ديناميكية السرد الروائي

ديناميكية السرد الروائي
الطيب النقر
الرواية، التي أنشأتها، أو أنت آخذ في إنشائها، يجب أن تنأى عن التواء الأسلوب وتعقده، وأن تكون لغتها سهلة يسيرة، من غير تقعر أو ابتذال، وأن تكون كينونة ثيمتها التي تستدعى من النقاد الكشف عنها، وبيانها، وإضاءتها، ومعرفة هل هذه الثيمة، بوسعها أن تضفي ألقاً، ونضاراً للرواية، يختلف عن ذلك الذي نعرفه، أم هي مجرد أسطر واهية، لم يدونها عضد قوي، وقد خلت فصولها من الأنثروبولوجية الرفيعة، والجمال الطاغي، الذي نشعر نحوه بهوى مبرح، وبعشق عنيف الأهواء، فالرواية التي يتوجب علينا أن نتعامل معها، بوصفها كائناً مستقلا، حتى تظل قلوبنا تلتفت إليها، وتنشغل بها عن سواها، يجب أن تتضمن في أغلب حالاتها، مزاجاً ملائما لطباعنا، وأن يفلح مبتدعها من أن يخرجنا من روتين حياتنا المتكرر، الذي تتشابه فيه الأشياء، إلى عالمه البهيج، الذي يسري في أبداننا رعده، إذا استأذن هو في الانصراف.
هذا الضرب من الأدب، الذي تختلف فيه الصدور من لواعج الأسى، وتضطرب فيه المهج من فيض المشاعر، يجب أن نسمعه ونصدقه، ونسرف في تصديقه، لأنه لم يغمض عينيه، أو يصم أذنيه، أو يعقد لسانه عن الخوض في علل الدنيا ومن فيها، لأنه بما امتاز به من الفطنة، والنباهة، ونضوج الفهم، وسعة الإدراك، استطاع أن يقدم لنا الحلول التي صاغها الروائي في حبكته، بعد أن أضفى عليها بُعْداً جمالياً، أزرى بمعالم تلك الفوضى الفاشية التي نعيشها. والرواية التي تتناغم جزئياتها مع قيمك، تحتاج إلى نقد، يدافع عن مسلكها ما وسعه الجهد، ويتحدث عن اضطرابها وقصورها، إذا امتهن هذا النقد طرحها المتداعي، ونقم على صورها الباهتة، والناقد الذي يمقت التعقيد، ويؤثر البساطة في كل شيء، يجب أن يجاهد نفسه، ويغالب هواها، حتى تحتوي أحكامة الفاصلة، على حجج قويمة تستند إليها، فمهمته أن يطالع الأجناس الأدبية في تأنٍ، حتى يدرك ما ألمّ بها من شر، وما انصب عليها من مكروه، ثم يجري عليها قواعده، التي تضبط جموحها، وتقوم خطلها.
والرواية تحتاج دائماً، إلى أسس ومعايير تتزيد منها، وقد وفق النقاد في صقل هذه المقاييس، ودفعها إلى التشكل توفيقاً عظيما، فقد أحصوا ملامحها واستقصوها، ما استطاعوا إلى الإحصاء، والاستقصاء سبيلا، فهم لم يتركوا مسيرتها، في أول أمرها تمضي هائمة، دون أن يمهدوا لها الطريق، ويجعلوا الروعة أسيرة لها، وموصولة بها، وديناميكية السرد، التي صرعتها الشدائد، وضعضعتها النوائب، لا تُعني بنقل كل الأشياء كما هي، فهناك ثوابت، يجنح لها الرواة، خضوعاً لسنة ماضية في حياكة القصص، وسبك الروايات، فالروائي هاجسه، يصب في حشد المادة المحكية، التي تصطك فيها بيئات العمل المختلفة، فمما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن أقلّ مما يجب أن نعرفه، عن طبيعة العمل الروائي، الذي لم ننقطع عن درسه، وينبغي لنا أن لا ننقطع عن درسه، هو أن يجد مادة خصبة يطرقها الرواة، ويتهافتون عليها، ولعل السمة الطاغية التي باتت واضحة في الروايات، تافهها وجليلها، في عصرنا الحالي، هو انتكاسة تلك المادة، وتشتتها، وتصدعها، فالمادة التي ينهض على دعائمها السرد الروائي، والتي قد يرضى عنها النقاد الذين سحمت ألوانهم، ونحلت أجسادهم، عند تناولها كل الرضى، أو يسخطوا عليها كل السخط، يندرج بين طياتها، الشغف الذي يأسر ذهن القارئ، ويسيطر عليه، فنحن بحكم أهميتها هذه، مضطرين إلى الرجوع إليها كلها، واستيعاب النظر فيها، فإذا وجدناها صحراء شاسعة وممتدة، انفلتنا من رتابة السكون، وإذا وجدنا تضاريسها متنوعة، وطبيعتها خلابة، مكثنا نتأمل روعة الوجود، ثم غدونا نلتمس مدى تناسق وتطابق هذا السحر على البناء العام للرواية، وعلى شخوصها،» فدينامية» الشخصيات المتخيلة في الرواية، والمرتبطة بحيثيات الزمان والمكان، يجب أن تنمو بين ثنايا الرواية، نمواً غير مقصود ولا متعمد، وأن تتسم بالواقعية، وأن تثير القضايا التي تثقل كاهل مجتمعاتها، وليس هذا كل ما نطلبه، ونصر عليه، فبالعودة للمكان الذي يستقي منه الروائي حكايته، يفضل أن يكون للرواية نصيبها من رجحان العقل، وصواب الرأي، وبعد النظر، وذلك بأن تحتوي على نماذج متعددة من الصور والمشاهد، تشكل هذه المظاهر والهيئات، الموجودة في بيئات متباينة، الهوية الجماعية للرواية التي في رحاها تنشب الصراعات الطبقية، والسياسية، والاجتماعية، كما لا بد من القول، إن الروائي يجب أن يعكس لنا في قالب سردي، أدق التفاصيل عن العقدة، والرموز، والدلالات، التي ترسم خيوطها تلك الشخصيات، التي لا ننتظر منها أن تسمعنا عظات الحكماء، أو تضع بين أيدينا اقتباسات من كتب الفضلاء، ولكن ننتظر منها، أن تقدم لنا الوعي ما استطاعت.
والروائي الحاذق، حتى لا يخرق قاعدة التوازن، بين الشخصيات المتناثرة في عمله، والأحداث المسندة إليها، يجب أن يوجهها لما ينبغي أن تتجه إليه، في حسن نظم، وروعة تأليف، وإسقاط حشو وتطويل، حتى تأسر العقول والقلوب والأذواق، وحتى تبسط نفوذها على القارئ أو «المستمع»، حتى يألم لمصيبتها، ويجزع لنائبتها، وأن يجد شيئاً من الرضى والاستمتاع لسعادتها، هذه الشخصيات التي تستحق منا، أن نتفكر في أمرها ونتدبر، في الحق، لن تستطيع قطع بعض الأمتار في رحلتها الطويلة، ما لم ترتبط صورها المفردة، أو المجتمعة، بخصوصية الزمان والمكان ارتباطاً وثيقاً، وعلى الروائي بعد كل هذا، أن يكون خاضعاً لشتى التصاريف، والمذاهب، التي تساهم في تحديد ملامح العمل، وإظهار تكامل ثقافته، وقدراته التخيلية.
نحتاج لضبط وحدات الرواية بشكل بين، وحتى لا يقع الروائي في مهالك الشتات، بسبب عمق بنيتها، وتغاير أحداثها، يجب أن تخضع هذه البنية، لفكرة جامعة، صارمة، لا تنحرف عنها، وفكرة الرواية، التي يمكن ردها إلى أصولها، أو التصرف فيها، يجب أن تبتعد عن الغموض، حتى لا نبحث لها عن معنى، وأن تنأى عن التماهي مع انحدار القيم، فالدهمة التي نسعى إلى التقليص من عتمتها، أطر الفضيلة التي باتت مشوشة بشكل غريب في الأجناس الأدبية، هذه الأجناس بات يفزعنا حقاً، ما صارت إليه من تفسخ، وعري، وانحلال، إن المبدأ الذي من المفترض أن يكون أكثر جذرية في السرديات، ليس هو الشهوة والتنافر، والتدابر والاحتيال والاغتيال، بل هو سيادة التجليات المختلفة للشيم والمحامد، فالشيء الذي نستطيع أن نميزه على وجه الدقة، هو استيعاب فلسفة الرواية لعنصر «الجنس»، ولكن الآن أمست السرديات تكرس لهذا العنصر بصورة جامحة، تفوق ما يستحقه من مساحة في العمل الروائي.
ومن المهم أن نتطرق لصياغة الحبكة الممتعة، التي لا تدلس رأيا، ولا تموه باطلا، والتي يقايس فيها الروائي ويفاضل، وبشكل شديد الايجاز، نقول إن الحبكة، هي الحلقة التي توحد بين عناصر شديدة التباين، وليس شرطا أن نجد فيها مراغم وسعة، وهواءً طلقاً، وحياة وادعة، ولكن المهم أن تظل متماسكة، قصرت فصولها أو طالت، وأن تكون ذات ديمومة منتظمة، تتسم بالسلاسة والتشويق، حتى لو انكفأ «الراوي» يخلط ماضي هذه الشخصيات بحاضرها، وأن تستحوذ التباينات العاطفية، والصراعات المحمومة، على أكبر قدر من الإطالة والإسهاب، وأن تكون هناك مساحة تشحذ خاطر القارئ، وتحفزه تياراتها المدلهمة لتحليل مواقفها، والأمر الذي نستطيع ترديده دون توقف، هو الجمل الدقيقة المستخلصة، التي تزخر بها خاتمة الرواية، والتي تجسد الرؤية المضمرة التي يرزح تحت طلاوتها سحر السرد، والتي يجب أن نحس لها ميزة، ونجد لها طعماً، لأنها كانت شفافة إلى أقصى حد، ولم تكن طلاسم مبهمة، أو ضرباً من التقرير، أو حتى مجرد ميثولوجيا مجهولة، الأمر الذي منحنا أن نواكب هذه الأحاسيس والأفكار، وأن نستظل تحت أفيائها.
ومن المهم أن تتجلى عبقرية كاتب الرواية في شاعرية اللغة، وعذوبة المفردات، فيختار التراكيب اللفظية، التي تخلو سياقاتها من الرزالة، والإسفاف، ويتخذ الأساليب البديعة، التي تشد المواضيع المطروحة، والمحاور المتفرعة عنها، وأن تحفل روايته بنظم الحوارات الشيقة، التي تتراوح بين الاقتضاب والإفاضة، وأن يتجنب الإمعان في رصد المشاعر العابرة، والأفكار الجريئة، فالأمور تجري على هذا النحو في القصص والروايات، التي هضم الكثير منها النظريات الفلسفية، والمعارف العلمية.
كاتب سوداني