مقالات

حرب الغرب على الشرق

حرب الغرب على الشرق

أيهم السهلي

منذ بداية حرب أكتوبر 2023، والهجوم الإسرائيلي الذي نعيش وحشيّته حتى اليوم، وأنا أسأل نفسي السؤال ذاته، هل لو كان على رأس الحكم في إسرائيل شخص آخر غير بنيامين نتنياهو، لكانت الوحشية الإسرائيلية ستكون أقل، أو أشكالها مختلفة؟

الإجابة تبدو بالنسبة إليّ واضحة في كل مرة، وهي لا كبيرة، ونعم أكبر، وللإجابتين ما يبرّرهما. إنّ نتنياهو العالق في جلباب أبيه، وفي عباءة جابوتنسكي، أقرانه من السياسيين الإسرائيليين عالقون في جلابيب مماثلة، لا تقلّ وحشيّة عن أفكار صاحب «الجدار الحديدي»، وصاحب النظرة الاستعلائية الإلغائية للشرق وثقافته ووجوده ككل. جلابيب الساسة في إسرائيل، متوارثة، ومع كل جيل جديد، يعلق عليها شيء جديد، ينتقل إلى الجيل التالي، وهكذا، حتى وصلنا إلى الحاليّين الذين يحكمون إسرائيل.

ومنذ الأوائل، قبل أكثر من 77 عاماً، أي قبل «إعلان الاستقلال» ونكبة فلسطين عام 1948، كانوا يدرسون كل خطوة سينجزونها، بدءاً بثيودور هرتزل، الذي يقول في كتابه «دولة اليهود»: «إنّ الخطّة، وهي بسيطة في تصميمها معقّدة في تنفيذها، سوف تقوم بها مؤسّستان: جمعية اليهود والشركة اليهودية. سوف تقوم جمعية اليهود بالأعمال التمهيدية في مجالَي العلم والسياسة، ثم تقوم الشركة اليهودية في ما بعد بتطبيقها عملياً. سوف تنظر الشركة اليهودية في تحقيق المصالح المالية لليهود الراحلين، وسوف تنظّم الاقتصاد والتجارة في الدولة الجديدة».

ويكمل موضحاً أنّ رحيل اليهود عن بلادهم التي يعيشون فيها، سيكون تدريجياً ومستمراً على مدى عقود من الزمن. والمتابع لبدء وجود اليهود في فلسطين من أواخر القرن التاسع عشر، يدرك أنّ «الخطّة» التي تحدّث عنها هرتزل، نفّذت. ويدرك أيضاً، ما كتبه هذا الصحافي الذي ينسب إليه تأسيس الحركة الصهيونية، في تفصيله لمن عليهم الرحيل أولاً نحو البلد المختار لإقامة «الدولة»، فاعتبر أنّ أول الراحلين يجب أن يكونوا «الأكثر فقراً لزراعة الأرض، وفي إطار خطّة سبق تصميمها، سوف ينشئون الطرق والجسور، والسكك الحديدية والتلغراف، واستثمار الأنهار، وبناء مساكنهم، وسيخلق عملهم هذه التجارة، وستخلق التجارة الأسواق، وسوف تجذب الأسواق مستوطنين جدد، لأنّ كل واحد منهم سيذهب مختاراً على حسابه الخاص، وسيأخذ المخاطرة على عاتقه».

بعد الحرب على إيران، ورؤية الصورة واضحة من إسرائيل، بعد ضرب أبنية في مدنها الكبرى، وفي درّة التاج (تل أبيب)، إنّ فعلاً جديداً سيخرج من إسرائيل والغرب معاً، لإعادة «ترويض» وعي المنطقة الذي اشتغلوا عليه بالنار على مدى العامين السابقين

التخطيط الإسرائيلي انتقل من المؤسّسين إلى التابعين، بن غورين وغيره، وتلامذته الذين حكموا إسرائيل، ومكّنوا دعائمها، وحافظوا على الفوقية والاستعلاء على الآخرين، حتى داخل المجتمع الوليد في الدولة الوليدة، فكما قال هرتزل عن رحيل الفقراء أولاً، فعل ورثته في إسرائيل، فعومل اليهود غير الغربيّين، معاملة أقل، وأحياناً دون، ولم يصل كثير منهم إلى مناصب عليا في الدولة.

مؤسّسو إسرائيل، على أرضية صهيونية، شكّلوا قبيلة لا يخرج من عباءتها أحد، إلا قلّة نجت بنفسها، وتصالحت مع عقلها وإنسانيتها، ولم تخضعه لمقولات وتفسيرات جاهزة، ومحاولات خلق حاضر في الجغرافية للنص التاريخي. أمّا القبيلة، فهي التي تقوم بالذي نعيشه في منطقتنا منذ سنوات طويلة، وها هو يتجلّى بأحلك صوره منذ عامين تقريباً، ليس بدءاً بتعبير «حيوانات بشرية» الذي تفوّه به وزير الأمن الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، فقد سبقه الأوائل بكلمات وتعابير أقذع. فهم لم يرونا في يوم من الأيام أكثر من «حيوانات» سهل استباحتنا، وسهل أكثر قتلنا، وسهل أكثر تحميلنا مسؤولية موتنا وإبادتنا وفنائنا في آخر المطاف.

بالعودة إلى السؤال في البداية، إنّ أي حاكم لإسرائيل كان سيخوض الحرب بالضراوة والوحشيّة ذاتها، هل لأنّ هجوم المقاومة كان قوياً إلى هذا الحدّ؟ نعم، لكن ليس هذا فحسب، إنما لأنّ هناك مَن فكّر بهزّ أركان هذا الكيان القائم بقوة الغرب، ونفّذ هذا الهجوم، فالغرب هو الذي قرّر أيضاً خوض هذه الحرب، والاستمرار فيها، هو الذي أراد لهذا الشرق أن «يتربّى» تحديداً وإنّ مشهد ذاك الصباح، سيفتح في أذهان سكان المنطقة العربية والإسلامية وغيرهم في العالم، إمكانية التفكير والذهاب بعيداً في المواجهة، والانتقال من التضامن القلبي أو اللفظي إلى الفعلي.

فمن أجل قمع هذا التحول، كانت الحرب ضارية ووحشيّة، وبعد ذلك، بعد أن ضمنوا صمتاً وسكوتاً ودفناً للرؤوس والقلوب في التراب، حان وقت الإنجازات الأخرى، كقضم الأراضي، وتهجير السكان، واستمرار «تعليم» المنطقة مصيرها لو جرّبت رفع رأسها.
بعد الحرب على إيران، ورؤية الصورة واضحة من إسرائيل، بعد ضرب أبنية في مدنها الكبرى، وفي درّة التاج (تل أبيب)، فإنّ فعلاً جديداً سيخرج من إسرائيل والغرب معاً، لإعادة «ترويض» وعي المنطقة الذي اشتغلوا عليه بالنار على مدى العامين السابقين.

لذا فالحرب التي انتهت لم تنتهِ بعد، وستستمر بأساليب أخرى، وربما بأسلوب الحرب ذاته، لكن في مناطق أخرى في المنطقة. هذه الحروب لتنتصر القبيلة في إسرائيل، والقبيلة في الغرب، وهذه الحروب لها عنوان واحد في نظر هؤلاء جميعاً، قاله نتنياهو في الخطاب الذي ألقاه في 24 تموز2024 أمام الكونغرس الأميركي: «صراع بين الحضارة والبربرية».

* صحافي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب