مقالات

عن الخفة في ارتكاب القتل واستباحة المنطقة

عن الخفة في ارتكاب القتل واستباحة المنطقة

عوض عبد الفتاح

نحن أمام حالة مستمرة من الاستسهال الإجرامي، كأن الحرب باتت لعبة نارية في يد صبيان مهووسين بالدم والسيطرة. والمنطقة تقف، من جديد، على شفير مجزرة أميركية – غربية – صهيونية شاملة، ستكون الرابعة أو الخامسة خلال أقل من ثلاثين عامًا

مهما بلغت حدّة الخلافات مع القيادة الإيرانية، ومهما تباينت المواقف من سياساتها، فهي ليست انفعالية، حذرة في حساباتها، تدير صراعاتها الإقليمية بدراية سياسية وبراغماتية محسوبة، رغم مرجعيتها الأيديولوجية. إيران، حتى لو امتلكت السلاح النووي، لا تُقدِم على استخدامه، لا ضد إسرائيل ولا ضد أي جهة أخرى، لأن ذلك سيكون انتحارًا جماعيًا لدولة إقليمية عريقة ذات مئة مليون نسمة وتاريخ حضاري ضارب في الجذور.

مشروع إيران الإقليمي ليس خافيًا على أحد، وبرنامجها النووي، كما تؤكد مرارًا، هدفه مدني تنموي ضمن استراتيجيتها العلمية والتكنولوجية. والغرب يعلم ذلك، وإسرائيل تدركه جيدًا في قرارة ذاتها، لكنها توظف الأكاذيب والمخاوف المصطنعة كغطاء لنهجها التوسعي، ولسعيها إلى التفرد في الهيمنة على المنطقة وتصفية قضية فلسطين.

إن هذا الغرب المأزوم أخلاقيًا، المسكون بعقلية الهيمنة والكراهية البنيوية للعرب والمسلمين، لا يتحمّل فكرة وجود دولة شرقية تمتلك الاستقلال والسيادة على قرارها. إسرائيل بنظره ليست دولة عادية، بل قلعة متقدمة للهيمنة الغربية، تؤدي “الدور القذر” – كما اعترف بوقاحة المستشار الألماني الجديد، ميرتس – نيابة عن قادة أوروبا المرتجفين خلف أقنعتهم الزائفة.

ولسان حال الكثيرين من أهل المنطقة يقول: كفّوا شركم عن فلسطين وشعبها، واعترفوا بحقوق شعبها، فلن يكون هناك من يتبنّى هذه القضية، صدقًا أو ادعاءً.

لا تكمن الفظاعة في شنّ حرب فحسب، بل أيضًا في هذه “الخفّة المرضية” في اتخاذ قرار الحرب، وتكراره، في المنطقة نفسها، وعلى الشعوب ذاتها، دون اكتراث بالتاريخ أو المستقبل.

نحن أمام حالة مستمرة من الاستسهال الإجرامي، كأن الحرب باتت لعبة نارية في يد صبيان مهووسين بالدم والسيطرة. والمنطقة تقف، من جديد، على شفير مجزرة أميركية – غربية – صهيونية شاملة، ستكون الرابعة أو الخامسة خلال أقل من ثلاثين عامًا، ولا أحد يملك جوابًا عن مآلاتها.

أي عقل يمكنه استيعاب هذه القفزة المروّعة من جحيم غزّة، حيث يُباد الأطفال والنساء والأمهات والآباء من دون حساب، إلى حرب عدوانية على دولة ذات سيادة كانت في مفاوضات مع الولايات المتحدة؟ أي قانون دولي هذا الذي يُداس عليه بهذا الشكل؟ وأي ضمير تبقّى في عالم يسمح بتوسيع دائرة النار والموت هكذا ببساطة؟

الصدمة تتعمّق بين شعوب أوروبا وأميركا، حيث انخرطت غالبية حكوماتها – بخفة مشينة – في جوقة تأييد لإسرائيل من دون مساءلة، وحتى من دون محاولة حفظ ماء وجه. يُقلب المنطق، وتُغتصب اللغة: العدوان الصهيوني يُسوّق كدفاع عن النفس، فيما يُجرّم ردّ المعتدى عليه.

وفي شوارع أوروبا، وأمام وجوه ناشطي التضامن ورافضي الحرب والاستعمار، ترى الغضب ممتزجًا بالمرارة والذهول. كيف يمكن الرد على آلة القتل هذه؟ ما الذي يمكن فعله وسط كل هذا التواطؤ والتخاذل؟ الواقع لا يشي فقط بتجدّد الحروب الإمبريالية، بل بتصاعد نزعة القتل العلني بلا خجل أو عقاب، وبانكماش فضاء الحريات، حتى داخل قلب الديمقراطيات الغربية ذاتها.

تحكم اليوم أوليغاركيات عدوانية، فاقدة لعمود فقري أخلاقي، مهووسة بالقمع، لا تطيق الاختلاف، حتى لو جاء من داخل شعوبها. حتى اليهود المناهضون للصهيونية لا يسلمون من بطشها – كما كشفت محاضرة وناشطة إسرائيلية خلال مؤتمر في العاصمة النمساوية أواسط هذا الشهر، عمّا فعلته بها الشرطة الألمانية من عنف جسدي.

الذين يقاومون بالمعرفة والكلمة والحراك الشعبي يدركون أن هذا التوحش المتزايد لا يدل على الثقة، بل على أزمة وجودية، على تآكل عميق في المنظومة الأخلاقية والقانونية التي طالما تشدّقت بها هذه الدول. نحن نشهد بداية انهيار تدريجي، يرصد تفاصيله الباحثون بقلق منذ سنوات، وهذا ما يقلق شعوب هذه الدول وحركاتها التقدمية ومثقفوها الأحرار.

ولهذا، لا تخرج الشعوب إلى الميادين دفاعًا عن حركة حماس، ولا عن النظام الإيراني، وليس فقط دفاعًا عن فلسطين، بل دفاعًا عن البشر، عن الضحايا، عن العدالة، عن كرامة الإنسان أينما كان. ولذلك ليس غريبًا أن يوقّع عدد من مثقفي إيران المعارضين بيانات صريحة تندد بالعدوان الإسرائيلي – الأميركي على بلدهم.

فالشعوب الحيّة تعلم أن فلسطين لم تعد مجرد قضية وطنية، بل أصبحت رمزًا للعدالة الكونية. والعدوان على إيران ليس بسبب نظامها، بل لأن إسرائيل وأميركا والغرب يرون فيها العقبة الأخيرة في وجه مشروع التطبيع الكامل والهيمنة المطلقة. إسرائيل، بدعم من الغرب، تعتقد أن القضاء على إيران سيمهّد لتصفية قضية فلسطين نهائيًا.

لكنهم يجهلون أن العقبة الأكبر ليست إيران، بل شعب فلسطين. هذا الشعب، في الوطن وفي المنافي، في وجه المجازر وفي ميادين العالم، هو الحاجز الأخلاقي والسياسي الذي لا يمكن تجاوزه. هو الصوت الذي لا يمكن إسكاته، والحق الذي لا يُمحى.

شعب فلسطين كان هنا وسيبقى. وشعوب المنطقة باقية مهما حاولوا اقتلاعها. أمّا المعتدون، فإما أن يتصالحوا مع قيم العدالة والمساواة، أو يسقطوا سقوطًا مدوّيًا في مزابل التاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب