عندما تحكم السيكوباتية العالم

عندما تحكم السيكوباتية العالم
هل سبق أن جرّبت أن تنظر في عينَي قاتل؟ لا من أجل أن تسأله «لماذا؟»، بل فقط لتتأمّل الفراغ. ذلك الفراغ الغريب، الذي لا يسكنه ندم، ولا يطفو عليه تردّد، ولا تقطعه وخزة ضمير.
السايكوباتية ليست شتيمة. بل توصيف دقيق، مُفزع، لشخصية لا ترى إلا نفسها، ولا ترى في الآخر إلا وسيلة تُستخدم، أو تهديداً يُقضى عليه. لا تبكي، لا تخجل، لا تتعاطف. وإن ضحكت، فلكي تُرهب.
لم يكن السؤال الذي طرحه المفكّر الأمريكي نعوم تشومسكي عن «ماذا لو كان الرئيس مختلّاً عقليّاً؟» سؤالاً افتراضياً، بل وصفاً واقعياً، في زمن أصبحت فيه السايكوباتية تقود العالم.
العالم اليوم محكوم بشخصيتين، ترامب ونتنياهو، يديرانه وكأنه حظيرتهما الخاصة، ويعبثان به بيد مطلقة بالشر، متجرّدة من كل قيد إنساني أو مرجع أخلاقي.
من يقرأ السيرة النفسية لهذين الرجلين، سيلاحظ أمراً مرعباً: انعدام كامل للشعور بالذنب. هذا هو لبّ السايكوباتية. ترامب يهدّد بالقصف النووي كما لو أنه يطلب شريحة بيتزا، ونتنياهو يبرّر قصف آلاف الأطفال في غزة وكأنّه ينظّف شارعاً من الحشرات. في كلا الرجلين، يتجسّد مرض اسمه تبلّد الشعور وفتنة السيطرة.
ترامب، المهرّج الذي يقود عربة العالم نحو الجحيم، رجل لا يقرأ، لا يصغي، لا يثق بأحد، ويعتقد أن كل ما في هذا الكوكب موجود من أجله. ليس هذا تحليل، هذا ما قاله أقرب مساعديه، وما وثّقته عشرات الكتب، وما نراه بأعيننا.
الحقيقة الأشد مرارة، أنّ ترامب ونتنياهو ليسا استثناءَين، بل إفراز طبيعي لنظام أكبر منهما: الرأسمالية ذاتها، في شكلها النيوليبرالي المتوحّش
في كتاب «الحالة الخطرة لدونالد ترامب» (The Dangerous Case of Donald Trump)، حرّره أطباء نفسيّون أميركيون، وُصف بأنه يشكّل خطراً على الأمن النفسي والقومي معاً، وأنّ سلوكياته تُظهر نموذجاً كلاسيكياً لـ«النرجسي السيكوباتي».
فهو يُظهر تعظيماً للذات إلى حدّ الهوس: «أنا وحدي أستطيع إنقاذ أميركا»، كما قال في حملته الانتخابية. وهو يكذب بلا توقّف: سجّل «مركز واشنطن لسياسات النزاهة» أكثر من 30 ألف كذبة أثناء ولايته.
وهو يحتقر الآخر المختلف سواء كان مهاجراً أو مسلماً أو أسود. وينعدم لديه الشعور بالذنب، حتى بعد اقتحام أنصاره للكونغرس في 2021، وما شكّله هذا الهجوم من تهديد خطير على النظام الديموقراطي. بل إنه صرّح ذات مرة: «أستطيع أن أطلق النار على شخص في الشارع ولن أفقد ناخباً واحداً».
هل يوجد أوضح من هذا على فقدان الشعور بالذنب والانفصال عن الواقع الأخلاقي؟
بخلاف ترامب، لا يُظهر نتنياهو انفلاتاً لفظياً أو صخباً هستيرياً. لكنه يقدّم نموذجاً مغايراً للسايكوباتية: المخطِّط البارد، الكذّاب الماكر، القاتل المستهتر، يُقنِّن القتل السياسي والجسدي في عباءة خطاب مبرمج. لا يزال يكرّر منذ سنوات أنّ كل ما يفعله «دفاعاً عن النفس»، وعبر هذا المسمّى، مرّ فوق آلاف الجثث دون أن يهتزّ له جفن.
استُجوب في ثلاث قضايا فساد وكذب وخداع، ولا يزال يعتلي المنصة باعتباره «المنقذ الوحيد»، ويقدّم نفسه كـ«مبعوث الربّ»، ويقدّم جرائمه كواجب ديني قومي مقدّس.
ما الخطر حين يجلس السايكوباتي على الكرسي؟ ليس فقط في قراراته، بل في المعنى نفسه للقيادة. لم يعد الزعيم هو الحريص، أو الحكيم، أو الحامي. بل مَن يقتل أكثر، ويخدع أكثر، ويبقى أكثر. السايكوباتي لا يخاف. وهذه مشكلة. لأنه قادر أن يضغط الزر، ويدمّر العالم، فقط ليبدو قوياً. والأخطر من هذا: أنّ الشعوب – في لحظات الرعب أو العمى – تصفّق له، وتنتخبه، وتجعله رمزاً.
لكنّ الحقيقة الأشد مرارة، أنّ ترامب ونتنياهو ليسا استثناءين، بل إفراز طبيعي لنظام أكبر منهما: الرأسمالية ذاتها، في شكلها النيوليبرالي المتوحّش. هذا النظام، الذي قام على نرجسية الإنسان الأبيض، وترسيخ أنانيته وغروره، ومراكمة أرباحه، واستغلاله للآخر واستخدامه، وتشييء الإنسان، وتجريد الفعل من أي ضمير أخلاقي، هو النموذج السايكوباتي الأعظم الذي يدير العالم.
ففي قلب هذا النظام، لا مكان للشفقة، ولا معنى للندم، ولا قيمة لأي شيء لا يُباع أو يُشترى. هو الذي يُكافئ القسوة، ويمنح السلطة لمن ينفرد بأنيابه، لا بحكمته. ومثلما تفرّخ التربة المسمومة نباتاً مسموماً، فإنّ الرأسمالية الحديثة تفرّخ قادتها السايكوباتيين، المستهترين، الذين يقودون العالم إلى الهاوية، ويفرّخون خطاباً ممسوخاً من العقل والمبادئ؛ يجعلونه خطاب العالم.
* كاتبة بحرينية