
الجوائز الأدبية… الرقابة الذاتية وآليات الهيمنة الناعمة

محمد سعيد أحجيوج
تشكل الرقابة الذاتية، في تجلياتها المتعددة والمعقدة، أخطر أشكال السيطرة على الفكر والإبداع في العصر الحديث، ليس لكونها تمثل انتهاكا صارخا لحرية التعبير فحسب، بل لأنها تحوّل الضحية إلى شريك فعّال في عملية تقييد حريتها الخاصة.
إن ما يجعل هذا الشكل من أشكال الهيمنة استثنائيا في دهائه وفاعليته، هو قدرته على التسلل إلى أعماق الوعي، ليس كقوة خارجية قاهرة تفرض نفسها بالإكراه المباشر، بل كعملية تحويل تدريجية تحوّل القيود الخارجية إلى قناعات داخلية، والحدود المفروضة إلى معايير ذاتية، حتى يصبح الفرد حارسا أمينا على سجن لم يبنِه بيديه، لكنه تعلّم أن يعتبره موطنا آمنا لا تجوز مغادرته.
إن تشريح هذه الظاهرة يكشف عن نوعين متداخلين من الرقابة الذاتية، أولهما، وهو الأكثر وضوحا والأسهل رصدا، يتجلى في تلك اللحظات التي يتخذ فيها المبدع، سواء كان كاتبا أو صحافيا، أو غير ذلك، قرارا واعيا ومدروسا بتجنب موضوعات معينة، أو تبني مقاربات محددة في عمله، ليس بناء على قناعاته الفكرية أو رؤيته الجمالية، بل استجابة لحسابات براغماتية تتعلق بالمصلحة الشخصية أو المهنية. هذا القرار، رغم كونه واعيا ومقصودا، لا يخلو من المرارة والتعقيد النفسي، فالمبدع يجد نفسه محاصرا بين رغبته في التعبير الحر عن رؤيته للعالم، وضرورات العيش والبقاء في مجتمع تحكمه قواعد لعبة لم يضعها هو، لكنه مضطر للتكيّف معها.
غير أن النوع الثاني هو الأخطر والأعمق أثرا، وهو ذلك الذي تصبح فيه عملية الرقابة عملية لاواعية، تتم دون تدخل مباشر من الإرادة الواعية للفرد. في هذا المستوى، لا يعود المبدع يمارس رقابة مقصودة على نفسه، بل يجد نفسه مدفوعا بآلية داخلية خفية تصرفه تلقائيا عن المناطق المحظورة دون أن يشعر بفعل الصَّرفة. إنه نوع من البوصلة الداخلية التي تتشكل عبر عملية طويلة من التكييف الاجتماعي والثقافي، إن لم نقل التدجين، حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من بنية الوعي الفردي. هذه البوصلة لا تعمل عبر الأوامر والنواهي الصريحة، بل عبر نظام معقد من الإشارات والإيحاءات والتوقعات الضمنية، التي تشكل خريطة ذهنية للمساحات الآمنة والمساحات الخطيرة في عالم الإبداع والفكر. إن الانتصار الحقيقي لأي نظام سلطوي، مهما كانت طبيعته الأيديولوجية أو أساليبه في ممارسة الهيمنة، لا يكمن في قدرته على إسكات المعارضين، أو منع الأصوات النشاز من الوصول إلى الجمهور، رغم أهمية هذه الإجراءات في تثبيت أركان السلطة. الانتصار الأعظم يتحقق عندما يتمكن النظام من زرع آليات الرقابة الذاتية في أعماق الوعي، بحيث تصبح الغالبية العظمى من الفئة المنتِجة تراقب نفسها بنفسها، وتتولى مهمة تنظيم سلوكها الفكري والإبداعي، وفقا للمعايير التي يضعها النظام، دون الحاجة إلى تدخل مباشر من أجهزة الرقابة الرسمية. في هذه المرحلة، يتحول النظام من مؤسسة قمعٍ مباشر تستنزف طاقاتها، في مراقبة الأفراد والتصدي لمحاولات خرق القواعد، إلى منظومة هيمنة ناعمة تدير نفسها بنفسها، حيث يتولى كل فرد مهمة الحراسة على نفسه وعلى الآخرين من حوله. هذا التحول من الهيمنة القسرية إلى الهيمنة الناعمة، يمثل قمة التطور في استراتيجيات السيطرة للأنظمة السلطوية، لأنه يحقق أقصى درجات الفعالية بأقل قدر من الكلفة، ويضمن استقرار النظام واستمراريته بطريقة تبدو طبيعية وتلقائية. الأفراد الذين يمارسون هذا النوع من الرقابة الذاتية لا يشعرون بأنهم مقيدون أو مقموعون، بل يعتقدون أنهم يتصرفون، وفقا لقناعاتهم الشخصية، وحسهم النقدي المستقل. هذا الوهم بالحرية، في ظل واقع الهيمنة الخفية، هو ما يجعل هذا النوع من السيطرة أكثر الأنواع خطورة ومقاومة للتفكيك أو التجاوز.
لفهم كيفية عمل هذه الآلية في الواقع الملموس، يمكننا التوقف عند مثال بالغ الدلالة من واقع الحياة الثقافية العربية المعاصرة، وهو منظومة الجوائز الأدبية الكبرى وما يحيط بها من جدل مستمر حول النزاهة والشفافية. إن المراقب للمشهد الثقافي العربي لا يمكن أن يغفل عن حديث يتردد بإلحاح في الأوساط الأدبية والنقدية، حديث ينطلق همسا أحيانا ويُجهر به في أحيان أخرى، حول غياب المعايير الموضوعية في عملية الاختيار، وتدخل اعتبارات غير أدبية في تحديد الفائزين. هذا الحديث، رغم انتشاره الواسع وتداوله المستمر، يبقى في معظم الأحيان في دائرة الشك والظن والاتهامات غير المؤكدة، دون أن يصل إلى مستوى الإثبات القاطع أو التوثيق الدقيق. المفارقة المثيرة للاهتمام في هذا السياق، تكمن في أن معظم الشخصيات المرموقة والموثوقة، التي شاركت في لجان التحكيم لهذه الجوائز، عندما تُستطلع آراؤها حول هذا الموضوع، تنفي بشكل قاطع وجود أي تدخل مباشر في قراراتها أو ضغوط صريحة مورست عليها، لتوجيه اختياراتها في اتجاه معين. وأغلب الظن أن هذه الشهادات صادقة وموثوقة، فهؤلاء الأشخاص، بحكم مكانتهم الثقافية ومصداقيتهم المهنية، لا يمكن اتهامهم بالكذب أو التضليل المقصود. لكن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كانت قراراتهم حرة فعلا؟ وإلى أي مدى يمكن القول إن اختياراتهم تمت في إطار من الاستقلالية التامة، بعيدا عن أي تأثير أو توجيه خارجي؟
إن التحليل الدقيق لهذه الظاهرة يكشف عن وجود شبكة معقدة من التأثيرات والضغوط غير المباشرة، التي تعمل على تشكيل قرارات المحكمين، دون أن تتخذ شكل الأوامر الصريحة، أو التوجيهات المباشرة. هذه التأثيرات تنقسم إلى عدة مستويات متداخلة، يتطلب فهم كل منها تحليلا منفصلا لآلياته وأساليب عمله. المستوى الأول يتعلق بما يمكن تسميته هندسة لجان التحكيم، وهي عملية انتقاء أعضاء اللجنة، وفقا لمعايير مدروسة تضمن الحصول على النتائج المرغوبة دون الحاجة إلى التدخل المباشر في عملية التقييم. هذا الانتقاء لا يتم بناء على الكفاءة المهنية والمصداقية الأكاديمية فحسب، بل يأخذ في الاعتبار أيضا التوجهات الفكرية والجمالية للمرشحين، ومدى انسجامها مع الرؤية العامة للجهة المنظمة للجائزة. من خلال اختيار شخصيات معروفة بحذرها تجاه قضايا معينة، أو بانحيازها لمدارس فكرية وجمالية محددة، لا تتعارض مع السياسات العامة للجهة المانحة، يمكن ضمان نوع من الفلترة الأولية، التي تحد من احتمالات وصول الأعمال غير المرغوب فيها إلى القائمة النهائية للفائزين. هذه العملية تتم بطريقة علمية ومدروسة، تأخذ في الاعتبار السجل الماضي لكل مرشح للجنة التحكيم، ومواقفه المعلنة، وشبكة علاقاته، ونوع الأعمال التي يميل إلى تقديرها والترويج لها في كتاباته النقدية، أو تصريحاته العامة. لكن المستوى الأهم والأكثر تعقيدا في هذه المنظومة هو ديناميكية الدولة الراعية والتبعية الثقافية، وهي آلية بالغة الدهاء والفاعلية في تشكيل السلوك الثقافي والفكري للمثقفين والمبدعين.
معظم الجوائز الأدبية الكبرى في المنطقة العربية تنشأ وتُموَّل من قبل دول أو مؤسسات تلعب دورا مهما في رعاية الأنشطة الثقافية على نطاق واسع، لا يقتصر على الجوائز الأدبية فحسب، بل يمتد ليشمل طيفا واسعا من الفعاليات والمشاريع الثقافية: المؤتمرات الأكاديمية، المهرجانات الأدبية، معارض الكتب، برامج الدعم والمنح للكتّاب والباحثين، تمويل دور النشر والمجلات الثقافية، ودعم مشاريع الترجمة.
هذا الدور الواسع في رعاية الثقافة، الذي يبدو في ظاهره عملا خيريا وخدمة للثقافة العربية، يخلق في الواقع نوعا من التبعية الثقافية والاقتصادية لدى شريحة واسعة من المثقفين والمبدعين تجاه هذه الجهات المانحة. هذه التبعية لا تأخذ شكل العمالة الفجة أو الولاء السياسي المباشر، بل تتخذ أشكالا أكثر نعومة وتعقيدا، تبدأ بتكوين مشاعر الامتنان والتقدير تجاه الجهات المانحة، وتتطور تدريجيا لتصبح نوعا من الحساسية الأخلاقية تجاه أي موقف أو عمل، قد يُفهم على أنه نوع من نكران الجميل أو عضّ اليد التي تطعمك. هذه الحساسية تتحول بمرور الوقت إلى نوع من الرقابة الذاتية التلقائية، حيث يطوّر المثقف أو المبدع المستفيد من هذا الدعم، رادارا داخليا حساسا يلتقط الإشارات الخفية حول ما يُرضي الجهات المانحة، وما قد يُغضبها، وما يُعتبر مقبولا في إطار هذه العلاقة، وما يُعتبر خروجا عن حدود اللياقة والأدب. هذا الرادار لا يعمل عبر تعليمات واضحة أو توجيهات صريحة، بل عبر قراءة دقيقة للسياق العام، ومراقبة ردود الأفعال على المواقف والأعمال المختلفة، واستنباط القواعد الضمنية التي تحكم هذه العلاقة المعقدة بين المانح والمستفيد.
النتيجة النهائية لهذه العملية تشكل ما يمكن تسميته بالذوق الآمن، أو المعايير المنضبطة لدى المحكمين، وهي معايير تبدو أكاديمية وموضوعية في ظاهرها، لكنها في جوهرها محكومة بسقف غير مرئي من الاعتبارات السياسية والثقافية، التي تحد من مساحة الحرية الفعلية في الاختيار. هؤلاء المحكمون، الذين قد يكونون صادقين تماما في نفي تعرضهم لأي ضغوط مباشرة، يمارسون رقابة ذاتية دقيقة وفعّالة، ليس لأن أحدا أمرهم بذلك، بل لأنهم يعرفون، غالبا ضمنيا وبشكل غير واع، ما هو المناسب وما هو المطلوب. اختياراتهم التي تبدو حرة وتلقائية هي في الحقيقة محكومة بمنطق خفي يحدد مسبقا نوع الأعمال التي يمكن أن تصل إلى المراتب الأولى، ونوع الأعمال التي ستُستبعد تلقائيا باعتبارها غير مناسبة أو مثيرة للجدل أو تتحدى معايير المعتمد الأدبي.
إن هذا الشكل من أشكال الهيمنة الناعمة، الذي يعتمد على استبطان القيود وتحويلها إلى رقابة ذاتية طوعية، يمثل تطورا نوعيا في استراتيجيات السيطرة الثقافية، لأنه يحقق أقصى درجات الفعالية، مع الحفاظ على مظاهر الحرية والاستقلالية. الضحايا في هذه المنظومة لا يشعرون بأنهم ضحايا، بل يعتقدون أنهم شركاء فاعلون في عملية اتخاذ القرار. هذا الوهم بالمشاركة، في ظل واقع التلاعب الخفي، هو ما يجعل هذا النوع من الهيمنة أكثر خطورة من أشكال القمع التقليدية، لأنه يحول دون تشكل وعي نقدي حقيقي بطبيعة القيود المفروضة، ويمنع بالتالي تطوير استراتيجيات مقاومة فعّالة.
هذا التحليل لآليات الرقابة الذاتية في مجال الجوائز الأدبية يمكن تعميمه على مجالات أخرى واسعة من الحياة الثقافية والفكرية، من الإعلام إلى البحث الأكاديمي، ومن الفن إلى النقد، حيث تعمل الآليات نفسها بأشكال متنوعة ومتطورة. التحدي الأكبر الذي يواجه المثقفين والمبدعين في هذا السياق هو تطوير وعي نقدي عميق بهذه الآليات، والعمل على تطوير استراتيجيات مقاومة تأخذ في الاعتبار الطبيعة المعقدة والخفية لهذه الأشكال الجديدة من الهيمنة.
(*) روائي مغربي حائز جوائز أدبية، ومؤلف لروايات بارزة مثل «كافكا في طنجة»، «أحجية إدمون عمران المالح»، «متاهة الأوهام»، و»ليل طنجة». تتميز أعماله باستكشاف الهوية والذاكرة وآليات الهيمنة، والغوص عميقا في ثيمات غير مألوفة في الأدب العربي، بأسلوب سردي مبتكر. تُرجمت نصوصه إلى عدة لغات وحازت تقديرا نقديا وأكاديميا واسعا.