوكالة «رويترز» صُوِّر في جمهورية الكونغو الديمقراطية، كجزء مما قال إنها “أدلة” على عمليات قتل جماعي لمواطنين بيض في جنوب أفريقيا. مرفقاً إياها بصورة مقال مطبوع، خلال اجتماع في المكتب البيضاوي مع الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامابوسا، قائلاً: «هؤلاء جميعاً مزارعون بيض يُدفنون».
وسرعان ما فضحت «رويترز»، صاحبة الفيديو الأصلي، الحقيقة حيث يصور الفيديو الأساسي عمالَ إغاثة وهم يرفعون أكياس جثث في مدينة جوما بالكونغو إثر معارك مع متمردي «حركة 23 مارس» التي تتلقى الدعم من رواندا.
هل كان الأمر محرجاً لسيد البيت الأبيض وإدارته؟ لا يبدو. إذ لطالما مرت أكاذيب وتزييفات مماثلة من الإدارة الأمريكية، في عهد هذا الرجل أو سواه، من دون أن تترك أثراً.
قبل فيديو نتنياهو كان هناك منظمة بريطانية تحمل اسم «محامون بريطانيون من أجل إسرائيل»، اعتبرت أن «تجويع سكان غزة وسيلة للقضاء على السُمنة التي كانت منتشرة بين السكان قبل الحرب».
صدرت التعليقات من المدير التنفيذي للمجموعة جوناثان تيرنر، وحسب صحيفة «الغارديان» البريطانية، فقد تحدث تيرنر عن «عوامل قد تؤدي إلى إطالة عمر سكان غزة، بالنظر إلى الوضع الصحي العام السائد في غزة قبل الحرب، بما في ذلك انتشار السمنة. عوامل تشمل الانخفاض المحتمل في توفر الحلويات والسجائر».
تخيل! إننا نتحدث عن تصريحات تدور في بريطانيا لا في بلد من بلدان العالم الذي يخصص مؤسسات تتعهد بالتزوير، على غرار «وزارة الحقيقة».
لا ندري إن كان بشار الأسد، رأس النظام السوري البائد المخلوع، استلهم تلك الأساليب، أو استعان بخبراء من بريطانيا وإسرائيل في التحايل على وقائع تجويع السوريين بطريقة تبدو أدهى، وإن لم تكن مجدية في الواقع. فقد كان بإمكانه أن يتنعّم وزوجته وشقيقه بمقدرات البلاد، وبمردود هائل من صناعة القتل والكبتاغون، فيما يبثون برامج للشعب تقول إن من الأفضل له أن يتخلّى عن أكل السكريات والخبز وسائر الكاربوهيدرات، وصولاً إلى الترويج لليوغا في البلاد وتغطيتها إعلامياً على نحو واسع، ربما للتحايل على آلام الجوع وأكاذيب النصر. بل والاستعانة بنجوم التمثيل السوريين لتقديم فقرات متلفزة من أسواق ومطاعم دمشق مبرزاً ورقة نقدية متواضعة جداً وتصويرها على أن بإمكانها شراء وجبة كافية لعائلة.
صور الجوع أكثر رسوخاً من إمكانية إنكارها ومحوها ببساطة
كان بإمكان بشار الأسد أن ينفي كذلك جوع السوريين، أن يقول، على غرار نتنياهو، إنه عندما اعتقل مئات الآلاف منهم لم يبدُ الجوع على أجسادهم عند تعريتهم. مع ذلك، كاد العالم يتسامح ويمرر أفظع مشاهد التجويع التي تقلع العين، في مضايا ومخيم اليرموك وسواهما.
لكن لماذا يجد نتنياهو نفسه معنياً بنفي جوع الغزيين، فيما لا يجد أي حرج بالقتل الوحشي الذي وصلت حصيلته اليوم إلى أكثر من 54927 شهيداً! بل وكذلك لم يشعر بأي حرج عندما أقرّ بتسليح عصابات نهب قتل وابتزاز ودعارة على أساس أنها ابتُدعت في مواجهة «حماس». لماذا تبدو مشاهد الجوع محرجة، فيما لا تفعل صور المجازر القتل!
لربما، في سبيل النصر المطلق على «حماس»، يحق لنتنياهو والعالم من ورائه أن يبيد شعباً، ويدمر مدنه، وفي وقت يبدو أنه يمد يد المساعدة ويبدد «أسطورة التجويع الممنهج» سيتسلّى بصور الغزيين اللاهثين خلف كراتين المساعدات هدايا لشعبه، تعويضاً عن صورة إسرائيل التي تتواصل بالاهتزاز في العالم.
صور الجوع، ونتائجه في الأساس، أكثر رسوخاً من إمكانية إنكارها ومحوها ببساطة. وغداً، عندما تنتهي الحرب، سيجد العالم وقتاً للتدقيق بألبوم الصور الرهيب، والفيديوهات، وربما يجد الوقت للاستماع مباشرة إلى شهود العيان، من سيتبقى منهم، ليروي واحدة من أفظع نكبات العصر.
لكن الآن، هناك ما لا يحتمل التأجيل إلى أي غد. لا وقت للتدقيق في تصريحات وأكاذيب. صور الدم على الطحين ساطعة، والدم لا يمكن أن يصبح خبزاً.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»