ثقافة وفنون

خللٌ تقنيٌّ

خللٌ تقنيٌّ

علي شمس الدين

من روحِ الشاعرِ
غناءٌ بوليفونيٌّ
بلونِ غرابٍ
يتلو الإعادات
فوقَ صكوكِ الزمانِ.
السلالمُ المؤلّلةُ في هذه المحطّةِ
طويلةٌ جداً
أقفُ عليها منتظراً
أتمنّى أنْ لا تتوقّفَ
أتمنّى أنْ تكملَ صعوداً.
***

أشربُ كأساً
في حانةٍ لا أعرفُها
تعودُ الغربةُ بثيابِها
تبدأُ منذُ فتحتُ البابَ
رأسُ اليومِ الأوّلِ
خللٌ في الذاكرةِ
أذكرُ الوطنَ
وانا جالسٌ في وطنٍ
كم حانةً عليَّ أنْ أزورَ
لأنسى؟
فقط لأنّ الذكرى تشغلُ مساحةً
تحتلُّ البالَ.
***

مررتُ بالمكانِ
ما زالَ كما هوَ
المبنى يصنعُ الزمنَ حولَهُ
منتصباً
كإلهٍ يدمغُ خريطةً.
الناطورُ ما زالَ هناكَ أيضاً
بالبزّةِ إيّاها
أكبرُ بخمسةِ عشرَ عاماً
يحتفظُ بمشطٍ وقليلٍ من الشَعرِ
تعانقنا
***

كانت تقولُ لهُ على الناصيةِ
في استراحةِ السيجارةِ
أنّها أجهضتْ.
وجهُهُ كانَ فتقاً في الزمنِ
وقفَ كاشارةِ السيرِ المعطّلةِ
في «ويغمور ستريت»
ثم جاءَ رئيسُهُ
عليهِ أنْ يضاعفَ أداءَهُ
في إشاراتٍ بيانيّةٍ
ثم حدثت الفاجعةُ
هوتْ البورصةُ
كانت الأخبارُ تأتي بالجملةِ
أرقاماً للمخيّلةِ
***

الوجوهُ صَفراءُ
الخريفُ يُوَقّعُ مرورَهُ
صارَ يأتيْ مُبكِّراً كلَّ سنةٍ
معَ حليقي الرؤوسِ الناقمينَ
معَ المتاجرِ المقفلةِ
معَ الموظّفينَ السُكارى
بعيداً عنْ المقاهي الذابلةِ
بعيداً عنْ الغوايةِ القاتلةِ
بعيداً عن شِعرِ العباقرةِ
كانَ عليهِ أنْ يرتَجلَ
صوراً على الحائطِ
بمساعدةِ البرمجيّةِ
قال لي إنّهُ خسرَ ملاييناً
بضربةِ حظٍّ عاثرةٍ
تذكرّتُ «آرثر رمبو» و«بيرسي شيلي»
ولاحَ ليْ «بايرون» باناقتِهِ القاتِلةِ.
قلتُ لهُ
الموتُ ثلثٌ المهزلةِ
ما زالَ بإمكانِهِ الشُرْبُ
وأنّ شاعراً آخرَ
ما زالَ يتحسّسُ شبابَهُ
مع أنّ رأسَهُ أكبرَ مِنَ المِقصلةِ.
***

ثُمّ جاءَ «بيتر»
استلَّ شمعةً وجلسَ
ـ لا يستطيعونَ بناءَ سكّةَ حديدٍ
بين لندن ومانشستر.
بَكَيتُ ثم ضحِكتُ
قلتُ لهُ: عليهِ أنْ يُعدِّل الصورةَ
عليهِ أنْ يهدأ
فالمستقبلُ الآنَ قيمةٌ مُدمّجةٌ
سنعملُ في السحابةِ البرمجيّةِ
جنسٌ غريبٌ، لا توقفُها كآبةٌ.
سنختبئُ فيها.
قال لي إنّهُ ذاهبٌ إلى القريةِ
في الصباحِ
يريدُ أنْ يشاهدَ عبورَ القطارِ
فوقَ القنطرةِ
أنفُهُ يفتقدُ رائحةَ الفحمِ الحجريِّ
في وجهِ جَدِّه.
***

جاءَتْ بعدَ انتظارٍ
إلى الطاولةِ المقابلةِ
كانا منَ الفصيلِ عينِهِ
لا شيءَ يدعو للريبةِ.
يعسوبٌ تقنيٌّ بياقَةٍ بيضاءَ ناصعَةٍ
رسمَ أفقاً في الضبابِ.
طربَتْ هيَ
ولكنّها دمعَتْ
قالتْ إنّ «بريكزيت» كانت كذِبَةُ أبيها المُدَلّلةِ
خللٌ في هويّةٍ ذابلةٍ.
***

انتظروا الموتَ طويلاً
في المستشفى الحكوميِّ.
كانت تريدُ المغادرةَ
ولكنْ إلى أينْ؟
كنتُ كالتمثالِ في الخلفيّةِ
أرى أسنانَها مُنضّدةً
في إعلاناتٍ رقميّةٍ
فوقَ عُطَلٍ صيفيّةٍ في الكاريبيِّ
تُحرّكُ شاشةَ التلفونِ
بينَ أخبارِ المقتلةِ
التي بدأتْ بخللٍ تقنيٍّ
في أعصابِ البرمجيّةِ
هُزّتْ مُخيّلةٌ
جاءَتْ من خرائطَ أخرى
جلسَتْ في الحقولِ المجاورةِ
تعملُ بالواسطةِ.
جنّةٌ تقنيةٌ
يتغاوى فيها
الإنجازُ والإرادةُ
يُغدِقُ فيها الذنبُ ألوانَ الأسفِ
كنبعٍ سماويٍّ لا يتوقفُ
في مرآة التاريخ الملوّنة.
ننظرُ اليها
كأنَّ الأقدارَ ستهبطُ علينا
من شجرةٍ
***

هذهِ الحربُ الكونيّةُ
ما زالت تتغاوى
كمُناوشةٍ
تتعرّى كتشكيلةِ معاركٍ
حيثُ تنحسرُ الأنفاقُ هنا
والخنادقُ هناكَ.
تجدرُ كلمةٌ جديدةٌ هنا
هذه ليستْ حرباً كونيّةً
هذه حربٌ على الماضي
سهولٌ صعقَها التاريخُ
صارتْ أرضاً بوراً
لكنْ ما زالتِ الأغاني تُمسّدُها
أو قدْ تكونُ
وقفةٌ تحتَ بابِ المؤشّرِ
تؤلّفُها تكتكاتُهُ الصّنَمةُ
***

الهربُ أيضاً جوابٌ
أكبرُ من السؤالِ أحياناً.
تراجيديا النجاحِ
والجغرافيا متفاوتةٌ.
السعادةُ:
فنُّ هندسةِ الأحاسيسِ.
عندما يتعثّرُالنموُّ
تبدأُ المخيّلةُ
رحلةَ الارتيابِ
هكذا
في نهايةِ كلِّ ربعٍ
يأتي مُهندسُ الأنماطِ
ليتفحّصَ الأرقامَ.
وفي النهايةِ
ننتهي جميعاً
في غرفةٍ مغلقةٍ
نخضعُ لدورةِ إعادةِ تأهيلٍ
فصليّةٍ
نستذكرُ دائماً
أنّ القيمةَ المُضافةَ
هيَ متجرُ الأحلامِ
لا ساعاتَ
عملِنا المضنيِّ
في الافتراضِ
***

هذا الحبُّ
خرخرةُ القطِّ بينَنا
ويداها ترتجفان.
***

قالَ لي عاملُ البقالةِ
معدّلُ الفائدةِ ينزلُ بلؤمٍ الآن.
الفيروسُ كان يخضعُ للاختبارِ
فانفجرت المعادلةُ.
خللٌ تقنيٌّ
في سوقِ الخضارِ
كرّتْ السبحةُ.
أنقذتنا البرمجيّةُ من الاحتكاكِ
فأخرَجنا السُباتَ
من جلودِنا
وضعناهُ في الغرفِ.
صارَتْ المدينةُ أطلالاً
نعاينُها من النافذةِ.
تمرينٌ على الانتظارِ
بالذخيرةِ الحيّةِ.
***

كانَ الشعرُ يعاني أيضاً
اقفلوا الحاناتِ
لكنّي كنتُ أشربُ خِلسةً
في الحانةِ الإيرلنديّةِ.
كانَ «باتريك» يترِكُ البابَ
موارباً
بعدَ حظرِ التجوّلِ
نتكلّمُ بصمتٍ كجثّتينِ
هربتا إلى الحياة.
كانت حقولُ البطاطا
في يَدَيْهِ.
كنّا نقرأُ «شَيموس هيني»
حيثُ تظهرُ القصيدةُ
كغيمةٍ نافقةٍ
نُقيمُ عليها الوليمةَ.
نسمعُ صوتَ الشاعرِ
وقد هشَلَ مِنْ إخوتِهِ
ذهبَ يُقَذّعُ تخومَ الجزيرةِ
حيثُ هربَتْ السفنُ
إلى العالمِ الجديدِ.
يئنُّ ويُنادي الأساطيرَ
يُخرِجُ الرُفاتَ من المدافِنِ
القديمةِ الرطِبَةِ
ويحملُها ويصرخُ في الضبابِ:
دفعنا القرابينَ
وتخلّيْنا عن أحرفِنا الأولى
لأحرفٍ رشيقةٍ.
اذهبوا أو ابقوا
ولكنْ لا تحبِسوا أنفاسَكم
ابقوا أصواتَكم
مرتفعةً في الحاناتِ
لتعرفُكم الأيامُ.
***

نبدو كأنّنا باكتيريا
في جرحٍ ملتهبٍ
قالَ،
متى سيضعونَ
علينا مضاداً حيويّاً
او يستأصلوننا
أبي سعيدٌ في الحقولِ
هناكَ، لا تلفون
ولا تذهبُ الشرطةُ،
صديقتي لا تريدُ أولاداً
***

قلتُ لهُ:
نحنُ الآباءُ
عِلّةٌ في عِلّةٍ
كائناتٌ تاريخيّةٌ
فقدَتْ وظيفتَها،
وهمُ الخلودِ وآلاتُ قَتلٍ فطريّةٍ.
حوَّلَنا الوقتُ
لاراجوزاتٍ تخترعُ
السعادةَ.
الموتُ هوَ المستقبلُ
ينقُصُه الحبُّ في المعادلةِ.
هذا ليسَ ما توقّعتُهُ
هذا روحُ الإحباطِ.
هذا ليسَ ما توقّعتُهُ إطلاقاً:
هذه روحُ السرورِ.
صفْقةٌ من غُبارٍ.

حُبٌ

في كلِّ هذا
الصفصافةُ تُظلِّلُني
وتُظلِّلُ حائطَ المنزلِ الفيكتوريّ المُجاورِ
مِئاتُ الأعوامِ من الحبِّ
بين هذين الشيئين
وأنا أجلسُ كالزمنِ،
أسترقُ النظرَ

شاعر لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب