ثقافة وفنون

السينما والدين

السينما والدين

إبراهيم عبد المجيد

تجذبني الكتابات السينمائية. مؤخرا قرأت كتابا رائعا هو «مدن سينمائية» لنزار الصياد، وقدمته للقراء في موقع «باب مصر». الآن قرأت كتابا آخر رائعا هو «الحبكة المقدسة.. الدين في السينما الغربية» للكاتب المصري أسعد سليم الباحث في الفلسفة والسينما والأديان. الكتاب صادر مؤخرا عن منشورات إبيدي في القاهرة في مئتين وسبعين صفحة من القطع الكبير. الكتاب يتقصي تاريخ السينما منذ ظهورها مع الأديان، أي منذ مئة وثلاثين سنة. وهل تغنت بها أم تمردت على قصصها وطقوسها.
يتناول السينما في الغرب، ويؤجل الحديث عن السينما في الشرق، لكن أي شخص تابع تاريخ السينما في الشرق، سيعرف أن كثيرا من أسباب منع التجسيد السينمائي للشخصيات الدينية متوفر عندنا، مثل عدم تصوير الآلهة أو الأنبياء. وتستطيع إضافة عدم تصوير بعض الصحابة وآل البيت. السينما الغربية اقتحمت ذلك لكن الأمر لدينا كما هو. ثورة الكنيسة في الغرب استمرت ووضعت قوانين تحرم الكثير وتشكلت لجان لمراجعة الأفلام منذ عام 1909 مع السينما الصامتة واستمرت مع السينما الناطقة، لكن السينما استمرت وتراجع كثير من القوانين أو انتهى مثل قانون «هايز» الصادر عام 1930 بمنع أي فيلم أو مسلسل يسخر من أي عقيدة دينية.
تبدأ فصول الكتاب وتتوالى عن الله والملائكة والأنبياء والشيطان والجنة والجحيم وغيرها. مع الله يبدأ بمعناه في الديانة اليهودية والمسيحية. دائما يبدأ بشرح موضوعه فكريا وفلسفيا وعقائديا، ثم يدخل في الأفلام التي جسدت ذلك، وما جرى من نقد أو احتفاء بها. كيف ظهر الرب للمرة الأولى متجسدا في هيئة بشرية في فيلم «المراعي الخضراء» عام 1936 وفيه ظهر الرب كراعٍ حكيم. أو ظهر كصوت في فيلم «الكتاب المقدس.. في البدء» عام 1966 وكان الصوت مهيبا مؤثرا بصوت المخرج نفسه جون هيوستن. يقدم نماذج تطبيقية من الأفلام الشهيرة مثل فيلم «بروس العظيم» من إخراج توم شادياك عام 2003، الذي قام ببطولته جيم كاري. الفيلم القائم على فكرة ماذا لو كان المرء هو الإله ذاته.. الفيلم درامي وكوميدي جسّد فيه مورغان فريمان الله.. قابل الفيلم مقالات نقدية عاصفة شديدة التجريح حتى اضطر جيم كاري أن يقول في تصريح، إنه «لو امتلك القدرة الإلهية حقا فإن أول ما سيفعله هو إرسال النقاد إلى الجحيم»!
ثم يناقش الفيلم الثاني «العهد الجديد»وهو فرنسي بلجيكي وليس أمريكي كالسابق.
فيلم «العهد الجديد» يبدأ بداية صادمة بالقول «هل تعلم أن الله حي يرزق ويعيش في شقته في بروكسل مع زوجته وابنته»، الفيلم يجسد الخيال في أبهى صورة. ثم يأتي الفيلم الثالث» أوه.. يا إلهي» الذي انتج عام 1977 في أمريكا. هو كوميديا فانتازية من إخراج كارل راينر وبطولة جورج بيرنز. هنا يظهر الله بشكل هادئ وديع محب للبشر يحاول أن يوصل رسالة أنتم لستم في حاجة لي.. أنتم في حاجة إلى أنفسكم فقط. تعاونوا وتعاملوا بلطف وحنان ولا تنتظروا مني معجزات جديدة. ثم يأتي فيلم «مقابلة مع الله» عام 2018 الذي أخرجه بيري لانج، وهو فيلم درامي أُخِذ عليه أن فيه كثيرا من الغموض.
ننتقل إلى الملائكة وكيف ظهرت في الأفلام، كالعادة يتحدث عن تصور الملائكة في الديانتين اليهودية والمسيحية ككائنات روحية خلقها الله لتكون رُسلا ينفذون مشيئته. كيف شغل الموضوع الفلاسفة، وكيف هم رموز الخير والحماية في فيلم مثل «إنها حقا حياة رائعة» لفرانز كابرا عام 1946، وكائنات خرافية في صراع كوني بين الخير والشر في فيلم «النبوءة» عام 1955 للمخرج غريغوري وايدن، ورموز للتأمل الفلسفي والإنساني في فيلم «أجنحة الرغبة» عام 1947 للمخرج فيم فيندرز. كذلك استخدمت الملائكة كعناصر فكاهية خفيفة لتقديم رسائل أخلاقية مثل فيلم» الجنة يمكنها الانتظار» عام 1978 من إخراج وارن بيتي وباك هنري. كما تم تصويرها في بعض الأفلام الحديثة ككائنات مخيفة أو غامضة. ثم يقدم كالعادة نماذج تطبيقية على ما يقول من أفلام هي «الختم السابع» عام 1957 الذي أخرجه السويدي إنغمار برغمان، وفيه ناقش قضايا مهمة مثل، الشك والإيمان والموت والعبثية والخلاص والذنوب وغيرها. كذلك فيلم «دوغما»، أو «العقيدة» الأمريكي عام 1999 للمخرج كيفين سميث، وما أثاره من ردود أفعال قوية من قبل الكنيسة، حيث أصدرت الرابطة الكاثوليكية بيانا رسميا تحذر المؤمنين من مشاهدته. في الفيلم يظهر الإله بشكل مختلف. يظهر في صورة أنثي جسدته الممثلة الكندية آلانيس موريست، وكانت تبدو كائنا مرحا مليئا بالحيوية والدفء.

يأتي الأنبياء في السينما، الأنبياء في اليهودية أشخاص اختارهم الله ليكونوا وسطاء بينه وبين البشر، فالنبوة درجة عالية من الكمال البشري.. كذلك في المسيحية هم رسل الله لكن مع توسع في النبوءة بعودة يسوع المسيح، ويعتبرون يوحنا المعمدان آخر الأنبياء في العهد القديم، الذي بشر بمجيء المسيح. كيف عبرت عنهم السينما كأبطال ملحميين مثل موسى عليه السلام، أو كرموز دينية مثل إشعيا أو يوحنا المعمدان، وأضافت إليهم السينما العصرية بعدا نفسيا كبشر يعانون من الشك أو الخوف مثل فيلم «نوح» عام 2014 للمخرج دارين أرنوفسكي.
يوجز تاريخ ظهور الأنبياء في السينما، ومنها فيلم «الوصايا العشر» عام 1956 عن خروج بني إسرائيل من مصر، ثم «ملك الملوك» عام 1961 عن المسيح وغيرها كثير. يقدم نماذج تطبيقية من أفلام مثل «آلام المسيح»، الذي أخرجه ميل جيبسون ورفضت هوليوود تمويله خوفا من المغامرة، فأخرجه هو على نفقته. الفيلم الذي يركز على الإثني عشر ساعة الأخيرة في حياة المسيح. ثم يأتي فيلم «الإغواء الأخير للمسيح» عام 1988 الذي أخرجه مارتن سكورسيزي عن رواية لنيكوس كازانتزاكس الكاتب اليوناني الشهير. كيف أثار جدلا كبيرا لأنه صور جوانب غير تقليدية للمسيح. فيلم «الوصايا العشر» لسيسيل دي ميل هو الذي نال رضا المؤسسات الدينية مع الرضا الواسع للجماهير. هو عن النبي موسى كما جاءت قصته في التوراة.
يأتي الشيطان وكيف جسدته السينما ومن هو الشيطان في الديانات. كيف هو في اليهودية ملاك اختاره الله لتنفيذ إرادته، بينما هو في المسيحية ملاك سقط على الأرض بسبب غروره. كيف يعبر عن الجانب المظلم في النفس البشرية. استغلت السينما الرؤي المختلفة للشيطان فجسدته ككائن ميتافيزيقي مرعب وساخر محتال ومُهدد للبشر، وأحيانا شخصية مرحة ذكية، لنصل إلى نماذجه التطبيقية على ذلك في أفلام مثل «محامي الشيطان» عام 1997 للمخرج تايلور هاكفورد، أو فيلم «المسحور» عام 2000 للمخرج هارولد راميس، وهو فيلم كوميدي فانتازي ساخر.
تستمر مع السينما وموضوعات الجنة والجحيم وأفلام مثل «ما قد تحمله الأحلام» للمخرج فينسنت وارد وغيرها. ثم يأتي العنف والصراع الديني وأفلام مثل «مملكة الجنة» للمخرج ريدلي سكوت عن الحروب الصليبية أو «أجورا» للمخرج الإسباني اليخاندرو أمينابار عن مأساة هيباتيا في الإسكندرية. يأتي الحديث عن العقيدة والأخلاق وأفلام مثل «رجل لكل المواسم» الفيلم البريطاني الذي أخرجه فريد زينمان أو الفيلم الأمريكي «الشك» للمخرج والسيناريست والكاتب المسرحي جون باتريك شانلي. تحتل الأساطير الدينية مساحتها وكيف تم التعامل معها كمادة تاريخية، أو إعادة صياغتها لأسباب مختلفة مثل الترفيه، أو اكتشاف قضايا أعمق وكالعادة أفلام عنها. كذلك الطقوس الدينية والأسرار مثل الأعياد الدينية وغيرها وأفلام مثل «شيفرة دافنشي» أو «اسم الوردة» ليأتي الحديث عن الإلحاد والهرطقة، وكيف اتسعت له السينما الغربية، وصورته كرمز للعقلانية والتمرد على السلطة الدينية، لنصل إلى أفلام عن نهاية العالم.
في النهاية يقدم الكاتب أسعد سليم بحثا رائعا تكتشف فيه كيف كانت وما زالت السينما الدينية حبكة مقدسة، يزداد الإقبال عليها، وتعكس توترات وتطلعات الإنسان عبر العصور، ورغم نقاط قصورها فقد كان لها مميزات لا تُنسى من المتعة أو الفهم.

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب