
المشهد الشرق اوسطي بعد الهجوم الامريكي
بقلم الدكتور وليد عبد الحي
لعل التوصيف الاكثر دقة لمسار السياسة الامريكية وتداعياتها في منطقتنا المنكوبة منذ وصول ترامب الى الرئاسة الامريكية هو مصطلح ” Unpredictable”( غير القابل للتنبؤ)، وانعكس هذا “اللايقين” في الادبيات السياسية الامريكية ذاتها ،بل واقره أغلب افراد النخب الاكاديمية الامريكية ذاتها ، فمنذ شروع ترامب في حروبه التجارية ضد الاعداء والحلفاء على حد سواء ، وتهديداته لسيادة الدول والمرافق البحرية من بنما الى قناة السويس، وترويجه لنفسه بانه “صانع السلام” ، فاننا لا نجد إلا مواقف ينتقل فيها ترامب من موقف الى نقيضه وخلال ساعات قليلة احيانا، فقد وعدنا بأن الحرب الأوكرانية ستنتهي بعد اليوم الاول لتوليه سلطاته، لكن الحرب بعد توليه سلطاته ازدادت اشتعالا، ولعل آخر مشهد لذلك هو قوله بانه يمهل ايران اسبوعين لاجراء تغير في سلوكها النووي وغير النووي، ولكنه هاجم ايران بعد يومين ، ويأتي هذا الهجوم بعد تقارير امريكية استخبارية بان ايران ليست على عتبة انتاج السلاح النووي، وبعد تأكيد ذلك من وكالة الطاقة النووية الدولية ، وبعد نقاش محتدم داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول من يعلن الحرب؟
وها نحن نستمع الآن الى ترامب يقول ” تم تدمير البرنامج النووي الايراني”، ويصف الهجوم بانه “رائع”، وهو امر يجب التعامل معه استنادا الى ان ترامب ينفخ في اي انجاز له ، ويغض النظر عن انتكاساته كما جرى في عقوباته الفاشلة تماما في حربه الجمركية على الصين .
إذن كيف ننظر للمشهد العام؟
أزعم ان المشهد يحتاج للتمييز بين الحدث والاتجاه الفرعي(Event and sub trend) وبين الاتجاه الاعظم(Mega-trend)، فالمشروع الامريكي الاسرائيلي في المنطقة يواجه بعض العثرات بين الحين والآخر ، وهذا هو الحدث والاتجاه الفرعي( محور المقاومة، تطور المشروع النووي الايراني، صدمة طوفان الاقصى، …الخ)، لكن الاتجاه الأعظم ، وهو الاهم من منظور استراتيجي يشير الى أن المسار يتحرك وبتراكم متذبذب باتجاه رسوخ متنامي للمشروع الصهيوامريكي بشكل خاص في المنطقة ، ويكفي النظر في بنية التحالفات الاسرائيلية مع العالم وبنية التحالفات العربية مع العالم ليتضح بأنه منذ 1967، تفككت التحالفات العربية تباعا، واتسع التطبيع مع اسرائيل بشكل متواصل وصولا الى قدر من التحالف العسكري غير المعلن مع اسرائيل ، وانهار الاتحاد السوفييتي ، وطغت النزعة البراغماتية على السياسة الصينية، وتعثر محور المقاومة بداية وصولا لتغييب اطرافه واحدا تلو الآخر، وانتقلت الادبيات السياسية العربية من تحرير فلسطين الى التوسل لوقف اطلاق النار في اية جبهة.
فإذا انتقلنا للتقييم الداخلي ، فان منطقة الشرق الاوسط هي الاعلى عالميا في عدم الاستقرار وفي الاستبداد وفي التخلف العلمي وفي الحروب الاهلية وفي الانفاق العسكري من اجمالي الناتج المحلي ، وهي متغيرات لا تصب الا لصالح تعزيز الاتجاه الأعظم الذي اشرنا له .
مشهد اللحظة:
تم الاعلان اليوم عن هجوم امريكي على ثلاث مراكز نووية ايرانية( مع تجنب المركز الذي يتواجد فيه الروس)، وهنا نلاحظ ان ترامب يؤكد اليوم حرفيا “انتهاء البرنامج النووي الايراني”، بينما ايران تشير إلى أن الاتجاه السائد في مركز قرارها كان ترجيح الهجوم الامريكي، لذلك فأنها نقلت اغلب مكونات هذه المراكز الحساسة قبل الضربة، وان قوة الانفجارات الناجمة عن الضربات الامريكية “محدودة” ،ولم يحدث أي تسرب اشعاعي، فاي المشهدين هو الاصح؟
من زاوية ترامب فالكذب والتباهي بأي فعل له اصبح احد مسلمات التحليل ، ولكن من زاوية مقابلة ،فان حجم الاختراق الامني في ايران لا يقل عن ما جرى في حزب الله بل وأكبر ،ومع ذلك يجري التهوين من شأنه ايرانيا ،وهو ما اتضح في تصيد النخبة القيادية العسكرية والعلمية الايرانية، ناهيك عن الاعلانات الايرانية المتلاحقة عن كشف العشرات من الخلايا المتعاونة مع الموساد للتجسس بل وفتح ورشات صناعة مسيرات وغيرها من العتاد العسكري ، وكل هذا يربك المحلل لانك لا تجد معيارا تطمئن له للتحليل في ظل هذه التضليلات من الطرفين ، وهو ما يدفعني الى العودة مرة اخرى للقاعدة وهي : لا تنشغل بالحدث والاتجاه الفرعي(وهذا لا يعني اهمالهما بل يعني عدم تضخيم دلالاتهما) ،بل يجب التركيز على الاتجاه الاعظم، وهو اتجاه يشير الى رسوخ متلاحق –رغم اي تعثر هنا وهناك – للمشروع الصهيوامريكي في المنطقة.
والوجه الآخر في الاتجاه الأعظم، هو استمرار التحول في الدور العربي،ويتجلى هذا التحول في انتقال الدول العربية كافة من دور اللاعب الى دور الملعب ، فاللاعب في المنطقة الآن هو الحلف الصهيوامريكي وايران وتركيا ،والصراع كله يدور في الملعب العربي، فمصر اصبحت هامشا للهامش نفسه، والعراق اصبحت دوله تائهة في توجهاتها نظرا للانشطار الداخلي، وسوريا منهارة سياسيا واقتصاديا وعسكريا وتقف على حافة الفوضى المطلقة تحت قيادة نظام يتوسل الامن بجهاز امني يعتمد بقدر ما على “الغرباء” من دراويش القاعدة وما شكالها، والمغرب العربي على موعد مع صراع قادم بين اطراف “اتحاده” المزعوم، اما الخليج فلا اعتقد انه بحاجة لشروح مستفيضة.
ان عدم اليقين هو السمة السائدة في تطورات الشرق الاوسط إذا تركز التحليل على الحدث والاتجاه الفرعي، لكنه اكثر وضوحا إذا كان التركيز على الاتجاه الاعظم، ولن يتغير المشهد إلا بانكسار هذا الاتجاه الاعظم ،وهو امر تراكمي ،لكني لا أرى مقدمات لذلك حتى هذه اللحظة، وان كان هناك مؤشرات قليلة واعدة تبقي الباب مواربا لمثل هذه النظرة، وهو موضوع سنعود له لاحقا لرصد معطياته…ربما.