ثقافة وفنون

الكاتب السعودي مشعان المشعان: نرى الأشياء عبر مفردات اللغة التي تسكن عقولنا

الكاتب السعودي مشعان المشعان: نرى الأشياء عبر مفردات اللغة التي تسكن عقولنا

حاوره: عبد اللطيف الوراري

يعرف أدبنا المعاصر ازدهار الأدب الشخصي والحميم، مثلما يساهم الفضاء الرقمي في ذلك بشكل جليٍّ، من خلال وسائطه المتنوعة (مدوّنات، فيسبوك، تويتر، إنستغرام..) التي أن يمكن أن تضيف الكثير إلى مثل هذا الأدب، وتعمل على تنويع موادّه ومحكياته الأكثر حيويّة وجذبا لفئة عريضة من المدوّنين والمتلقّين على حد سواء، وإن كان الخطاب النقدي الموازي لم يزل بعدُ غير مُهيّأ لخلق منصات التوسط الجمالي.
ثمة جيل من الأدباء الشباب يريد أن يخوض مغامرة الكتابات الذاتية بمختلف أنواعها (سير ذاتية، يوميات، محكيات الواقع، تخييلات ذاتية) التي تعكس ما يتمتع به من استقلالية وحرية في الفكر وفي التجريب، والانفتاح على أشكال سردية جديدة تستجيب لتحولات المجتمع، بمنأى عن التقاليد ووصايا الجماعات ذات الرؤية الموحدة. مشعان المشعان واحدٌ من أبناء هذا الجيل الأحدث في الأدب السعودي المعاصر، أصدر باكورته الإبداعية «الأرض تحت الريح» عن دار رشم عام 2024، ونال كتابه «ما أحمِلُهُ مَعِي: حياةٌ وأسفارٌ وتصوّراتٌ أخرى»، جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في فرع اليوميات عام 2024- 2025. يأتي إلى ما يكتبه بوعي ناضج وحساسية جديدة في التعبير عن الذات ومشاعرها وحدوسها، جاعلا من اللغة بوصفها نظرة إلى العالم وطريقةَ تفكير خاصة في أسئلة الهوية واللغة والكتابة والجسد، لا مجرد أداة للتعبير، ومن جنس اليوميات نُسخة صادقة من قلق الحياة.
*في كتابك «ما أحمله معي: حياة وأسفار وتصورات أخرى»، تنحاز إلى كتابة اليوميات كشكل من أشكال كتابة الذات. أخبرني ما الذي حملته معك؟ وهل أخذت منك اللغة حصّتَها من اللعبة؟
– في كتاب «ما أحمله معي: حياة وأسفار وتصورات أخرى»، حملتُ معي أشياء كثيرة، لكن خلاصة ما أعتقد أنني حملته في هذه اليوميات، أمران:
الأمر الأول: أن وجودي يتخذ من هويات متعددة؛ ففي كل مرحلة زمنية أجدني متلبّسا بهوية خاصة تناسب تلك المرحلة من الوعي. إنني أتقلب على سطح الأشياء، وعدوّي الأول في الحياة هو الثبات، أو لنقل: السير على خط مستقيم واحد. إنني أتفاعل مع مشاعري بشكل مستمر، فما يُملي عليّ مشاعري هو ما أتجه نحوه، وحدسي في المقام الأول هو دليلي. لا أتعامل مع الأشياء من منطلق «الصح والخطأ»، أو الحق والباطل، وإنما وفق ما تمليه عليَّ إرادتي الحالية.
هذا الشعور، أقصد «عدم التّشبث»، هو ما كان يتعامل به الكاتب مريد البرغوثي في كتابه «رأيت رام الله» مع الواقع، وصرت أحمله أنا من بعده؛ لا أريد أن أُخلّد لحظة أتركها في ما بعد خلفي، لكيلا أتعلق بها وتزداد تعاستي. إنّ علاقتي بما هو حولي من جماداتٍ وبشرٍ تجاوزت طابعها غير المكاني إلى طابعها الزماني؛ فكل شيء أتركه للزمن والوقت، لأنَّ للحنين وقتا، وللشوق وقتا، وللحظة وقتا. لا أتشبّث بشيء وأحوّله إلى شيءٍ ثابتٍ! حتى الأمر نفسه في ما يتعلّق بطابع رحلاتي وأسفاري، التي تتخذ كذلك بُعدها الزماني؛ فأنا أعيش في الزمن وليس داخل المكان، الزمن الذي يتوافر في عالمي الداخلي الخاص بي، العالم وفق ما أراه وأتفاعل معه بالطريقة التي أهواها، لا حسبما تفرضه المكاتب السياحية. هذا، في النهاية، ما أحمله معي: «غربتي».
أما الأمر الثاني؛ فلأن الإنسان غير ثابت، فإنني أعيش في حالة تأرجح مؤكدة؛ أميل أحيانا إلى ضجيج المدن، وحينما تشبع روحي منها أتأفف وألتوي على نفسي، فأقرّر الذهاب إلى هدوء الطبيعة. لكنني، حينما يطول مكوثي هناك، أتململ، فأشعر بأنه عليّ أن أغادرها إلى المدينة. هكذا أنا: بين وبين. ما أحمله معي هو أن روحي تتأرجح بين تضادّ الأشياء. وهذا يحيلنا إلى اللغة بوصفها نظرة إلى العالم، لا مجرد أداة للتعبير. إن غياب التقسيم بين الروح والجسد، وبين الفكر والعاطفة، والنظر من خارج تلك الثنائية إلى الأشياء، يجعلنا نُدرك أن ما نتجادل فيه من صواب وخطأ، هو في الحقيقة ليس صراعا بين الحقّ والباطل كما نعتقد، بل هو صراع على العادات والتقاليد والمفاهيم التي نحملها معنا. وذلك يدفعني للقول: إنها ليست لغة السرد فقط، بل الطريقة أيضا، طريقة في التفكير. بمعنى أن اللغة وعاء للفكر؛ فنحن نرى الأشياء بمفردات اللغة التي تسكن عقولنا.
في النهاية، ما حملته معي هو ما لا يمكن وضعه في الحقيبة: تأملات لم تكتمل، محاولات لفهم الذات والعالم، أسئلة عن الهوية واللغة والكتابة والجسد، أخيرا؛ أثر الذات في لحظة قلقها وتحوّلها. كل ذلك جاء محمولا في الكتاب لا بصفته يقينا، بل كمحاولة للفهم، أو على الأقل، لترتيب الفوضى. وربما هذا كل ما تستطيع اليوميات أن تحتفظ به؛ نُسخة صادقة من قلق الحياة.
*في أدب اليوميات، ثمة صراع بين الذاكرة والتخييل. إلى أيّ مدى يحتفظ هذا النوع من الكتابة على خاصيته المرجعية بما هي تدوينٌ للواقعي واليومي والهامشي؟
– تعمل الذاكرة على التحوير والانتقاء في عملية الكتابة، تماما كما يحدث في الواقع؛ فنحن لا نستطيع رؤية العالم الخارجي بشكل مباشر، بل عبر منهج وأُطر محددة. ففي أحد الأفلام، تقول ممثّلة: «صحافي أعرفه في لندن أثناء الحرب يقول إن السيّاح يذهبون إلى إنكلترا، ولديهم أفكار مسبقة، فيجدون ما يبحثون عنه بالضبط. قلتُ له إنني سأذهب بحثا عن إنكلترا بلاد الإنكليز، فقال: إذن، هي موجودة».. أي أن ما أحمله معي هو أننا لا نرى الأشياء كما هي، بل نراها كما نكون نحن. وهذا الأمر ينطبق على الذاكرة عندما تخضع لعملية الكتابة اليومية؛ إذ نجدها في حالة تصفية وانتقائية لما هو واقعي ويومي وهامشي. بذلك، لا تُقدّم الواقع كما هو، بل يُعاد تشكيله عبر الذاكرة والتخييل. هي لا توثّق الواقع في صورته الأصلية، بل كما تراه الذات الفاعلة والمتخيلة. وهذا ما يمنح هذا النوع من الكتابة قيمته الأدبية والفكرية، حيث يتأرجح بين التوثيق والتأويل، بين الحقيقة والانطباع، وبين الحضور والغياب.
* لا تنتهي الكتابة في معظم الأحوال إلى ما كُنّا نرسمه ونخطّط له. هل مارستَ نوعا من الرقابة الذاتية على ما كتبته، لاسيما إذا علمنا أنّ هذا الأدب ذاتي خالص ينصرف إلى تحرير ما هو مكبوت ومنسي من نفسيتنا واستفهاماتنا وجسدنا ورؤيتنا للعالم؟ وما دَخْلُ مؤسسة المجتمع إذا كان محافظا في الأمر؟
– قلتُ عن نفسي سلفا إنني أتأرجح بين تضادّ الأشياء، وها أنا أجد نفسي مرة أخرى، في اليوميات، أرغب في التأرجح بين السعي للإفصاح عن مشاعري وأفكاري، والرهبة من التعرّي الكامل، بين التوثيق والتخييل. إنه التوازن الدائم بين ما يجب قوله وما لا ينبغي. وهذا ما يجعل الكتابة، في ظنّي، أكثر صدقا وعمقا، ويتسم بجمالها الإنساني المعقّد. أما ما يخصّ رقابة المجتمع، فقد تعلمتُ كيف أضع نفسي داخل شخصية روائية متخيَّلة، أجعل بيني وبينها مسافة قصيرة، كأنها لا تنتمي إليّ بشيء، فأستطيع من خلالها التعبير عن مشاعري دون أن تعيقها الحواجز القديمة المترسّبة في تنشئتنا. بهذا، أفلِت مؤقتا من سلطة المجتمع، فأغدو حرا.
*نشطت في الآونة الأخيرة كتاباتُ الذات بمختلف أنماطها (سير ذاتية، مذكرات، يوميات، محكيات السفر، تخييل ذاتي)، داخل الفضاء العربي؛ إلام تُرجع هذا التحول الذي يمسّ مفهوم الكتابة الأدبية في الصميم؟
– نحن نعيش الآن في مرحلة يُهيمن فيها جيل من الشباب تحكمه الفردانية، لا الجماعات التي كانت تسيطر على عقول الجمع. أصبح الإنسان اليوم يتمتع باستقلالية وحرية في الفكر، بعيدا عن التصوّرات الموحّدة والتطلعات ذات الرؤية الواحدة. ولعلّ هذا هو السبب في ميل الكثيرين منّا إلى أنماط الكتابة الذاتية، في محاولة لوضع الذات في مواجهة العالم، والتصرف بحرية مقابل اشتراطات الآخر، والكينونة مقابل الوجود الواقعي.
*في عصرنا الحالي ثمة هيمنة الرقميّات، يساهم الفضاء الرقمي من خلال وسائطه المتنوعة (مدوّنات، فيسبوك، تويتر، إنستغرام..)، في ازدهار الأدب الشخصي والحميمي وتنويع موادّه الأكثر حيويّة وجذبا لفئة عريضة من المدوّنين والمتلقّين على حد سواء. ما الذي يمكن أن تضيفه مثل هذه الوسائط إلى هذا الأدب (ألبوم الطفولة، مفقودات، صور نزهة)؟
– ساهمت الوسائط الرقمية في تقريب كتابة اليوميات إلى جمهور أوسع من القرّاء، وخلقت شكلا جديدا من التواصل بين الكاتب والقارئ، بعيدا عن حواجز النشر الورقي، التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، ما لم يحظَ الكاتب بدعم جهة تتكفّل بطباعة عمله. كما ساهمت هذه الوسائط في انتشار الأدب الذاتي عبر الكتابة اليومية، ما قرّب المسافة بين كاتب السطور والمتلقي، وجعل الكتابة أكثر حرية في التعبير، دون هاجس رقابة الناشر أو سلطة الناقد. في حساباتي، أسعى إلى الدمج بين الذاكرة النصيّة والذاكرة البصرية. إن مشاركة الصور مع النص المصاحب لها تجعل النص في حركة دائمة، غير ساكن، وكأن النص لا يكتمل إلا بمشهد ملموس يُتيح للقارئ عيش تجربة حسّية ومعنوية. إن كتابة النص مصحوبا بصورة حميمية لا تُقرّب المعنى إلى القارئ فحسب، بل تجعل التعبير أكثر حيوية، ودهشة، وقابلية للتلقي.
* تنتمي إلى الجيل الأحدث في الأدب السعودي المعاصر. ما هي الاستحقاقات المادية والرمزية التي يغنمها جيلكم من أجل تطوير هذا الأدب؟ وهل تواجهون «أبا» ما يعيق حركتكم وتسعون إلى مجاوزته؟
– تمرّ المملكة العربية السعودية بتحوّلات على الأصعدة كافة، ومن ضمنها الثقافة والأدب، تماشيا مع رؤية 2030. وهناك مبادرات عدّة تطلقها هيئة الأدب والنشر والترجمة، ومن أهمها مبادرة «حاضنة الكتّاب»، التي تُعنى بالأجناس الأدبية غير الشائعة. وقد حظي كتابي الأول، الذي كان بعنوان «الأرض تحت الريح»، بأن يكون من ضمن الأعمال التي تم اختيارها لخوض غمار هذا البرنامج، الذي استمر ستة أشهر في رحلة تدريبية متكاملة، تنوّعت بين الكتابة الإبداعية، ومهارات السرد، والاقتباس السينمائي. وقد خُتمت بتجويد، وطباعة، ونشر الأعمال المقدَّمة.
هذا الاهتمام من قبل المؤسسات الثقافية جاء استجابة لحاجة السرد إلى مواكبة الواقع الجديد، خارج الأطر المفروضة، وخارج الكتابة بزعمها إصلاحا، وخارج الثنائيات الحادّة بين الرقابة والوصاية، وخارج التقليد في الشكل واللغة؛ نحو التعبير عن الذات بجرأة وصدق، وإتاحة حرية التجريب والانفتاح على أشكال سردية جديدة تعبّر عن التحوّلات المجتمعية المتغيّرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب