فلسطين

غزة تواجه المجاعة ببدائل غذائية جديدة

غزة تواجه المجاعة ببدائل غذائية جديدة

لم تعد المائدة الغزّية كما عرفها الناس لسنوات طويلة. اختفت الخضروات، تلاشى الطحين، وغابت القهوة. في مكانها ظهرت وصفات جديدة، لم تُولد من مطبخ، بل من معاناة اشتدت قسوتها.

عبد الله يونس

في غزة، حيث صارت السماء تمطر ناراً، والأرض لا تُنبت سوى الرماد، لم يعد الجوع استثناءً بل صار القاعدة. في هذا الشريط المحاصَر بحراً وبراً وسماء، تتوالد المجاعة من رحم الحصار المستمر، وتتشكل يومياً على هيئة أطفال هزال، ونساء يطبخن ما لا يُؤكل، ورجال يطحنون ما لا يُطحن.

لم تعد المائدة الغزّية كما عرفها الناس لسنوات طويلة. اختفت الخضروات، تلاشى الطحين، وغابت القهوة. في مكانها ظهرت وصفات جديدة، لم تُولد من مطبخ، بل من معاناة اشتدت قسوتها منذ منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال الغذاء إلى غزة مطلع آذار/ مارس الماضي.

صار الأرز والمعكرونة يُسحقان لصناعة دقيق يسد الرمق. الحمص يُحمّص ويُغلى كبديل عن القهوة، والعدس يُسحق ويُمزج بالملح ليُصبح «دقة الفقراء». حتى حفاضات الأطفال لم تنجُ من المجاعة، فخاطتها الأمهات من أقمشة ممزقة مغسولة بماء البئر وأمل البقاء.

  • (أ ف ب)
    (أ ف ب)

ليست هذه ابتكارات من باب التنوّع، بل صرخات في وجه الحصار، ليست وصفات تقليدية، بل أدلة دامغة على أن من لا يموت بالقصف، يُطارد بالجوع.

الخبز من الأرز والمعكرونة

في خيمة ممزقة على أطراف منطقة المشتل غربي مدينة غزة، جلس نعيم أبو جبر، رجل في بداية الأربعينيات من عمره، يمسح عرقه المتصبب بعد أن انتهى لتوّه من إشعال موقد حجري داخل علبة صفيح قديمة. حوله تناثرت أوانٍ سوداء من دخان الحطب، وكيس بلاستيكي فيه خليط غير مألوف من الدقيق الأصفر.

يقول جبر، وهو أب لأربعة أطفال: «لدي فائض من الأرز والمعكرونة التي حصلت عليها قبل إغلاق معبر كرم أبو سالم في آذار الماضي، لكنها بلا فائدة إن لم أستطع تحويلها إلى شيء يُؤكل. لم ندخل خبزاً إلى خيمتنا منذ شهر».

فكّرت زوجته أن تطحن الأرز والمعكرونة يدويّاً، فبدأوا بعلبة حديدية مكسورة، يضربون الحبوب والحبيبات لساعات حتى تتحول إلى ما يشبه الطحين: «كنا نحطّمهما بحجر وننخل البودرة بقطعة شاش طبية، ثم نخلطها بالماء والملح وقليل من زيت قلي قديم. نخبزها على الصفيحة الساخنة، ونقسم كل رغيف إلى أربعة أجزاء».

حين سألناه عن الطعم، ضحك بحزن: «طعمها مثل ورق مبلول بالتراب. لكنها تشبع البطن الخاوية. أطفالي أكلوا بصمت، بلا اعتراض، كأنهم يعرفون أن الشكوى ممنوعة حين يجوع الجميع».

توقف قليلاً، ثم قال بصوت منخفض: «أصعب لحظة؟ عندما حاول ابني عبد الرحمن، عمره سبع سنوات، أن يطهو شيئاً بمفرده لأنني كنت نائماً من التعب. طحن المعكرونة بحجر وضرب نفسه وهو يبكي لأن العجين لم يتماسك. هل تتخيل طفلاً يبكي لأنه لا يعرف كيف يصنع رغيفاً؟».

  • (أ ف ب)
    (أ ف ب)

ينظر أبو جبر إلى الأفق، ثم يقول: «هذه المجاعة ليست غضباً من السماء. هي فعل بشري مدروس. إسرائيل تجوّعنا حتى نضعف وننهار أو نهاجر. لكنها لا تفهم شيئاً واحداً… نحن لا نأكل الذل. حتى لو طحنّا الحجارة وأكلناها، سنبقى هنا».

القهوة من الحمص وحفاضات قماشية

داخل أحد الصفوف الدراسية التي تحولت إلى مأوى للنازحين، في حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة، كانت أم ياسر عرفة تجلس أمام موقد حجري صغير تعدّ قهوتها الخاصة.
تقول عرفة لـ«الأخبار»، مع ابتسامة عريضة مرسومة على وجهها: «إنها ليست قهوة حقيقية، بل حمص محمّص ومطحون. لكننا نشربها لنقنع أنفسنا أن الحياة ما تزال ممكنة».

بدأت عرفة بتحميص حبوب الحمص التي حصلت عليها كمساعدة، ثم تطحنها على حجر، وتضيف إليها القليل من السكّر إذا توافر: «عندما نشربها نشعر بدفء داخلي، ربما هو وهم، لكننا نحتاج إلى هذا الوهم كي لا ننهار».

  • (أ ف ب)
    (أ ف ب)

تعاني عرفة من مشكلة أخرى: طفلتها الرضيعة لم تعد تملك حفاضات، «لم يعد هناك بامبرز، ولا مال لشرائه بعد أن تضاعف ثمن القطعة الواحدة منها عشرة أضاف، فصنعت لها حفاضات من قطع قماش قديمة، وأغسلها كل يوم».

تشير إلى خط الغسيل المعلق فوق رؤوسهم وتقول: «هذا هو مستقبلي الآن: طعام غريب، قهوة ليست قهوة، وقماش بدل حفاض. لكنني راضية، لأنني أقاوم».

«الدقة» الفلسطينية من العدس

في سوق أبو اسكندر في حي الشيخ رضوان، كان عبد الرحيم الكحلوت، وهو رجل في الخمسينات من عمره، يطحن مكونات غذائية تنتج خليطاً غريباً يشبه «الدقة» الفلسطينية، ويبتسم قائلاً: «هذه ليست دقة القمح، بل دقة العدس».

الكحلوت اعتاد تناول الدقة وزيت الزيتون في فطور كل صباح قبل الحرب. لكن منذ أشهر لم يتذوق الطعم الحقيقي للدقة بسبب عدم توافر القمح بشكل قاطع: «لدينا عدس، فقررت أن أحمصه، وأطحنه، وأضيف إليه الملح والسمسم. صار عندنا بديل للدقة».

يرى الكحلوت أن هذا النمط الغذائي ليس جديداً فقط، بل ثوري، ويعكس إرادة الناس على التكيّف مع أسوأ الظروف، فيوضح: «نحن لا نعيش، نحن نقاوم بالمعلقة والملح. كل لقمة نبتكرها هي رفض للموت».

يؤمن الرجل أن ما يحدث لا يقتصر على توفير الطعام، بل هو معركة وعي: «يريدوننا أن نتقاتل على المساعدات، أن نسرق ونذل بعضنا. لكننا سنرد بابتكار بدائلنا، بكرامتنا، حتى من العدس».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب