فنتازيا الباروكة والصلعاء

فنتازيا الباروكة والصلعاء
نـجـيب طـالل
قصة” الباروكة والصلعاء” )1(لألديب واإلعالمي” عبدالرحيم التوراني” استوقفتني: لما لها من
مفارقات في نـسيج المفارقات الثقافية واإلبداعية، ومساهمتها من جديد، ألستعيد ما تراكم عندي من
استيهامات وعوالم الحالل والحرام، عند فقهائنا الكرام. )2(عوالم أغلقناها مؤقتا – المسرح
والتحريم- ألن هنالك عالقة سرية بين القصة المسرودة، والعوالم التي تكمن في ” الشعر المستعار)
الباروكة( ولتقريب الصورة في سياق القصة التي استوقفتني هل يجوز: للممثل أن يضع الباروكة في
العرض المسرحي ؟ إذا كان لبس الباروكة حرام، ولو كان في البيت ! لننغمس في السخرية
والفنتازيا أعمق. يجـوز للممثل أن يلبسه ، إلبراز الشخصية ) المقصودة( إن لم يكن شعرا آدميا. ألن
األئمة أجمعوا على تحريمه ! واستشهادهم بذلك أن »الباروكة »ما فيها من تلبيس وتدليس وتزوير
وغرور. و العلة الثانية/ استعمال ما اختلف في نجاسته.لكن اختلفوا في حكم “الباروكة” من شعـر
غير اآلدمي أي من البهيمة أو الصوف أو الخرق. حيث القول األول: يجوز وصل الشعر بغير الشعر
والقول الثاني قوالن التحريم والكراهة )3( وهناك من يحسم األمر بالتحريم القطعي، ألن ما فيه من
تغيير خلق اهلل، وهو أمر محرم.
كالم فقهي هذا، وفي سياقه هل الباروكة المنوجدة في القصة حالل أم حرام؟ المعني بالسؤال صاحبها
؟ لكن ال نحمله ماال طاقة له، ألنه أديب وليس فقيه أصولي. أو إذا أخذنا تصريحه محمل الجد:”
وألني لست فيلسوفا، بل مجرد نصف مجنون، سأتساءل دائما عن هدفي وأخاف عليه.)4( بالتأكيد
ندرك أنه ليس مجنونا بالمطلق وال بالنسبي، بقدر ماهو نصف مجنون، سواء صاحب القصة أو
شخصيتها ) الكاتب(من هاته الزاوية ؛ تتراوح رؤيته بين الواقع والخيال، ألن واقع حدث ” الباروكة
والصلعاء” أقوى منه ومن احتمالية قلقه، فحاول بذلك الهروب من عوالم الواقع نحو عوالم التخيل
والسخرية وتوظيف الالمعقول لخلق عوالم جديدة للتعبير عن قضية عميقة تتلبسه ، تقلقه. ألنه
ا.. قلق بشأن اآلتي، قلق بشأن أشياء كان باإلمكان تجاوز
نصف مجنون:” غالًبا ما أجد نفسي قلًق
حدوثها، وأشياء أخرى لم تحدث بعد…يملؤني قلق من المستوى غير الضروري.. أو الصنف غير
المفهوم..)5( القلق أمسى ظاهرة طبيعية في مجتمعنا ألسباب( !( حتى أن هناك من له القلق
المزمن؟ لكن بالنسبة لمحمول القصة هنالك قلق أعمق، حيث بداية القصة كانت واقعية بمكانها
وشخوصها ) في( :”في حانة شعبية بوسط المدينة، تمنعت مسرحية من فصل واحد وأربعة مشاهد،
على قلم كاتب مسرحي كبير، لم تستسغ معاملته لها كواحدة من بنات الليل، حاول عبثا إغراءها
واستدراجها بسيجارة ثم كأس. لم تستجب، خرج وهو في حالة توتر وغضب واضحين)*(حقيقة
صورة مجسدة لعالقة أغلبية المبدعين بإبداعهم على مستوى مخاض الفكرة وصياغتها، ولكن أين ؟
في الخمرات، فضاء البوح وتفريغ األلم، من هنا يستقي المبدع مادته ! لكن
في الشارع العام ، صور أخرى، في قصتنا هاته. عوالمه تدخل مجال الالمعقول والسخرية المفرطة
في فنتازيتها، عند الكاتب:” في الشارع المضيء، رأى الكاتب المسرحي قصائد وخواطر أدبية
وروايات وقصصا بديعة من كل صنف، ابتسمت له قصة قصيرة وغمزت، فتبعها. سار خلفها، مشت
في أزقة ضيقة. إلى أن وقفت أمام باب قديم، وطلبت منه الدخول)*( أكيد مشهد يوحي بفنتازيته، بأن
كل فنون القول معروضة ليس للبيع بل للغواية، إذ الجميل هنا تم استعمال ” بالغة “المجاز المرسل”
بدل الرمز. ومن باب الغواية استدرجت” القصة” الكاتب لكي تعاشره، بدل المسرح، طاوعها:” في
غرفة نوم معتمة نزعت القصة الفاتنة مالبسها القصيرة جدا، وطلبت من الكاتب أن يفعل
مثلها)*(فالمطاوعة )هنا(هل هي نتيجة رغبة لتجريب كتابة القصة؟ أم هروب من فشل إتمام نصه
المسرحي؟ أم تطاول؟ ففي سياق مقول القصة:” في غرفة نوم معتمة نزعت القصة الفاتنة مالبسها
القصيرة جدا، وطلبت من الكاتب أن يفعل مثلها)*( فمن باب المجاز. نحن هنا أمام عهر ثقافي، ألن
القصة تمظهرت هاهنا عاهرة بالمعنى االستعاري ما دمت هنالك استعارات) القصة )
مالبسها(..القصيرة جدا(: قصدية المعنى المانعة لمعنى المشابهة ] القصة القصيرة جدا / جدا[ فهذا
النوع أمسى مستباحا لمن أراد كتابة القصة. لكن الكاتب يمقت هذا النوع. وبكرهه، حتى أنه قام
بجريمة قتل، وذلك لقتل غوايته له مما:” قاوم الكاتب بقوة، وتمكن بصعوبة من خنق القصة
المتوحشة، قتلها قبل أن تنهيه. أخذ معه باروكة الشعر المستعار والعين الزجاجية، وطقم األسنان
االصطناعية، وحمالة الصدر المنتفخة، ولوى هاربا.)*( نالحظ المبالغة البديعة، بقرائن من إرادة
المعنى الوضعي، هي في غير معناها الحقيقي لعالقٍة غيِر المشابهة، لكن بموضعة معادلة للقصة)
التي( :
]تلبس[)الباروكة= صلعاء= مشوهه(و] تضع[ )عين زجاجية= عوراء=عاهة(و ]تركب[) طقم
أسنان= اصطناعي= مزور(كل هذا يكافئ بأن تلك القصة المتوحشة= نحيفة وفارغة و غير فاعلة
ومنتجة لعالقٍة غيِر المشابهة ) لها نهدان ضامران(وبالمعنى الجمالي: مواطن جمال المرأة – نهديها-
بالتالي بعد اكتشاف الكاتب لسلبيات هاته القصة المصطنعة والمشوهة والمعاقة أصيب بصدمة، نتيجة
الهجوم الكاسح للقصة/ القصاصين. في حياته )جالسة فوق سريره( فسعت أن تحوله مثلها رغم
المقاومة ثم :” وقفت تتمايل بغنج زائد، توسلت إليه أن يعيد إليها أسنانها فقط. لم تنظر اللعوب
جوابا، بل فاجأت القاتل حين ارتمت فوقه، نزعت منه أسنان فمه وعينه اليمنى، ونتفت شعر رأسه
قبل أن تخنقه)*(فهذا الصراع الفنتازي” المجازي” محاولة تجسيدية لما يعانيه الكاتب الصادق من
معاناة وألم ) أي( كاتب طبعا. وخاصة كاتبنا المريض، بعد غواية القصة له؛ وتخليه عن كتابة
مسرحيات، لم يجن منها إال اإلحباط ، ألنها غير مربحة:” في سوق الخردوات وقف الكاتب بعرض
أشياءه للبيع، حصل على بعض الدريهمات مقابل الباروكة، تخلص من البضاعة الباقية برميها في
مطرح نفايات)*(هنا تخصيص “ضمني” لحال أحد أصدقائه المقربين ! ممن عانوا المحن والحصار
واليأس، وبالتالي فالمبدع ” عبدالرحيم التوراني” ال يستحضر ذاته في ذات القصة، ألنه ليس
مسرحيا، ولم يدخل مصحة نفسية؟ طبعا كتابة ” التوراني” أغلبها سوريالية ، فنتازية ، ساخرة من
واقع مؤلم. مما استغل أسلوبه ليكشف لنا عن فلسفة ورؤية صاحبه / الكاتب.
وفي الوقت نفسه يشعرنا بأن الذكريات ال تموت، بقدرما ما تظل عالقة في المخيلة مهما تآكلت
.
ِح
الذاكرة ، المحالة تبقى تنبض حية في األروا
وبما أن ” الباروكة” التي باع نسخا منها، هي قمة السوريالية المندمجة جوانية الفنتازيا في مجتمع
يدفع بالِكتاب واألديب نحو حافة االنهيار . ولهذا فمن باب الفنتازيا )تلك( القصة القصيرة جدا عند
الفقهاء حرام ! لما فيها من تزوير وتدليس. والفقه يعتمد على الملموس والقرينة . وبما أن قرينة
المشابهة متوفرة في )الباروكة( يجوز التحريم) أي( تحريم القصة القصيرة جدا من المشهد الثقافي
واإلبداعي.
ولكن ما حكم الفقه، حينما وجد كاتبنا المريض عمله مسروقا؟بقرينٍة ليست مانعة من إرادة المعنى
الحقيقي؛ أي: مشاهدته برنامج تلفزي ، لتصريح إحدى الممثالت المتألقات عن مشاريعها المستقبلية
:”قالت إنها ستلعب دور البطولة في مسرحية ” الباروكة والصلعاء” من تأليف كاتب كبير)*(مسألة
سرقة النصوص واألفكار، أمست طبيعية. لكن أمام حالة الكاتب المريض فالوضع يختلف جدا، أمام ”
سرقة” مجهوده الذي بدأه في الحانة الشعبية. بحيث ازدادت درجة انهياره مما: “لم يتمالك نزيل
المصحة نفسه من الضحك، ارتعش وانتفض جسده، تم نهض بهدوء، قبيل نهاية البرنامج بثوان،
وأمسك صامتا بعنق الممثلة النجمة)*(
اإلستئناس:
-1 الباروكة والصلعاء: صحيفة السؤال اآلن بتاريخ- 14/07/2025
-2 انظر لموضوع: أحكام شعـر المرأة وصال، وإزالة في ضوء الفقه اإلسالمي- إعداد :مريم عبدالسالم
بكر- المجلد السادس من العدد التاسع والعشرون لحولية كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات –
باإلسكندرية
-3 استأنس بتاج واالكليل لمختصر خليل. ليوسف العبدري الغـرناطي، وخاصة ج 2 من خمسة أجزاء
تتبحر في المذهب المالكي
-4 على قلق كأن الريح تحتي! لعبد الرحيم التوراني- صحيفة أنفاس بريس/ في- 28/03/2025
-5 على قلق كأن الريح تحتي! لعبد الرحيم التوراني- صحيفة كفى بريس/ في28/03/2025-