
«الطاهي الذي التهم قلبه»… التاريخ يبدأ من مائدة الطعام

سعيد خطيبي
عندما فقد جمال حاسة الشم أضاع تاريخه. لم يتوقف الأمر على فقدان واحدة من الحواس الخمس، بل تحولت الإعاقة إلى خلل أفقده علاقته بالعالم الذي يُحيط به. فالعالم بالنسبة له كان يُختصر في حيز واحد، في مكان ضيق، لكنه يتسع بالأحلام والابتكار: وهو المطبخ. في ذلك المكان يخلط التوابل والخضروات، وفي المطبخ كذلك يشعر بجدوى الوجود، ويمسك بخيط الآمال. وفي المطبخ كذلك يختبر علاقته بالآخرين، مثل من يختبر وصفات أكل. حلم جمال أن يصير واحدا من أكبر الطهاة في فلسطين، وسلك طريق النور يلتمس خطاه من أجل بلوغ مبتغاه. قبل أن تُعيده رصاصة إلى الوراء، أعادته رصاص قناص إلى العتمة وإلى الخيبة. وتلك الرصاصة لم تكتف بقطع الأعصاب التي تسهل الشم، بل أفقدته كذلك حاسة التذوق، فشعر بعجز عن مواصلة طريقه، كما فقأت عينه في آن.
من الوهلة الأولى قد يبدو أن فقدان العين هي المأساة الكبرى، وكان يتوجب أن تكون في هرم الأولويات في محن جمال، لكن عينه هانت، وبصره لم يستحق أن يُرثي حاله، لأنه لم يكن يرى سوى اعتقالات وقذائف في الجوار، وأكثر شيء زاد في حزنه أن فقد حاسة الشم، ما أودى به إلى التخلي عن حلم يربيه منذ الصغر. لم يحزن على عينه التي ضاعت، لأن عينه قد انطفأت وهو لا يزال رضيعا عندما فارقته أمه، ومن أجل استعادتها راهن على الطبخ، وعلى الروائح وعلى الموائد وعلى الأكل الذي يحكي سيرة الفلسطينيين. فقد تعلم تاريخ بلده عندما تعلم الطبخ، داوى جراحه كذلك بالطبخ، وقع في الحب بفضل الطبخ، وعندما توقف عن شغفه بالوصفات والخلطات، أحس بأن رجله قد زلت إلى أرض لا يعرفها، إلى أرض من المصائب، لا شفاء منها سوى عودة إلى الطبخ مرة أخرى، ولكن من دون حاستي الشم والتذوق.
هذه هي المجازفة التي غامر إليها جمال في رواية «الطاهي الذي التهم قلبه» لمحمد جبعيتي (منشورات المتوسط). وهي رواية تقترح منظورا مغايرا في التعاطي مع التاريخ الفلسطيني، بعيداً عن بكاء الأطلال وبعيداً عن سردية مفجوعة، بل إن المؤلف يجعل من هذا التاريخ كائنا حيا، يزداد حضورا مع كل وجبة يُحضرها، مع كل وصفة يفلح في إعدادها، فتتحول فلسطين إلى مائدة من الأطعمة، تتعدد فيها الأذواق والألوان. ومن غير حشو أو إسراف في شؤون السياسة، بل بانحياز من أجل الإنسان، في بيئته الهشة، من المخيم إلى المدينة التي يحاصرها القناصة، يروي البطل تحولات الحياة في بلده، في السنين الأخيرة. لم يخض في تبرير الأوضاع، ولا في الندم عما وصلت إليه، ولم يكتف البطل بدور الشاهد عما يدور في الأرض، بل تحول بدوره إلى لاعب في الأحداث، فهو لم يغادر المطبخ سوى من أجل المشاركة في مظاهرة، ولم يتخل عن شغف السكين وتقطيع الخضروات إلا بعدما أصابته رصاصة، ولم يهجر المخيم الذي وُلد فيه إلا بعد رحيل مربيته، وهي جدته. عاش وفيًا للمكان وللخيارات التي انحاز إليها، لكن الحياة لم ترأف به، وبدل أن يعيش في شتات، على غرار مواطنيه، صار الشتات داخليا، فكلما نوى على الأمر إلا وتتضافر وقائع في حظره عليه، من غير أن يتنازل عن حقه في الأمل.
في انتظار ما لا يأتي
من المجحف أن نختصر «الطاهي الذي التهم قلبه» في قراءة تاريخية محضة للحالة الفلسطينية، بوصفها كرونولوجيا للمأساة، بل إنها تُغامر إلى فضاءات أرحب، وتقترح لعبة سردية، تتيح للقارئ أن ينوع من مداخل قراءتها. حيث يمكن أن نشرع فيها منذ اللحظة التي أصابت فيها الرصاصة عين البطل، كما يمكن أن نشرع فيها منذ اللحظة التي فقد حبيبته ميرال، أو يمكن أن نبدأ في قراءتها منذ أن توفي والده، أو منذ انتقاله من مخيم الأمعري إلى رام الله، أو من لحظة الميلاد عندما هجرته أمه. وهي مداخل تتعدد، وتسمح للقارئ أن ينظر إلى الرواية من زوايا مختلفة. وكل زاوية توفر مدخلاً اختياريا في فهم الحياة التي عاشها جمال، والذي قضى سنين في الانتظار، ينتظر أن يصير من الطهاة، أو ينتظر الزواج من المرأة التي أحبها، أو ينتظر عودة أمه الغائبة. حياة معلقة بما يتشابك مع حياة الفلسطينيين أنفسهم، الذين يقضون وقتهم في انتظار ما لا يأتي.
كما إنها رواية تقلب التصورات السائدة عن صورة الرجل، تنزع عنه خشونته وتعيده إلى إنسانيته، لأن محمد جبعيتي يقلب الآراء والأحكام المسبقة، لا يصور بطله في صورة رجل عنيد متعال في علاقته مع المرأة، بل ينحاز في روايته إلى المرأة، وينشغل جمال بالطهو لمحبوبته، وفي إعداد المائدة لها، بما يكسر أفق التوقع السائد عن الرجل، لاسيما في مجتمعات لا تزال تنمو فيها ثقافة ذكورية. هكذا فإن المؤلف لا ينزلق إلى تكرار كليشيهات، بل يذهب عكس السائد في تصوير العلاقة بين الجنسين.
قليلة هي الروايات العربية التي جعلت من الطبخ عماداً لها، وجعلت منه أرضية تتشابك فيها خيوط السرد، ومن هنا تتأتى أهمية هذه الرواية، التي أفلحت في الربط بين النقيضين، في تقريب صورة فلسطين، بالاستعانة بالسكين والملعقة وكل الأدوات الأخرى في المطبخ. ومثلما نجحت في تنويع مداخلها السردية، فقد نجحت في تنويع الأذواق التي تقترحها على القارئ، فنحن ندخل إليها مثل من يدخل إلى مطبخ، ونخرج منها مع رغبة في تجريب الوصفات التي عرضتها الشخصية الرئيسية. هي رواية عن الإنسان في فلسطين، بين ماضٍ ممزق وحاضر يحكمه الانتظار. وبين اللحظتين تسير الأحداث، من فقدان إلى آخر، لكن الفقدان سوف يجعل البطل يشعر بأهمية الأشياء التي ضاعت منه.
كاتب جزائري