«كوروش التوراتي» أداةً سياسية!

«كوروش التوراتي» أداةً سياسية!
يوم الجمعة، 13 حزيران، وجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، رسالة مباشرة إلى الشعب الإيراني عبر حسابه الرسمي باللغة الإنكليزية على منصة «إكس»، حثّه فيها على الوقوف ضد ما وصفه بـ«نظام آيات الله». قال في رسالته: «إلى الشعب الإيراني الفخور، نحن الآن نخوض واحدة من أكبر العمليات العسكرية في التاريخ، وهي عملية “السيوف الحديدية”. النظام الإسلامي الذي قمعكم طوال ما يقارب الخمسين عاماً، يهدّد اليوم بتدمير إسرائيل. وكما قلت مراراً، فإنّ صراع إسرائيل ليس معكم، بل مع النظام الذي يضطهدكم ويفقركم. لقد كانت إيران وإسرائيل صديقتين منذ عهد كوروش الكبير، وحان الوقت لتتّحدوا تحت رايتكم وتراثكم التاريخي من أجل الدفاع عن حرّيتكم».
وفي مقطع مصوّر نُشر لاحقاً على صفحة «CBS News» على منصّة «فايسبوك»، كرّر نتنياهو دعوته الإيرانيين إلى «الوقوف ضد نظام شرير وقمعي». كما تابع تصريحاته في مقابلة مع قناة «14» الإسرائيلية بتاريخ 17 حزيران، حيث قال: «الملك كوروش حرّرنا نحن اليهود، وربما نحن الآن سنحرّر الفرس»، مشيراً إلى أنّ «80% من الشعب الإيراني يعارضون النظام، وكل ما نقوم به يُضعف قبضة خامنئي على السلطة».
يأتي هذا التوظيف الرمزي لشخصية كوروش ضمن سردية سياسية تهدف إلى إعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة، من خلال استدعاء رموز تاريخية ذات طابع ديني في لحظة صدام عسكري حادّ. فنتنياهو لا يكتفي هنا بالتصدّي لإيران عسكرياً، بل يسعى إلى كسب الرأي العام الإيراني عبر استحضار كوروش كـ«محرر تاريخي» يُفترض أنه كان صديقاً لليهود، في محاولة لربط الماضي التوراتي بالحاضر الجيوسياسي.
كوروش وأسطورة العودة
يروي سفر عزرا (1: 1 – 4) ما يُعرف في التراث اليهودي بـ«عودة السبي»، وهي لحظة محورية في تشكيل الهوية الدينية والسياسية لليهودية بعد النفي البابلي. وفقاً للسفر، فإنّ «الربّ نبّه روح كوروش ملك فارس» ليُصدر مرسوماً يسمح لليهود بالعودة إلى أورشليم وبناء «بيت الربّ». هذه الصياغة اللاهوتية تُضفي على كوروش طابعاً نبوياً، حيث يُقدَّم كأداة لتنفيذ إرادة الربّ، لا كملك فارسي يحمل مشروعاً سياسياً.
كما تؤكّد الرواية أن كوروش أعاد الأدوات المقدّسة التي نهبها نبوخذنصر، في مشهد يُعزّز رمزية استعادة الكرامة الدينية لليهود. لكنّ الوقائع التاريخية أكثر تعقيداً. فحسب ما ورد في عزرا (5: 14–16)، فإنّ العودة لم تكن شاملة بل جزئية ومحدودة، وقادها «شيشبصر» ثم «زربابل» و«يشوع» في عهد داريوس، لا كوروش.
محاولة نتنياهو إقحام كوروش في خطاب معاصر موجّه ضدّ إيران، وسط عملية عسكرية دامية، تكشف عن بعد أيديولوجي يُراد من خلاله إضفاء قداسة على التدخّلات الإسرائيلية في الشأن الإيراني
أمّا سفر إشعيا (45: 1– 5)، فيمنح كوروش لقب «مسيح الربّ»، وهي سابقة فريدة أن يُطلق هذا اللقب على غير يهودي. تُصوّر الآيات كوروش كمُخلّص إلهي، يُمكّن الربّ من السيطرة على الأمم لأجل شعبه المختار. لكنّ اللافت أنّ النصّ يُصرّح: «لقّبتك وأنت لا تعرفني»، ما يعكس توظيفاً سياسياً من الكهنة لإضفاء شرعية دينية على سلطة خارجية.
العودة الفعلية لم تتبلور إلا في عهد «أرتحشستا»، حيث أُرسل عزرا برفقة موارد وسلطات لبناء النظام الديني في يهوذا بإشراف فارسي. وأضاف نحميا لاحقاً مشروعاً لتحصين أورشليم، في دلالة على انتقال المشروع من الطقسي إلى التنظيمي والعسكري.
نقد الرواية التوراتية
رغم قوة الرواية الدينية، إلا أنها تفتقر إلى إثبات تاريخي حاسم. فشخصية كوروش كما تظهر في التوراة، خضعت لإعادة صياغة أدبية تخدم أهدافاً دينية وسياسية في زمن متأخّر، لا توثيقاً دقيقاً للواقع التاريخي.
الدلائل الأثرية المتاحة لا تدعم هذه الرواية، بل تكشف عن شُحّ النقوش، وغياب وثائق فارسية تؤكّد إصدار مرسوم خاصّ لليهود. وتشير أبحاث باحثين مثل الستر غراب، وفيم فسيليوس، وجون روجرسن، إلى أن سفر عزرا قد يكون اختلاقاً أدبياً، وأن نحميا بدوره تجاهل كلّياً وجود عزرا، ما يعزّز فرضية التناقض داخل النصوص ذاتها.
يُشكّك هؤلاء الباحثون أيضاً في صحّة «العودة من المنفى» التي تتصدّر الرواية التوراتية، ويعتبرونها سرديّة مشوّهة جُمعت بعد زمن طويل من وقوع الأحداث، وربما اختُلقت لتبرير سيطرة دينية جديدة.
هل هناك عودة لـ«يهود السبي البابلي»؟
بعد انتصار الملك الفارسي كوروش على البابليين عام 539 ق.م، أصدر مرسوماً يُعلن فيه منحه «حق العودة لشعوب جميع البلدان» التي سبى البابليون سكّانها. تقول الرواية التوراتية (في سفر عزرا) إنّ كوروش سمح لليهود بالعودة إلى فلسطين وإعادة بناء هيكلهم في القدس. لكن هل هذا ما حدث فعلاً؟
لا توجد وثيقة فارسية تثبت صدور مرسوم خاصّ باليهود كما هو وارد في سفر عزرا، بل يوجد فقط مرسوم عامّ يدعو لترحيل الشعوب إلى أوطانها. وفي هذا السياق يقول باولو ساخي إنّ الأسطوانة «أدّت إلى بعض الشكوك في تاريخية مرسوم كوروش لمصلحة اليهود. وفي الواقع، فإنه من المحتمل أنّ ذلك المرسوم لم يصدر قط».
أمّا غراب، فيذهب إلى أبعد من ذلك فهو بتحليله لنصّ المرسوم كما في سفر عزرا في ضوء سياسة الفرس المتّبعة بالنسبة إلى الأديان الأخرى غير الفارسية (كانوا يتسامحون مع العبادات المحلّية لكن لم يكونوا ليروّجوها) والإشارات إلى الأقوام الأخرى غير اليهود بأن يوفّروا الأموال والتجهيزات لأي شخص يريد الذهاب إلى القدس ليبني الهيكل، والتعبيرات الواردة في «المرسوم» المشتقة من اللاهوت اليهودي، يصل إلى نتيجة بأن المرسوم مرفوض وأن هناك كاتباً يهودياً اخترعه ليؤيّد وجهة نظره.
بل إنّ العودة لم تترك أي أثر ديموغرافي أو أثر واضح، ما يضع علامات استفهام حول ما إذا كان هناك فعلاً استيطان يهودي واسع في تلك المرحلة. ويشكّك نيلز بيتر لمكه في الرواية التوراتية عن العودة، وعن الفترة الفارسية، فـ«مهما كان الشعب الذي نُقل أو أعيد إلى فلسطين، فهم بالتأكيد لم يكونوا إسرائيليين».
في ضوء ذلك، فإنّ محاولة نتنياهو إقحام كوروش في خطاب معاصر موجّه ضدّ إيران، وسط عملية عسكرية دامية، تكشف عن بعد أيديولوجي يُراد من خلاله إضفاء قداسة على التدخّلات الإسرائيلية في الشأن الإيراني، ولا سيما من خلال الربط بين ما يُزعم أنه تحرّر يهودي قديم وما يُعرض كتحرير للشعب الإيراني من نظامه اليوم. وهنا يتحوّل كوروش من شخصية تاريخية إلى أداة سياسية في حرب تخاض بالمدافع والرموز في آن واحد.
* مؤرّخ فلسطيني
عن الاخبار