ثقافة وفنون

«مشكلة الأجسام الثلاثة»: عن الهيمنة (الأميركية) والمقاومة (الصينية)

«مشكلة الأجسام الثلاثة»: عن الهيمنة (الأميركية) والمقاومة (الصينية)

تمثل روايةُ «مشكلة الأجسام الثلاثة» (2008) الصينية التي قدمت منها نتفليكس مسلسلاً في موسم أول، انقلاباً معرفيّاً يعيدُ رسمَ خرائط الخيال العلمي خارج المدار الأميركي المعتاد.

سعيد محمد

تمثل روايةُ «مشكلة الأجسام الثلاثة» (2008) الصينية التي قدمت منها نتفليكس مسلسلاً في موسم أول، انقلاباً معرفيّاً يعيدُ رسمَ خرائط الخيال العلمي خارج المدار الأميركي المعتاد. يشقُّ كاتبها للخيال بوابةً كونيةً واسعة تتصارعُ فيها الحضاراتُ مع قوانين الفيزياء نفسها، وتدخلُ البشريةُ سباقاً وجوديّاً طويلَ الأمد مع عدوٍّ غايته فرض الهيمنة سيصل بعد أربعمئةِ عام

على مدى السنوات الخمسين الماضية، هيمنت السردية الأميركية تقريباً على إنتاج وتشكيل أعمال الخيال العلمي، خصوصاً عبر سلاسل شهيرة مثل «حرب النجوم» و«ستار تريك».

تصوّرات مؤمركة عن العالم

لم تقتصر هذه الهيمنة على الجانب التقني أو البصري، بل تعدّت ذلك إلى فرض تصورات مؤمركة عن الفضاء، والمستقبل، والسلطة، والآخر. فقد قدّمت هذه الأعمال رؤية متمركزة حول القيم الأميركية حصراً: البطولة الفردية، حتمية التقدم وضرورة الإمبراطورية، وانتصار «الخير» الليبرالي على «الشرّ» المجهول، والحق في التدخل الكوني باسم الحرية.

أريد لهذه الأعمال أن تسهم في ترسيخ سردية استعمارية جديدة للفضاء، حيث ترمز الكواكب الأخرى إلى شعوب «بدائية» بحاجة إلى التحديث أو «التحرير»، وهو امتداد رمزي لعقيدة النخبة الأميركية حول دورها «الخلاصي» التوراتي في العالم.

هذه الهيمنة السردية جعلت من الخيال العلمي وسيلةً أيديولوجية لصياغة المخيال الجمعي العالمي وفقاً لنموذج أميركي، مع تهميش شبه كامل للرؤى غير الغربية حول المستقبل والتكنولوجيا.

  • (من العمل)
    (من العمل)

لذلك، فإنّ قرار نتفليكس الأميركيّة بتقديم الموسم الأوّل من مسلسل «مشكلة الأجسام الثلاثة» المستوحى من أكثر الروايات مبيعاً في الصين في هذا القرن يُعد مفاجأةً منعشةً. الثلاثية التي كتبها ليو تسي شين، ليست مجرد حكاية غزو كائنات فضائية، بل عمل غير مسبوق في النطاق والحجم والطموح، وأقرب إلى مرآة كونية تعكس توتر الحضارات، وأسئلة التقدم العلمي، ومآلات السلطة، وفلسفة البقاء من وجهة نظر غير غربيّة.

رواية صينية قلبت موازين الخيال العلمي

بدأت «مشكلة الأجسام الثلاثة» في الصين عام 2008، برواية قلبت موازين الخيال العلمي، ونقلت أدب هذا النوع من الفن الأدبي في آسيا إلى العالمية، ففازت بجائزة «هوغو» عام 2015، وترجمها إلى الإنكليزية كين ليو، ما جعلها تصل إلى جمهور نخبوي في الغرب الأنغلوساكسوني ، قبل أن تفتح لها منصة نتفليكس الباب الكبير نحو الشعبية الجماهيرية المعولمة.

لكن المفارقة أنّ هذا العمل الذي اختار منتجو نتفليكس أن يفتتح بلحظة مروّعة من «الثورة الثقافية» في الصين الماوية – رغم أنها تأتي في وقت متأخر من الرواية ــــ قد حظي باحتفاء ضمني من الحزب الشيوعي الصيني نفسه، فنوّه به في مجلة «تشيوشي» النظرية الرسمية للحزب، التي أثنت على قدرته في «بناء سردية إنقاذ من كارثة للبشرية»، ليتحول العمل إلى أداة لنقد النظام وفي الوقت نفسه طرفاً من ديبلوماسيته الثقافية.

حبكة الرواية والمسلسل

يقوم المسلسل – كما الرواية – على لغز فيزيائي معروف باسم «مشكلة الأجسام الثلاثة»، وهي معضلة رياضية تثبت أنّ أي نظام فيه أكثر من جسدين سماويين تصبح حركته غير قابلة للتنبؤ. تُجسَّد هذه الفكرة في كوكب خيالي يُدعى «تري سولاريس»، حيث تؤدي الفوضى السماوية إلى انهيار الحضارة عليه مراراً وتكراراً.

لكن عبقرية ليو تسي شين لا تكمن فقط في توظيف هذا المفهوم العلمي، بل في إسقاطه على حال البشرية.

في الرواية كما في المسلسل، يصبح الإنسان في مواجهة حضارة فضائية متقدمة تسعى إلى غزو الأرض بعد 450 عاماً.

وبدل أن يكون التهديد فورياً، يكون زمنيّاً: مستقبل يقترب ببطء لكنه لا يُقاوَم. هكذا، يُقدَّم «مشكلة الأجسام الثلاثة» كحكاية تقع بين زمنين: بين نهاية النظام القديم، ووصول الكارثة المؤجلة، وبينهما يفترض بالبشرية أن تواجه التنانين المنفلتة.

الصين في ظلّ الثورة الثقافية

في المشهد الافتتاحي، يلقي المسلسل المشاهد في قلب العنف السياسي الذي عاشته الصين في مرحلة الثورة الثقافيّة: طالبة الفيزياء الشابة، يي وينجيه، تشهد إعدام والدها بروفيسور الفيزياء بعد محاكمة شكلية علنية على يد الحرس الأحمر في بكين، وتُجبر لاحقاً على العمل في قاعدة عسكريّة سرية ترصد الاتصالات الفضائية.

ومن خلفيّة حقدها ينبع قرارها المصيري: التواصل مع حضارة فضائية طلباً لـ«إنقاذ» الأرض من الإنسان.

هل هي خيانة للوطن أم صرخة تمرد ضد نظام متعسف سحق إنسانية الإنسان؟ يظل هذا السؤال الأخلاقي محوراً للعمل، ويتردد صداه في كل حبكة فرعية لاحقة، وأصبح موضوع نقاشات لا نهاية لها على الإنترنت بين القرّاء – والمشاهدين – الصينيين بالذات.

نقذ مبطّن للشيوعية؟

النقّاد الغربيون قرأوا في هذه الرواية نقداً مبطناً للنظام الشيوعي الصيني، واعتبروا تسي شين بمنزلة «سولجنيتسين صيني» (في إشارة إلى الكاتب السوفياتي المنشق)، يوظف الخيال العلمي ليقول ما لا يمكن التصريح به.

لكن الكاتب نفسه أنكر ذلك مراراً، وذهب إلى حدّ الدفاع العلني عن سياسات بلاده، بما في ذلك القمع المزعوم في شينجيانغ، وسياسات الطفل الواحد، معتبراً أن الحرية بالمفهوم الغربي المتهتك «ليست أولوية للشعب الصيني»، ما أثار حفيظة عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي الذين حاولوا إيقاف نتفليكس عن إنتاج العمل.

أعضاء مجلس الشيوخ
الأميركي حاولوا إيقاف
نتفليكس عن إنتاج العمل

وعلى أي حال، فإن النّقلة من العمل الروائي إلى المسلسل نقلت معها طبقات المعنى، لكنها أيضاً بدلت مواقع التأويل. في حين أنّ الرواية كانت محكومة بمزاج الصين الخاضع لتوجيهات الدولة، جاء المسلسل الأميركي بجرأته – بل بمباشرته الفجّة أحياناً – ليسلط الضوء على البُعد السياسي-التاريخي للنص، فقُدِّمت الثورة الثقافية في المشهد الأول، لا في منتصف السرد كما في النسخة الصينية الأصلية.

عن الهيمنة والمقاومة

في المقابل، أفرغت المعالجة الغربية بعض الشخصيات من صينيتها، وحوّلتها إلى شخصيات بريطانية أو متعددة الأعراق، لتخاطب جمهور نتفليكس المعولم، وتُخفف من ثقل «السياق الصيني».

وهنا وقع العمل في فخ آخر: انحرافه نحو بنية مسلسلات الشباب الأذكياء المنقذين للعالم على طريقة مسلسل «أشياء غريبة» Stranger Things، ما جعل بعض النقّاد يرون أن شخصيات العلماء تبدو عادية ومبتذلة أكثر من اللازم، مفتقدة إلى عمق الهوس العلمي والانحراف الفكري الذي يميز عباقرة الواقع.

كما اعتبر بعضهم أنّ الحزب الشيوعي الصيني يروّج لـ «مشكلة الأجسام الثلاثة» كسلاح ناعم، ضمن إستراتيجيته لـ «حياكة السرديات» وفقاً لتوجيهات الرئيس شي جين بينغ: «على الصين أن تحسّن سرد قصتها»، لأن الرواية كأنها تحكي عن الهيمنة الأميركية من وجهة نظر صينية: حضارة متقدمة تراقب الجميع، وتعمل حثيثاً لإعاقة تقدم الآخرين، وتدير حرباً صامتة – أو دموية عند الحاجة – للحفاظ على تفوقها، وما العدوان الأميركي على المشروع النووي الإيراني إلا حلقة أحدث من تاريخ طويل مديد.

في هذا السياق، يصبح الفضائيون في «مشكلة الأجسام الثلاثة» رمزاً للهيمنة الغربية، وتصبح مقاومة الأرض لهم رمزاً لكفاح الصين أمام القوى التي تتآمر لحجز نهوضها.

الانهيار قادم لا محالة

ملحمة «مشكلة الأجسام الثلاثة» ليست سردية عن حرب مستقبلية فقط، بل عن شعور الإنسان الحديث بالعجز أمام الزمن.

ففي الرواية، كما في المسلسل، لم تعد الكارثة شيئاً نخشى أن يحدث فجأة، بل أصبحت مؤجلة، مؤرخة، محسوبة. وهذا يُشبه كثيراً شعور البشرية اليوم أمام تغيّر المناخ، أو الذكاء الاصطناعي، أو التفكك الاجتماعي: نحن نعلم أن الانهيار قادم، لكن لا نعرف متى، ولا كيف نتصرف.

حتى «اللعبة» التي تبرز في المسلسل (واقع افتراضي يحاكي الكوكب التري سولاري) هي نموذج عن محاكاة الخطر من دون القدرة على تجاوزه. فالحضارة تنهار داخل اللعبة كل مرة، ثم تبدأ من جديد، بلا أمل في حلّ المعضلة. وهنا تكمن السخرية السوداء: العلم لا ينقذ، والبشر محكومون بالفشل.

تشويق ومؤثرات بصرية… ولكن!

على المستوى الفنيّ، قدم مسلسل «مشكلة الأجسام الثلاثة» عرضاً بصرياً مذهلاً، مزج بين مشاهد الماضي المأساوية والحوارات العلمية المعقدة، وألعاب الواقع الافتراضي، والتشويق البوليسي، وإن ظل – وفقاً لنقّاد غربيين بالطبع – أسيراً للتجريد، فلم ينجح في خلق شخصيات تُحبّ وتُحزن مثلما يحدث في الأعمال الغربيّة الملحمية كما في «لعبة العروش» مثلاً.

على أنّ «مشكلة الأجسام الثلاثة» كان وفيّاً لثقافته الصينية، فاعتمد على الأفكار العظيمة أكثر من اعتماده على الشخصيات العظيمة: الفكرة – مرة تلو الأخرى – أقوى من الفرد، والإنسانية بمجموعها بطل الحكاية الحقيقي. برهن تسي شين على فهمه للتناقضات كمحرك للتاريخ البشري.

ولذا فإن تعدد مستويات التفسير التي تثيرها ثلاثيته أمر لا يمكن تجنّبه، وهو يطبق بشكل صارم معالجةً مادية دقيقة لمجموعة واسعة من التخصصات، من علم الكونيات، والسفر عبر الزمن، والسفر بين النجوم، إلى الفلسفة، ونظرية الألعاب، وعلم الاجتماع والاقتصاد. هذا الالتزام بالدقة العلمية والنظرية هو سمة مميزة للثلاثية، حيث يرسم عناصرها الخيالية دائماً في إطار مبني بدقة، وواقعي، ومتسق منطقياً.

يستحيل النظر إلى هذا المسلسل كعمل ترفيهي فقط. إنه عمل أدبي وفكري وسياسي، يعبّر عن لحظة ارتباك عالمي، تتقاطع فيها الحضارات، وتتنازع فيها القوى الكبرى، ويحاول الإنسان – من جديد – فهم موقعه في الكون، وفي التاريخ، وفي لعبة الوجود التي لا يمكن الفوز بها.

إنّه السؤال القديم يتكرر بصيغ جديدة: ماذا يفعل المرء حين يعرف أن النهاية قادمة، والموت محتّم؟

* 3 Body Problem على نتفليكس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب