ثقافة وفنون

مفهوم الاغتراب في الأدب والفلسفة

 

مفهوم الاغتراب في الأدب والفلسفة

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

الاغترابُ _ في المَنظورِ الأدبيِّ والنَّسَقِ الفَلسفيِّ _ لَيْسَ انتقالًا مِنْ مَكانٍ إلى مَكانٍ ، أو
الابتعادِ عَن الأحبابِ والأصدقاءِ.إنَّهُ شُعورُ الفَرْدِ بالعُزلةِ،والانفصالِ عَن ذَاتِهِ والعَناصرِ
المُحيطة بِه ، أي إنَّ الإنسانَ يَنفصِل عَنْ جَوْهَرِه ، وَيَشْعُر بالغُربةِ وَهُوَ مَوجود بَين الناسِ ،
وَيَعْجِز عَنْ إيجادِ مَعْنى حقيقيٍّ للأحداثِ اليومية والتفاصيلِ الحَياتية ، نَتيجة أسباب نَفْسِيَّة
واجتماعيَّة واقتصاديَّة .
والاغترابُ مُرتبطٌ بالمَسؤوليةِ والحُرِّيةِ للإنسانِ في اختيارِ قِيَمِهِ وأفعالِه ، مِمَّا قَدْ يُسبِّب
لَهُ القَلَقَ والارتباكَ والاضطرابَ ، وهَذا يَعُودُ إلى عوامل كثيرة ، مِنْهَا : فِقْدَان القِيَم الرُّوحِيَّة ،
والتَّغَيُّرات الاجتماعية السَّريعة ، وضُغوط الحَياة الحَديثة ، والابتعاد عَن الطبيعة .
وَتُعْتَبَر قَصَائدُ الشاعرةِ الأمريكية إميلي ديكنسون ( 1830 _ 1886 ) أفضلَ تَعبير عَن
الاغترابِ ، حَيْثُ عَكَسَتْ شُعورَ المُثقفين الأمريكيين بالاغتراب بعد الحرب الأهلية ( 1861 _
1865 ). عَاشتْ في عُزلة معَ أُخْتِها وأُمِّها ، حيث كانت تُفَضِّل كِتابةَ العَالَمِ عَنْ بُعْد ،
فانسحبتْ مِنْهُ لِتَتأمله . وَوَجَدَتْ ذَاتَها في عُزلتها ، كَمَا أنَّها لَمْ تَتَزَوَّجْ . وقد قال أحدُ الشُّعراء
الأمريكيين إنَّ العُزلة التي اختارتها إميلي لِنَفْسِها في بَيْتِ أبيها وفي غُرْفتها الخاصَّة، لَمْ تَكُنْ
هُروبًا مِنَ الحَياة ، بَلْ إنَّ الأمر عَلى عَكْسِ ذلك، فقد كان اعتزالُها مُغَامَرَةً إلى قلب الحياة التي
اختارتْ أن تَكْتشفها وتُروِّض مَجهولَها ، تلك الحياة الشاسعة الخَطِرة ، كثيرة الآلام ، ولكنِ
الأصيلة .
وَالشاعر النمساوي راينر ريلكه ( 1875_ 1926 ) تُعْتَبَر حَيَاتُه مِثَالًا واضحًا عَلى
الغُربةِ والاغترابِ والتَّهميشِ والإقصاءِ، في حِقْبَة اتَّسَمَتْ بِتَوَالي الأزماتِ الاقتصادية،
وسَيطرةِ الرَّأسماليَّة، وَالتَّوَسُّعِ الاستعماريِّ . وَقَدْ جاءتْ أعمالُه الشِّعْرية والنثرية ورسائلُه
تَعْبِيرًا عَنْ إحساسِه الحَياتيِّ العَميقِ بالاغتراب ، وانكفاءِ الفِكْرِ والحَياةِ الرُّوحِيَّة ، وانعزالِها
عَن العَالَمِ الخارجيِّ ، مِمَّا وَلَّدَ حَالَةً مِنَ الحَسَاسِيَّةِ المُفْرِطَةِ التي أنتجتْ بِدَوْرِها انطوائيةً
صَعْبَة .
والأديبُ التشيكي فرانز كافكا ( 1883 _ 1924 ) عَانَى مِنْ غُربته الرُّوحِيَّة واغترابِه
العاطفيِّ ، وعُزلته الوِجْدَانِيَّة ، فَهُوَ يَشْعُر عَلى الدَّوَامِ أنَّه خَارج الزَّمانِ والمَكانِ ، ولا يَنْتمي
إلى العَناصرِ المُحيطة بِه ، فَهُوَ تشيكي المَوْلِد ، يَهُودي الدِّيَانة ، يَكْتُب وَيَتَكَلَّم بالألمانية . وهذا
الأمْرُ يَحْمِلُ في طَيَّاتِهِ بُذورَ العُزلةِ والغُربةِ والاغترابِ ، فالتشيكُ يَعْتبرونه ألمانيًّا ، والألمانُ
يَعْتبرونه يَهُوديًّا . وَمَعَ أنَّه تشيكي المَوْلِد لا يَكْتُب باللغة التشيكية ، وَمَعَ أنَّه يَهُودي الدِّيَانة لا
يَكْتُب باللغةِ العِبْرِيَّة . وَهَذه الغُربةُ المُتفاقِمة جَعَلَتْ مِنْهُ شخصًا خجولًا ومُعَذَّبًا ، وأدخلته في
صِدَامٍ مَعَ وَالِدَيْه ، فصارتْ علاقاتُه الاجتماعية مُتوترة تمتاز بالقَلَقِ والخَوْفِ ، وَلَمْ تَكُنْ
أزماتُه الاجتماعية إلا انعكاسًا لأزماته الرُّوحِيَّة .
والشاعرُ الإيطالي جوزيبي أونغاريتي ( 1888 الإسكندرية بِمِصْر _ 1970 مِيلانو
بإيطاليا )، عَبَّرَ عَنْ ضِيقِه بالعَيش وَتَبَرُّمِه به ، واستحواذِ فِكرة المَوْتِ وَهَاجِسِهِ عَلى نَفْسِه ،
فَبَحَثَ عَنْ وَطَنٍ حَقيقيٍّ ضائع ومُختبئ في ليل الزمان السحيق . كما بَحَثَ عَن " البَرَاءَة
الأُولَى " . وتُظْهِر هذه الأحاسيسُ كُلُّها أنَّ جُرْحَ النَّفْيِ والاغترابِ الذي كانَ يَشْعُرُ بِهِ على
الدَّوَامِ لَمْ يَنْدَمِلْ عِنْدَه . وَقَدْ زَادَ مِنْ حِدَّةِ اغترابِهِ عَنْ وَطَنِهِ آنذاكَ مُعارضته للفاشيَّة وأفكارِها
المُتطرفة، فَشَدَّ الرِّحَالَ،وسافرَ إلى البرازيل،لِيُدَرِّسَ فِيها الأدبَ الإيطاليَّ الحديث خِلال الفَتْرَة (
1937 _ 1942 ) .
والفَيلسوفُ الألمانيُّ كارل ماركس ( 1818_ 1883 ) صَاغَ مَفهومَ المَادِيَّةِ الجَدَلِيَّة
انطلاقًا مِنْ مَفْهُومَي الجَدَلِيَّةِ عِند هِيغل ، والمَادِيَّةِ عِند فيورباخ ، وَوَظَّفَه كَي يُقَدِّمَ تَصَوُّرًا

ماديًّا للتاريخ الإنسانيِّ ، وَشَرَحَ مَفهومَ الاغترابِ ( الاستلاب ) الاقتصاديِّ ، الذي يُؤَدِّي بِدَوْرِهِ
إلى اغترابٍ اجتماعيٍّ وَسِيَاسِيٍّ للإنسانِ، وَفْقًا لأُطْرُوحته . يَرى ماركس أنَّ العَمَلَ في ظِلِّ
الرَّأسماليَّةِ يُؤَدِّي إلى اغترابِ العَامِلِ عَنْ ذَاتِهِ وَعَمَلِهِ المُنْتَجِ وَزُمَلائِه ، وهَذا الاغترابُ يُؤَدِّي
إلى استلابِ الإنسانِ ، وَفِقْدَانِ مُلْكِيَّةِ عَمَلِه، وبالتالي يَفْقِد إنْسَانِيَّتَه، وَيَخْسَر مَشَاعِرَه
وأحاسيسَه وكِيَانَه وَشَخْصِيَّتَه وَهُوِيَّتَه.
والفَيلسوفُ الألمانيُّ مارتن هايدغر ( 1889 _ 1976 ) تَقُومُ فَلسفته على ثلاثة أركان :
القَلَق ، الاغتراب ، المَوْت . وَيَبْرُزُ مَفهومُ الوُجودِ الوَهْمِيِّ ، حَيْثُ يُعَاني الإنسانُ مِنَ الاغترابِ
، فَيَتَقَمَّص الآخَرِين ، ولا يَجِدُ نَفْسَه ، وَهَذه المَرحلةُ تُمثِّل نَوْعًا مِنْ عَدَمِ الوُجود . أي إنَّ
الإنسانَ يَغْفُلُ عَنْ حَقيقةِ وُجُودِه ، وَيَخْضَع لتأثيراتِ المُجتمعِ ، والعَاداتِ، والتَّقاليدِ، وإفرازاتِ
النِّظَامِ الاستهلاكيِّ المَادِيِّ ، وَيَفْقِد ارتباطَه بالذاتِ والعَالَمِ، نَتيجة عَدَمِ وُجودِ مَعنى واضح
للحَياةِ، أوْ لِعَدَمِ قُدْرته على تَحقيقِ الأصالةِ،وهَذا يَجْعَلُهُ يُعَاني مِنَ الغُربةِ الرُّوحِيَّةِ، والاغترابِ
عَنْ ذَاتِهِ ومُحِيطِه . ولا بُدَّ مِنَ التركيز على الأسئلةِ الوُجوديةِ وَمَعْنَى الكَيْنُونة .
والفَيلسوفُ الألمانيُّ الأمريكيُّ إريك فروم ( 1900 _ 1980 ) يُعْتَبَر مِنْ أهَمِّ الفَلاسفةِ
الذين تَعَرَّضوا لأزمةِ الإنسانِ المُعَاصِر، وَقَدْ سَاهَمَ في جَعْلِ مُصْطَلَحِ " الاغتراب" مِنَ
المُصْطَلَحَاتِ المَألوفةِ في القَرْنِ العِشْرين ، مِنْ خِلالِ أبحاثِه وَدِرَاسَاتِه . وَطَرَحَ مَسألةَ غُرْبَةِ
الإنسانِ عَنْ نَفْسِهِ نَتيجة النَّزْعَةِ نَحْوَ الاستهلاكِ التي تَفْرِضُهَا المُجْتَمَعَاتُ الصِّنَاعِيَّة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب