الائتلاف يفقد أوّل «طبقة حماية» حريدية: نتنياهو أمام لحظة الحسم

الائتلاف يفقد أوّل «طبقة حماية» حريدية: نتنياهو أمام لحظة الحسم
انسحاب «ديغل هتوراه» يزلزل ائتلاف نتنياهو، ويكشف تصدّع الهوية الإسرائيلية بين الحريديم والعلمانيين وسط أزمة تجنيد تهدّد مستقبل الحكومة.

تحوّلت التسوية على مشروع قانون التجنيد في إسرائيل، إلى مصدر لأزمة جديدة من شأنها أن تطيح الائتلاف الحكومي، خصوصًا بعدما أعلن حزب «ديغل هتوراه» الحريدي الانسحاب من الحكومة، احتجاجاً على تعديلات أُدخلت أخيراً على القانون. وإذ تعكس هذه التطورات، في العمق، صراع الهويات داخل «الدولة اليهودية»، فهي تعني أن مسار سقوط حكومة بنيامين نتنياهو بدأ تدريجياً، ومعه العدّ التنازلي نحو انتخابات مبكرة جديدة في إسرائيل.
ورغم تصوير الأمر وكأن الحريديم هم مَن أطلق النار أوّلاً على الحكومة، إلّا أن الواقع يشير إلى خلاف ذلك؛ إذ إن رئيس لجنة الخارجية والأمن في «الكنيست»، العضو البارز في «الليكود» يولي إدلشتاين، هو الذي ضمّن المشروع المذكور بنوداً مثيرة للجدل، من بينها تأخير الإعفاء إلى ما بعد الالتحاق الفعلي بالخدمة العسكرية، بعد أن يتحدّد المكان الذي سيخدم فيه المجنّد، والتوقيع بالبصمات لدى دخول الطلاب وخروجهم من المدارس الدينية، للتأكد من أنهم يرتادون تلك المدارس، وبالتالي مرشحون للإعفاء. ولم يكن الغرض من هذه التعديلات ضمان تنفيذ القانون فحسب، بل يبدو أنها تمثّل أيضاً ذريعة واضحة لدفع الحريديم إلى خارج الحكومة، بالنظر إلى أنه لا يمكن الأخيرين القبول ببند من مثل بصمات الأصابع، التي تمثّل «إهانة ثقافية ودينية» لهم – كونها تُستخدم تقليديّاً مع المشبوهين أو في السجون -، وفق ما ورد في تصريحات أطلقتها قياداتهم في اليومَين الماضيَين.
وعلى خلفية ما تقدّم، جاء ردّ فعل الزعيم الروحي للمجتمع الليتواني، الحاخام دوف لانداو، الذي أمر مباشرة أعضاء «الكنيست» من حزب «ديغل هتوراه» بالانسحاب من الحكومة، في خطوة وصفت بـ«المدروسة والنهائية»؛ علماً أن انسحاب هؤلاء من الحكومة، يخفّض عدد أعضاء الائتلاف من 68 إلى 64، من أصل 120 عضواً في «الكنيست»، وهو ما يطرح سؤالاً حول كيفية مضيّ الحكومة قُدماً.
صحيح أن رقم 64 يعكس استمرار وجود غالبية نيابية خلف الحكومة، إلا أن هذه الغالبية نظريّة فحسب؛ إذ إن الحزب الحريدي الآخر، «أغودات يسرائيل» (3 مقاعد)، الذي ما يزال رسمياً ضمن الائتلاف، سيكيّف طريقة تصويته بحسب طبيعة القوانين المعروضة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حركة «شاس» (11 مقعداً)، التي تمثّل الحريديم الشرقيين، وقد تنسحب، هي الأخرى، من الحكومة إذا لم تلبَّ مطالبها، ما يعني أن الائتلاف لن يبقى لديه، في هذه الحالة، سوى 50 مقعداً.
فما الذي يمنع نتنياهو من وقف مشروع القانون، وتعديله بما يرضي الحريديم، بل وإقالة إدلشتاين من منصبه واستبدال آخر به يطيع قراراته وتوجّهاته؟ ثمة جملة أسباب، هنا، يمكن اختصارها بما يلي:
أولاً: الحديث ليس عن مجرّد قانون تجنيد، يراد أو لا يراد من خلاله، تجنيد الحريديم في صفوف الجيش الإسرائيلي، بل هو صراع حول هوية إسرائيل، بين الشريحة الحريدية ذات الطابع الخاص التي تريد المحافظة على هويتها كما هي بعيداً من تأثيرات الآخرين، بل والدفع نحو تكييف الدولة وقوانينها وتشريعاتها بما يتوافق مع الشريعة اليهودية؛ وبين الشرائح الإسرائيلية اليهودية الأخرى، التي ترى أن الدولة يجب أن تتحوّل إلى علمانية ذات طابع يهودي، تسري قوانينها على جميع مواطنيها، بما يشمل مسألة الدفاع عن أمنها الذي يجب أن يكون منوطاً باليهود كافة.
ما يجري في إسرائيل، اليوم، ليس مجرّد أزمة سياسية، بل انعكاس لصراع عميق حول هوية الدولة اليهودية
ثانياً: للخدمة العسكرية الملقاة على فئة دون أخرى في إسرائيل، تأثير كبير في دفع قانون التجنيد بما يخالف ما كانت عليه التسويات في الماضي. فالظرف مؤاتٍ جدّاً لإنهاء هذه المعضلة التي عمرها من عمر الكيان نفسه، وباتت عبئاً ثقيلاً على الأمن الإسرائيلي، جرى تلمّسه خصوصاً في الحرب الحالية على قطاع غزة، حيث يستدعى جنود الاحتياط مراراً وتكراراً، لأن شرائح يهودية ترفض التجنيد. وهذا الواقع يوحّد معظم الإسرائيليين – بمن فيهم الناخبون المؤيدون لنتنياهو – حول ضرورة سنّ قانون يفرض على الجميع الخدمة العسكرية.
ثالثاً: إدلشتاين، الذي يدفع بقوّة إلى تجنيد الحريديم، وهو المسؤول عن صياغة بنود القانون الذي أغضب الحاخامات، ليس مجرّد عضو «كنيست» عادي من «الليكود»، بل هو يمثّل قوّة سياسية خاصة. كما إنه كان رئيساً لـ«الكنيست» على مدى سبع سنوات، ويعدّ وجهاً بارزاً في «الليكود» منذ عقود، فيما يَلقى احتراماً واسعاً خارج حزبه، ويُنظر إليه كواحد من أهم المرشحين المحتملين لمنصب رئاسة الدولة.
ومن شأن ذلك أن يصعّب على نتنياهو تجاوز إدلشتاين أو تهميشه، ناهيك بعزله من منصبه، بسهولة، خصوصاً أن الأخير يمثّل التيار الليبرالي والقومي داخل «الليكود»، ويعبّر عن آراء شريحة واسعة من الناخبين العلمانيين الذين يدعمون الحزب، ولا يشعرون في الوقت نفسه بأيّ تعاطف تجاه الحريديم. ولذا، إن أيّ محاولة للقفز عليه قد تؤدي إلى فقدان دعم هذه الشريحة المؤثّرة داخل «الليكود»، خلافاً لما كان عليه الحال لدى عزل وزير الأمن السابق، يوآف غالانت، مثلاً.
– رابعاً: يرأس نتنياهو حكومة غير مقتصرة على «الليكود»، بل ائتلافاً مع اليمين المتطرّف بقيادة كلّ من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وكذلك مع ثلاثة أحزاب حريدية («شاس»، «ديغل هتوراه» و«أغودات يسرائيل»)، فيما حزبه الذي يرأسه، يتكوّن من شخصيات ومراكز قوى، تتناحر في ما بينها على الرئاسة وعلى المكانة. ويعني هذا أنه لا يمكن لنتنياهو دائماً فرض رؤيته، لأنه يحتاج إلى إرضاء الجميع، تحت طائلة سقوط حكومته.
– خامساً: يدرك نتنياهو وغيره أن الحريديم غير قادرين على التملّص من الخدمة العسكرية إلى الأبد، ولكنه يريد تأجيل المشكلة ما أمكن، كي لا تنهار حكومته، في حين أن إدلشتاين يريد حلّ المسألة الآن، حتى لو كان ذلك يعني دفع الحريديم خارج الائتلاف، بل وإسقاط الحكومة.
في الخلاصة، يجد نتنياهو، الذي اعتاد المحافظة على حكمه عبر الموازنة بين الأطراف، نفسه الآن رهينة خلاف، لا يبدو أنه قادر على حلّه. فهل ينجح في بلورة تسويات تؤجّل من جديد الاستحقاقات، أو يعمد إلى خطوات، داخل إسرائيل وخارجها، من شأنها تغيير أولويات المشهد السياسي؟
الاخبار