رغم تحذيرات بأن “غزة ليست برلين بل بغداد ومقديشو”.. التهديد باجتياح جديد حقيقي واستمرار لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية

رغم تحذيرات بأن “غزة ليست برلين بل بغداد ومقديشو”.. التهديد باجتياح جديد حقيقي واستمرار لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية
الناصره /وديع عواودة
فيما تتجدد اليوم الأحد المظاهرات في إسرائيل ضد توجهات حكومتها، واحتجاجاً على تعنّتها في مواصلة الحرب وتعطيل الصفقة، يحذّر عددٌ من المراقبين فيها من تبعات اجتياح مدينة غزة واستمرار النزيف ومن نتائج قتل فكرة تسوية الدولتين.
استجابةً لنداء منتدى “عائلات المختطفين”، بدأ عشرات آلاف الإسرائيليين، منذ صباح اليوم الأحد، إضراباً عن العمل، والمشاركة في مظاهرات متصاعدة منذ ليلة أمس، ومن المتوقع أن تستمر الاحتجاجات، مع تعطيل حركة القطارات والموانئ البرية والجوية وإغلاق عشرات الشوارع للضغط على حكومة الاحتلال من أجل وقف الحرب وتبادل الأسرى.
دانئيلا لندن ديكل: هذه المبادرة تقبر نهائياً فكرة الدولة الفلسطينية، قال سموتريتش، لكن يحتمل أن تقبرنا نحن أيضاً
وكل ذلك يأتي على خلفية تهديدات واستعدادات الاحتلال لبدء تنفيذ خطة عسكرية صادق عليها “الكابنيت” لاحتلال مدينة غزة بوصفها “آخر معاقل حماس”، كما زعم نتنياهو، الذي سبق أن عطّل الصفقة السابقة بانتهاك وقف النار في آذار الماضي، والمبادرة لعدوان جديد ضمن حملة “مراكب جدعون” الفاشلة.
ويبقى السؤال: هل ينجح “يوم الغضب” الإسرائيلي (يوم الإضراب أو تعطيل الحياة الاعتيادية) في زحزحة حكومة الاحتلال عن غيّها ومخطّطاتها التوسعية العدوانية المدفوعة باعتبارات أيديولوجية لا حسابات سياسية داخلية فقط؟ هل تهز الاحتجاجات في طول وعرض البلاد اليوم الجدران الإسمنتية القائمة حول قلوب وزراء وأمراء هذه الحرب المتوحّشة؟
هذا يتعلّق بحقيقة موقف الإسرائيليين من حرب الإبادة، ومن جاهزيتهم للمشاركة في الاحتجاجات بشكل أوسع مما كان حتى الآن. حتى تُحدث الاحتجاجات المتزايدة اختراقاً في موقف حكومة الحرب وتؤثّر على حساباتها، ينبغي أن يكون “يوم الغضب” اليوم بداية لا نهاية التصعيد. فنتنياهو سيأخذها بالحسبان عندما يتضاعف عدد المتظاهرين من عشرات الآلاف إلى مئات الآلاف.
ولذا، من غير المستبعد أن تكون التصريحات والتسريبات، في الأيام الأخيرة، عن احتمال عقد صفقة جزئية محاولة قديمة جديدة من قبل نتنياهو لتبريد الاحتجاجات وتخديرها، كما يشير أيضاً المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل ضمن مقال بعنوان “توقيت مريب”.
دون درجة الغليان
مثلما أن الاحتجاجات في الداخل متردّدة وفاترة أو حامية أكثر لكنها لم تبلغ درجة الغليان بعد، فإن حكومة الاحتلال تستفيد أيضاً من عدم تحوّل الاحتجاجات الشعبية الواسعة في العالم لمواقف رسمية وخطوات عملية من قبل حكومات العالم.
حتى الآن، ما زالت انتقادات حكومات الغرب مخفّفة وملطّفة، وترافقها أحياناً اعترافات بدولة فلسطينية، أو وعود بذلك، غير أن هذه ـ رغم أهميتها للمعركة على الوعي ـ غير كافية للضغط على نتنياهو وفرملة مراكبه التدميرية. فالفلسطينيون، الذين يواجهون عمليات قتل وتهجير ومساعي تصفية قضيتهم الوطنية، يحتاجون لأفعال تضيّق الخناق على إسرائيل من أجل وقف نكبتهم الثانية، وليس اعترافاً بدولة لهم غير مطروحة لا اليوم ولا غداً أو بعد غد.
كما يستفيد الاحتلال من انقلاب وكذب الإدارة الأمريكية، فحتى الآن يواصل ترامب منح نتنياهو ضوءاً أخضر لمواصلة العدوان. حتى إن مراقبين إسرائيليين باتوا يعربون عن خيبة أملهم من ترامب، كما يقول على سبيل المثال اليوم المحلّل السياسي في صحيفة “يديعوت أحرونوت” شيمعون شيفر، مشيراً إلى أن الآمال الإسرائيلية التي عُقدت على ترامب تبدّدت، معتبراً أن التغيير يكون بتغيير هذه الحكومة البليدة، داعياً الإسرائيليين للخروج من سكينتهم وتصعيد الاحتجاجات كونها مهمة لكل الإسرائيليين. وهذا ما تؤكّده صحيفة “هآرتس” في افتتاحيتها اليوم.
قوة التدمير الذاتي
بما يتعلّق بالمستقبل الأبعد، يتفّق شيمعون شيفر مع التقدير الصحيح بأن حكومة الاحتلال تسعى عملياً لمحاولة تصفية القضية الفلسطينية، منوهاً أن نتنياهو ـ لا سموتريتش ـ هو من يقف خلف خطة الاستيطان في منطقة الخان الأحمر شرقي القدس المحتلة، في محيط أم المستوطنات معاليه أدوميم، بغية تقطيع أوصال الضفة الغربية، والحيلولة دون قيام دولة فلسطينية في الأرض المحتلة عام 67.
وفي الجوهر، يرى شيفر أن من خلاصات “7 أكتوبر” خلاصة مفادها أن استمرار تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني يعني استمرار النزيف والعيش على حد السيف. يستند شيفر بذلك، في مقاله اليوم، إلى كتاب جديد للأديب الإسرائيلي الراحل عاموس عوز يجمع كل تصريحاته ومحاضراته في السنوات الأخيرة، وفيها يحذّر من “قدرة التدمير الذاتي لدى اليهود”.
وهذا ما تحذّر منه أيضاً الأديبة والمخرجة الإسرائيلية دانئيلا لندن ديكل في مقال بعنوان “هكذا يبنون دولة واحدة”، تنبّه فيه إلى خطورة الاستيطان بين القدس وأريحا. في مقالها المنشور في صحيفة “هآرتس” تقول ديكل إن كل واحد من الإسرائيليين، ممن لا يزال يحلم بإمكانية العيش هنا حياة لا تستند على الحروب والقتل والفقدان، يجب أن تهزّه خطة سموتريتش الاستيطانية المذكورة لقطع الاتصال الجغرافي الفلسطيني. وتعلّل ذلك بالقول: “هذه المبادرة تقبر نهائياً فكرة الدولة الفلسطينية”، قال سموتريتش، “لكن الحقيقة أن هناك احتمالاً أن تقبرنا الخطة نحن أيضاً”.
غزة بغداد لا برلين
ينضم لهذه الانتقادات المحاضر في الشؤون الفلسطينية بجامعة تل أبيب ميخائيل ميليشتاين، الذي يؤكد مجدداً أن إسرائيل تتقن إدارة شؤونها في عدة جبهات ومجالات بحكمة، عدا في موضوع غزة حيث تشهد خطوات “مسيانية” خطيرة.
في مقال تنشره “يديعوت أحرونوت” اليوم، يرى ميليشتاين، جنرال في الاحتياط وقائد سابق لوحدة الدراسات في الاستخبارات العسكرية، أن القرار باحتلال غزة يعني أن إسرائيل توقفت عن تردّدها وباتت تسلك طريقاً واضحة: التنازل عن المخطوفين دون تبليغ الجمهور الإسرائيلي بذلك، وحياة الإسرائيليين ستتغيّر بشكل دراماتيكي إذ سنتورط في وحل غزة”.
ويتساءل ميليشتاين: لماذا لا نتبنى “الموديل اللبناني” في غزة؟ مشيراً إلى ضرورة وقف الحرب، ومهاجمة كل تهديد موضعي، واستبدال “حماس”، لأن انتظار موافقة “حماس” على نزع سلاحها وهم. ويمضي في تحذيراته من اللهاث خلف “النصر المطلق” المفقود الذي سيكلف إسرائيل ثمناً إضافياً موجعاً: “من المرجح أن يستكمل الجيش احتلال غزة في الشهور القريبة، وعندئذ سيكتشف أنه ليس في برلين بل في بغداد أو في مقديشو… وأنه قد تورط بحرب استنزاف تضطرنا لصرف الأنظار عن مساعي إيران للتسلح من جديد، وهذا هو التهديد الوجودي الحقيقي علينا اليوم”.
شيفر: الآمال الإسرائيلية التي عُقدت على ترامب تبدّدت، والتغيير يكون بتغيير هذه الحكومة البليدة
حرب الإبادة واستعداد الفلسطينيين لها
وهناك جهات إسرائيلية غير رسمية تواصل التحذير من تبعات “التسونامي” العالمي ضد إسرائيل، بحال استمرت الحرب ودخل الاحتلال مدينة غزة من جديد. فتخاطب حركة “يوجد حد”، في إعلان مدفوع الأجر اليوم، الجنود الإسرائيليين بالقول: “أيها الجنود لا تشاركوا في حرب الإبادة”، موضحة أن جنوداً وضباطاً إسرائيليين شاركوا في قتل 43 مدنياً من المواطنين العرب ضمن مذبحة كفر قاسم خلال حرب السويس عام 1956، مذكّرة بمحاكمتهم وبضرورة عدم احترام التعليمات غير القانونية أصلاً.
في هذا السياق، يتحدث المعلّق اليساري في صحيفة “هآرتس” جدعون ليفي بلغة ساخرة، ويقول إنه ينبغي تقديم كلمة شكر لرئيس الاستخبارات العسكرية المستقيل الجنرال أهارون حليوه، الذي قال، في تسريبات مسجلة قبل يومين، إننا “قتلنا 50 فلسطينياً مقابل كل إسرائيلي قتيل، وإن الفلسطينيين بحاجة لنكبة كل فترة وفترة”، منوهاً أن هذه التسريبات تقدم دليلاً على وجود خطة مسبقة للإبادة، ما دفع العالم للخروج للشوارع والتظاهر ضد إسرائيل التي باتت دولة منبوذة.
ويبقى السؤال: هل وكيف تؤثر هذه الاحتجاجات والتحذيرات الداخلية والخارجية على حكومة نتنياهوـ بن غفير؟ حالياً، يقدّم كاريكاتير صحيفة “يديعوت أحرونوت” اليوم جواباً على ذلك، حيث يظهر فيه نتنياهو مقابل دكان مغلق (مضرب) متسائلاً: “ماذا عدا مما بدا؟ فأنا منذ فترة طويلة لا أكترث، ولا أفعل شيئاً من أجل المختطفين”.
وهذا يعني أن تهديدات الاحتلال باجتياح غزة حقيقة، وينوي قريباً الشروع بها، وليس للضغط على “حماس” ودفعها لصفقة، بل هو جزء من خطة حكومة الاحتلال لحسم الصراع مع كل الشعب الفلسطيني بالحديد والنار وقتل فكرة الدولة. فهل يرد هذا التهديد الخطير، الذي يتجاوز حدود غزة ومستقبلها، في حسابات الجانب الفلسطيني؟
“القدس العربي”: