
حدث لم يأخذ نصيبه
بقلم الدكتور وليد عبد الحي
عندما تم الاعلان عن نقل تبعية اسرائيل من القيادة الوسطى الاوروبية للقوات الامريكية (EUCOM) لتبعيتها للقيادة المركزية الامريكية (CENTCOM) في يناير 2021، كتبت اكثر من مقال عن خطورة ودلالات ذلك ، ولكن لقد اسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي.
تدير القوات الامريكية في الخارج اربعة مراكز اساسية هي :القيادة الاوروبية، والمركزية،والافريقية، والهندية الباسيفيكية، ونظرا لعدم وجود اية علاقات اسرائيلية عربية حتى عام 1979، كانت اسرائيل تابعة تنظيميا للقيادة الاوروبية، لان المقاطعة العربية في تلك الفترة تحول دون قيام اي تنسيق عربي امريكي اسرائيلي.
ومع نجاح الثورة الايرانية وبداية استقرارها، بدأت تطل علينا مقالات ودراسات حول جدوى ارتباط اسرائيل بالقيادة الاوروبية وضرورة التفكير في إعادة تموضعها ، وكان لانفجار الثورة الايرانية الدور الابرز في تنامي العناية بالموضوع بخاصة من الطرف الامريكي والاسرائيلي لا سيما بعد فشل التدخل الامريكي (زمن كارتر) لانقاذ الرهائن الامريكيين بعد السيطرة على السفارة الامريكية، وقيام ايران بخلع السفارة الاسرائيلية واستبدالها بسفارة فلسطين.
شكل التفكير الاستراتيجي لاجهاض الثورة الايرانية الهاجس المركزي للعقل الامريكي ، وتم طرح مشروع “الاحتواء المزدوج”، من خلال تغذية طرفي الصراع العراقي الايراني لتحطيم بعضهما البعض ، ثم الانفراد بكل منهما بعد ان يكون قد تم انهاكه، وبالتالي فان “الاحتواء المزدوج ” هو التعبير المهذب عن “الخنق المزدوج”.
وفي تلك اللحظة ايضا بدأت دراسات اسرائيلية تدور حول فكرة محددة هي: كيف يمكن المساهمة في توسيع دائرة التطبيع العربي معها من ناحية والاجهاض على كل مشروع يحول دون ذلك (ولا داعي التذكير بمشاريع شيمون بيريز ،وغيره الكثير)، وتقول تلك الدراسات ان اي تخطيط دون التنسيق مع الولايات المتحدة لن يكون مثمرا، وهو ما يستوجب تأطير العلاقة الميدانية بين اسرائيل وامريكا في الساحة الشرق اوسطية بعد الثغرة التي فتحها السادات ثم اوسلو ووادي عربة وصولا الى اتفاقيات ابراهام(2020) واللقاء بين نيتنياهو والرئيس السوداني عبدالفتاح البرهان في عنتيبي ناهيك عن الترحيب المغربي بانفتاح سري منذ 1962 وصولا للانفتاح العلني لاحقا ، مما جعل التنسيق بين قوى التطبيع واسرائيل يتم بشكل رسمي لكنه بحاجة لاطار تنظيمي يسيره، فكان الانتقال الاسرائيلي للقيادة المركزية.
تغطي صلاحيات القيادة المركزية كل آسيا العربية + مصر + ايران+اسرائيل ، وما يجمع كل هؤلاء هو الرغبة في التخلص من “الخطر الايراني”، ويتم ذلك بالتعاون الامني والاستخباري ، وزيادة التدريبات المشتركة ، وتطويق اي تمدد ايراني، ثم التنسيق لاحقا في اية عمليات عسكرية ضد ايران سواء بتعزيز الردع المشترك لها او توسيع التعاون في مجالات التعاون الاستخباراتي والدفاع الصاروخي والدفاع الجوي وشبكات الانذار.
ترافق مع هذه الادبيات السياسية حينها الترويج لفكرة “الناتو العربي”، وهو ما كان تجسيدا للخطة التي طرحها المندوب الامريكي في الناتو نيكولاس بيرنز في مؤتمر براغ عام 2003، والذي قال فيه حرفيا “على الناتو ان يوسع دائرة عمله الى الجنوب(شمال افريقيا) والشرق(آىسيا العربية)، وهنا لا بد من ملاحظة هي ان القيادتين الاوروبية والباسيفيكية موجودتان منذ 1952 و 1947(على التوالي) بينما القيادة المركزية تم انشاؤها 1983 بعد الثورة الايرانية والحرب العراقية الايرانية ،ولحقت بها القيادة الافريقية(2008)،اي بعد مشروع بيرنز(تمدد الناتو جنوبا) بخمس سنوات.
ومن هنا يجب رؤية الصورة الاوسع للمشهد الصراعي، فالقيادات الامريكية الميدانية ذات بعدين هما القيادات الموحدة الاقليمية (وعددها 6) تغطي مناطق العالم المختلفة ، اضافة الى اربع قيادات وظيفية لها ميادين متخصصة وغير مرتبطة بجغرافيا معينة (مثل القيادة الفضائية، السيبرانية، القيادة الاستراتيجية..الخ).
وعند النظر في خلفية قائد القيادة المركزية الامريكية الحالي وهو (مايكل كوريلا) نجد ان اهم مساهماته القتالية كانت في حرب الخليج وفي العراق تحديدا وفي افغانستان وسوريا ، وهو من وضع خطة عملية ” Midnight Hammer” التي استهدفت المنشئات النووية الايرانية الثلاث أمس، ولا يمكن ان يضع هذا القائد المحترف هذه الخطة بعيدا عن شركاء القيادة المركزية في المنطقة.
ذلك يعني ان تحليل الحدث الايراني الحالي لا يجوز ان يكون مقطوعا عن سياقه الممتد منذ 46 سنة، فتغيير النظام الايراني وضمان امن اسرائيل من خلال ابقاء المنطقة العربية في حالة من الضعف والتبعية الميدانية العسكرية والامنية لتمتنع عن اي غواية لمصارعة اسرائيل مستقبلا، هي الاسس الاستراتيجية الامريكية لتطويق التمدد الاقتصادي والتقني الصيني من ناحية والتمدد الروسي الامني الدفاعي من ناحية اخرى ، ويتم التنسيق لانجاز ذلك بين القيادة المركزية التي يتبعها العرب واسرائيل وبين بقية القيادات الامريكية التي اشرت لها ،لاجهاض الشراكات الاستراتيجية بين ايران وكل من روسيا والصين في الحد الادنى والتخلص من النظام الايراني في الحد الاعلى.
في عام 2013، نشرت دراسة وافية حول استراتيجية الاختراق للنظام الاقليمي العربي واعادة تشكيله ، ولا أجد في ما يجري حاليا اي تباعد بين ما نشرته وما يجري ، لكننا “لا نستبين الرشد الا ضحى الغد”، ..ربما.