ثقافة وفنون

مرايا «الشّرق» المكسورة

مرايا «الشّرق» المكسورة

واسيني الأعرج

شيء ما غير مريح يحدث في تمثلات الوعي العربي في مواجهة الظرف القاسي الذي يعيشه، من تفتت وانهيارات متتالية وهزائم متكررة في مواجهة حرب تكنولوجية متطورة، وكأنها نهاية التاريخ، وليست تمظهرات لظرفية فرضتها شرطيات تاريخ متحرك. يحدث ذلك عادة عندما تنغلق الآفاق ويصبح الحل عند «العدو»، وهو الذي يفرضه بشروطه المسبقة. حتى لو كنت بعيداً عن مدارات المعركة، أو حتى حليفاً، فهو لن يرى فيك إلا العدو المحتمل الذي يمكن أن ينتفض ضده في أي لحظة. لهذا لم يعد «التطبيع» بالنسبة لاستراتيجيات الكيان الصهيوني حيوياً على أهميته، لأن المطبع وغير المطبع في عرف العدو يتشابهان شعبياً، ويتماهيان. يدرك سلفاً أن الشعوب العربية ممتلئة بعدالة قضيته الأساسية. المغرب اعترف بإسرائيل، لكن من شاهد إضرابات الدار البيضاء وحصار ميناء طنجة لمنع عبور الأسلحة إلى إسرائيل، يعرف قوة الخامة الشعبية المغربية التي ترفض الإذلال. باستثناء الرهانات السياسية، تدرك إسرائيل جيداً أن الشعوب العربية ستظل بعدائها المطلق للإسرائيلي المستعمر، وليس لليهودي الذي لا مشكلة لها معه، بل للصهيوني الذي جعل في فلسطين والأراضي العربية مرتعه لتنفيذ مشروعه الكبير: «الشرق الأوسط الجديد»، أي؛ تحول المنطقة كلها تحت سلطانه.
وربما الخطأ الإسرائيلي الكبير، على الرغم من المكاسب التي حققها، هي شنه حرباً مدمرة ضد إيران، أظهرت بشكل واضح تفوقاً تكنولوجياً كبيراً، ولكنها أظهرت أيضاً أن إسرائيل ليست قوة مطلقة في المنطقة مهما كان ثقل المساعدات الأمريكية. الأماكن التي أصابها الجيش الإيراني لم تكن أقل استراتيجية.
لأول مرة تبدو تل أبيت، على الرغم من منع التصوير من طرف الكيان الصهيوني، وكأنها غزة في لحظات خرابها. ولا أعتقد أن إسرائيل حققت كلياً ما أرادته، وهو ما يقوله الكثير من الخبراء العسكريين في أوروبا، بل أبانت عن ضعف خطير سيفتح «شهية الأعداء»، وأنه يمكن كسر الغطرسة الإسرائيلية. وهذا يفترض أن يبث القوة والعزيمة في نفسية المهزوم، وهو ما حاولت وسائل الإعلام الإسرائيلية والأنجلوسكسونية والأوروبية منعه؛ حتى يظل التفوق الإسرائيلي قائماً. وقد سادت حالة من القتامة والسواد التي تعقب عادة الهزائم الحربية، ويصبح الضعيف مجبراً على الانصياع.
المتأمل اليوم لما يكتب عربياً، من تغطيات ونقاشات (هي ليست أكثر من ردود فعل مباشرة، في أغلبها، دون تقص وتعمق؛ فقد فقدت النقاشات منذ سنوات جانبها السجالي، فعوضت الشتيمة والتخوين والحلول السهلة، كل إمكانية لتأمل حقيقي) يشعر بحالة غير مسبوقة من اليأس الثقيل، التي تجثم على الأكتاف والإحباط، حيث الشلل الكلي، ولا مبادرة في الأفق إلا جلد الذات الذي أصبح الحل الأقرب والأسهل، وكأن هذه الأمة لم تفعل شيئاً على مدار عشرات السنين، كل التاريخ الذي مضى بآلامه وخوفه وانتصاراته حتى ولو كانت يتيمة، لم يترك أي أثر في هذا المجتمع العربي المنكسر الذي يرفض أن يرى نفسه في المرايا العاكسة؟ ويبدو تاريخ القرن التحرري من الاستعمارات الجبارة المتتالية والقاسية، مجرد ظلال هاربة بلا شكل ولا نظام، ومظاهر باهتة لتاريخ ميت يذكر بشكل غريب بحالة العقلية الألمانية التي خرجت من الدائرة الإمبراطورية التي كانت في سقف حماستها، لتنزل إلى الحضيض بعد هزيمة الحربين العالميتين الأولى والثانية. العقلية الجرمانية المتفوقة نزلت إلى الحضيض في شكل شبه دولة مقسمة لقسمين تبعيين؟ اندثرت ألمانيا التقليدية بمعناها الجرماني المتفوق، كلياً، وحلت محلها أحاسيس الهزيمة القاسية التي أصبحت لازمة استمرت حتى اليوم، قبل أن تصبح ألمانيا من جديد، بعد تخطي أزمة اليأس المستديم، لتصبح أقوى دولة اقتصادياً وثقافياً، قبل موجة الأمركة التي مست كل القطاعات في أوروبا. اليأس حالة قد تصيب أمة من الأمم، ولكنه ليس منتهى التجربة الاجتماعية. ليس حلاً، هو في النهاية استسلام للسهولة وعطالة التفكير.
أخطر ما تركه الغرب الاستعماري للعرب هو القنوط وانغلاق الآفاق لأي تطور ممكن في ظل أحادية القطب الأمريكي والرأسمالي المتوحش. وسيطه الأكبر في ذلك الصورة التي رتبها وفق مشيئاته، لدرجة أن وطن اليأس والقبول بالأمر الواقع أصبح هو منتهى كل شيء. وكأنها حقيقة نهاية التاريخ بانتصار الأقوى، في الوقت الذي كانت فيه التحولات العالمية تهز أطروحة فوكوياما ويخرج من الظل المارد الصيني بكل قوته الاقتصادية المهيمنة عالمياً.
كان الطيران الحربي الإسرائيلي لا يعبر سماء عربية قبل استباحتها كلياً، دون أن يترك ريشه أو بعض ريشه في الطريق. اليوم يضرب وقتما يشاء وكيفما يشاء أيضاً. ولم يدرك العربي المزهو «بثوراته» العادلة التي سرقت منه في وقت وجيز، أن الثورات والانتفاضات العادلة التي قام بها لم تكن ثوراته، ولكنها كانت ثورات قادة الاستراتيجيات العالمية القادمة: إسرائيل، أمريكا، أوروبا، روسيا وتركيا. هي من يحدد رهانات وخرائط المستقبل. وليس مستبعداً، وفق هذه المعطيات، أن نفتح أعيننا قريباً على تشققات زلزالية أسوأ من اتفاقيات سايكس بيكو، وخرائط دينية وطائفية وعرقية، وإثنية، لا سلطان لها في حركتها إلا بما يرضي حاكم الظل أو العلني. ونسى العربي أن ثورات لا حياة لثورات/ لثورات، تتكئ على الخارجي في نهجها التغييري، لن يكتب لها أي نجاح في النهاية حتى في حالة انتصارها، أي إزالة الأنظمة السابقة وتعويضها بما هو أسوأ منها، أي ما يتفق والاستراتيجيات الاستعمارية القادمة.
إن العربي لن يكون في النهاية إلا الوقود الذي به تشتعل وتخبو باحتراقه، وباكتشافه أن انتصاراته التي حققها استفاد منها غيره. الخيبة كبيرة؛ لأن الأحلام كلها ستنهار دفعة واحدة، بحيث يصبح من الصعب تحملها وقبولها ويحل محلها جلد الذات. الكم من اليأس الذي يشتعل في داخل الإنسان العربي يحوله اليوم إلى حطبة يابسة غير قابلة للاشتعال مطلقاً. وكأنه لا أفق أبداً. مع أن تاريخ البشرية يفتح أمامنا بارقة الأمل حتى في عز الظلمة.
العربي الطيب عاش على الكذب زمناً طويلاً، ويصعب عليه اليوم هضم الخيبة القاسية حتى ولو بعسر شديد. كانت فلسطين مخبراً استعمارياً لقتل أي أمل في دولة ممكنة. اتسعت اليوم عمليات التقتيل لتشمل الخرائط العربية بلا استثناء: أين العراق الذي عرفناه؟ سوريا التي ملأت ذاكرتنا؟  أين سودان الأمل الكبير، الموحد؟ أين ليبيا التي عرفنا؟ والجزائر اليوم في مرمى القتلة؟
العالم يتغير ونحن أول ضحايا هذه التغيرات. لن نهرب من فكرة [الشرق الجديد]. السؤال الكبير هو: كيف ننتصر لشرق جديد غير ذاك الذي تخيله ويحلم به نتنياهو؟ قد يبدو شرقاً بعيد المنال اليوم، لكن لا مستحيل مع إرادة الشعوب التي لا قوة تهزمها أو حتى تقهرها. لنا في تاريخ البشرية نبع لا ينضب من الأمل.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب