واشنطن لا تهادن: تحجيم السلطة أولوية

واشنطن لا تهادن: تحجيم السلطة أولوية
تصعّد واشنطن ضغوطها على السلطة الفلسطينية بفرض عقوبات على مسؤولين في «منظمة التحرير»، متهمةً إياهم بـ«تدويل الصراع» ودعم «الإرهاب»، في خطوة تعكس أولوية تحجيم دور السلطة لا إسقاطها.
رام الله | تبدو سقوف الاشتراطات الأميركية – الإسرائيلية على الفلسطينيين وكأنها بلا نهاية؛ فمهما قدّم هؤلاء من تنازلات، تبقى في نظر الحليفتَين قليلة، وتستوجب فرض العقوبات، والاستمرار في المذبحة. وضمن هذا المفهوم الذي يرسم حدود سياسة الولايات المتحدة، جاءت العقوبات الأخيرة التي أعلنت عنها وزارة الخارجية الأميركية، أول من أمس، على مسؤولين في السلطة الفلسطينية وأعضاء في «منظّمة التحرير»، بزعم «انتهاكهم التزامات السلام، عبر السعي إلى تدويل الصراع مع إسرائيل». ووفق نصّ بيان الوزارة، فإن «السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير انتهكتا التزاماتهما عبر دعم إجراءات في المنظّمات الدولية، تتعارض مع قرارَي مجلس الأمن 242 و338، ولم تمتثلا لالتزاماتهما بموجب قانون الامتثال لتعهدات منظمة التحرير لعام 1989، وقانون التزامات السلام في الشرق الأوسط لعام 2002». ولفتت إلى أن الجهات التي فُرضت عليها عقوبات «تسعى إلى تدويل الصراع مع إسرائيل، عبر المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدوليتَين»، متّهمةً إيّاها بالاستمرار في دعم «الإرهاب»، بما في ذلك «التحريض على العنف وتمجيده في المناهج الدراسية، وتقديم مدفوعات ومزايا للإرهابيين الفلسطينيين وأُسَرهم». ومن شأن هذه الخطوة أن «تمنع المستهدَفين بالعقوبات، من الحصول على تأشيرات سفر إلى الولايات المتحدة»، فيما اعتبرت الوزارة أن إجراءاتها «تأتي في إطار مصلحة الأمن القومي الأميركية لمحاسبة السلطة ومنظمة التحرير على تقويض فرص السلام».
وفي حين لم تتوقف الشروط والضغوط الأميركية منذ تشكيل السلطة، فإن الديباجة التي تتغنّى بها هذه الأخيرة عن «استقلالية» القرار الفلسطيني، تبدو مثيرة للسخرية، خصوصاً في ظلّ مسارعتها إلى تنفيذ إملاءات واشنطن، وعلى رأسها احتواء الشارع في الضفة الغربية، منذ السابع من أكتوبر، وعدم تصعيد الموقف والمواجهة مع إسرائيل، وصولاً إلى تعيين نائب للرئيس محمود عباس، وتنفيذ مجموعة كبيرة من «الإصلاحات»، مروراً بإعادة النظر في دفع مستحقّات الأسرى والشهداء، وتعيين حكومة جديدة برئاسة محمد مصطفى، والتنكّر لتفاهمات المصالحة الوطنية في بكين. وكانت الولايات المتحدة قد دأبت، خلال العقود الثلاثة الماضية، في إطار الضغط على السلطة، على استخدام عصا «الإصلاحات»؛ وهو مصطلح مرن يمكن أن يستوعب الكثير من القضايا الأمنية والمالية والسياسية والثقافية والإعلامية والتربوية، والتي تستهدف تطويع الفلسطينيين.
شكر ساعر نظيره الأميركي على ما وصفه بـ«وضوح واشنطن الأخلاقي في فرض العقوبات»
مع ذلك، لا تريد الولايات المتحدة انهيار السلطة، بل إضعافها إلى الدرجة التي تجعل إمكاناتها لا تتجاوز سلطةَ حكم محلّي أو بلدية كبرى. ولعلّ ما يثير الاستغراب هنا، أن ثمة دائماً استجابة ومرونة عاليتين تبديهما رام الله إزاء تلك الشروط، إذ شرعت، في الأشهر الماضية، في تنفيذ رزمة شروط غربية وعربية هي أقرب ما تكون إلى الرؤى الإسرائيلية، أملاً في أن تلقى دعماً للعب دور مستقبلي في قطاع غزة، ولكن هذا لم يكن كافياً في نظر واشنطن وتل أبيب. في المقابل، تتعرّى المواقف الأميركية بشكل كامل عندما تصطدم بتلك الإسرائيلية؛ إذ وعلى سبيل المثال، فإن رزمة الإصلاحات التي يطالب بها المجتمع الدولي، تتطلّب إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، ولكن رفض إسرائيل إجراءها في القدس، يجعل واشنطن تغضّ النظر عنها، كي لا تضغط على تل أبيب.
وبينما اتّخذت السلطة سابقاً قرارات بمقاطعة السفير الأميركي في تل أبيب، مايك هاكابي، بسبب مواقفه، فإنها وصلت إلى مرحلة لم تَعُد فيها قادرة على إبداء أيّ معارضة؛ فرغم التطرّف والعنصرية اللذين أبداهما هذا السفير في تأييده المستوطنين في الضفة، وتوّجهه في زيارة إلى إحدى مستوطناتها، ورفضه إقامة دولة فلسطينية ومهاجمته دول العالم التي تسير في هذا المنحى، حظي هاكابي بترحيب في الضفة، سواء من نائب الرئيس حسين الشيخ، الذي التقاه في مكتبه، أو رئيس الوزراء محمد مصطفى، وأخيراً من رجال أعمال فلسطينيين لمناقشة سبل تعاون القطاع الخاص في مشاريع مشتركة ومناقشة خطوات ملموسة لدعم الصادرات والعلامات التجارية الأميركية والقطاع الخاص الفلسطيني.
وسرعان ما احتفت إسرائيل بالقرار، إذ رحّب به وزير خارجيتها، جدعون ساعر، شاكراً نظيره الأميركي، ماركو روبيو، على ما وصفه بـ«وضوح واشنطن الأخلاقي في فرض العقوبات» على مسؤولين في السلطة، وأعضاء في «منظمة التحرير». وشدّد ساعر على أن السلطة «يجب أن تدفع ثمناً لسياستها المستمرّة»، معتبراً أن «هذه الخطوة من إدارة الرئيس دونالد ترامب تكشف الانحراف الأخلاقي لبعض الدول التي سارعت إلى الاعتراف بدولة فلسطينية افتراضية، بينما تغضّ الطرف عن دعم السلطة للتحريض».
ولم يتّضح، إلى الآن، ما إذا كانت العقوبات ستمنع عباس أو مسؤولين كباراً آخرين، من السفر إلى نيويورك للمشاركة في فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي ستنعقد في أيلول المقبل، والتي من المقرّر أن تشهد اعتراف عدد من دول العالم بدولة فلسطين، ومن بينها خصوصاً فرنسا وكندا والبرتغال، وغيرها.
الاخبار