فاجعة وادي الحراش في الجزائر.. قرار رئاسي بسحب الحافلات المتهالكة وتوقيف قنوات بسبب “أخلاقيات التغطية”

فاجعة وادي الحراش في الجزائر.. قرار رئاسي بسحب الحافلات المتهالكة وتوقيف قنوات بسبب “أخلاقيات التغطية”
الجزائر-
لا يزال الحادث الأليم، الذي أودى بحياة 18 شخصاً بعد سقوط حافلة في وادي الحراش بالعاصمة الجزائرية، يُلقي بظلال ثقيلة على النقاش العام والقرارات الحكومية. ففي وقت لا يزال حزن العائلات طريا، وجد الجزائريون أنفسهم أمام أسئلة مُلحّة عن تحديد المسؤوليات ونجاعة السياسات المتبعة في مجال النقل، مع تفرع الجدل إلى مواضيع أخرى ثانوية، لكنها لا تقل أهمية عن التغطية الإعلامية التي رافقت الحادث المأساوي.
وفي أجواء مهيبة، تحولت الجنازات إلى مشاهد وطنية مؤثرة، حيث شارك الآلاف في تشييع الضحايا بالعاصمة والبويرة، في أجواء امتزجت فيها التكبيرات بالدموع، وسط حضور كبار مسؤولي الدولة. وظهر التضامن الشعبي جلياً في مقبرة العالية، حيث ارتفعت أصوات الحاضرين بالدعاء، فيما عبّر المواطنون عن غضبهم من تكرار الكوارث على الطرقات. ونقلت الكثير من القصص الإنسانية عن الضحايا ولحظاتهم الأخيرة، في أجواء من التفاعل الكبير على مواقع التواصل.
وكان الرئيس عبد المجيد تبون، قد أعلن حداداً وطنياً ليوم واحد مع تنكيس الأعلام، وأوفد وفداً وزارياً لمواساة العائلات والاطمئنان على حالة الجرحى بمستشفى مصطفى باشا الجامعي، حيث سخّرت الأطقم الطبية كل الإمكانيات المتاحة، كما أعقب ذلك إعلان الرئيس قرارات عاجلة، أبرزها سحب الحافلات القديمة التي تجاوزت 30 سنة من الخدمة في أجل أقصاه ستة أشهر، وتمكين أصحابها من اقتناء مركبات جديدة بتسهيلات خاصة، إضافة إلى ذلك، تقرر إدراج مدارس تعليم القيادة ضمن التحقيقات المستقبلية للحوادث المميتة، في محاولة لإصلاح شامل للمنظومة.
غير أن هذه الإجراءات لم تُسكت الأصوات المنتقدة، فقد حمّل حزب العمال السلطات العمومية مسؤولية مباشرة في حادثة سقوط الحافلة، معتبراً أن ما وقع هو “فاجعة مروعة” كان بالإمكان تفاديها. وفي بيان أصدره مكتبه السياسي، ذكّر الحزب الذي تقوده لويزة حنون، بأن هذه الفاجعة ليست الأولى من نوعها، مشيراً إلى أن الجزائر تسجّل أسبوعياً عشرات الحوادث القاتلة، حتى بات الإعلام يصفها بـ”إرهاب الطرقات”.
وانتقد في هذا السياق ما وصفه بـ”تقصير السلطات”، إذ اكتفت- حسب البيان- بتحميل السائقين المسؤولية في معظم الحالات، متجاهلة الأسباب الهيكلية المرتبطة بقدم واهتراء الحافلات، وانعدام قطع الغيار، وغياب التقييس، فضلاً عن الوضع الكارثي للطرقات بما في ذلك داخل العاصمة.
ولفت البيان إلى أن النقص الفادح في صيانة الطرق السيارة، والصفقات “المشبوهة” المتعلقة بترميمها، يضاعفان من المخاطر، حيث لا تصمد الأشغال إلا لفترة قصيرة أو تتسبب في تخريب جديد، مثلما حدث- وفق الحزب- بجسر الحراش حيث وقع الحادث. كما أشار إلى الظروف الخانقة التي يعمل فيها السائقون، وإلى النقص الكبير في وسائل النقل، خصوصاً بالأحياء الجديدة التي تفتقر إلى أبسط المنشآت والمرافق الأساسية، وهو ما يحمّل- يضيف البيان- عدة قطاعات حكومية وعلى رأسها وزارة النقل، مسؤولية مباشرة.
وأكد حزب العمال أن الوقت قد حان “لوضع حد لآلة الموت هذه” عبر مراجعة السياسات المتسببة فيها ومحاسبة جميع المسؤولين “الشركاء في الجريمة” بسبب إهمالهم ولا مبالاتهم رغم تكرار الحوادث وارتفاع حصيلتها، معتبراً أن هذه الفاجعة يجب أن تكون “نقطة تحول” في طريقة تعاطي السلطات مع المشاكل التي تفاقم معاناة المواطنين.
من جانبه، اعتبر نائب المجلس الشعبي الوطني عبد الوهاب يعقوبي أن ما جرى هو نتيجة مباشرة لسياسة غلق الاستيراد التي أبقت الجزائريين رهائن حظيرة وطنية متهالكة، فضلاً عن سوء البنية التحتية وغياب استراتيجية حقيقية للسلامة المرورية. وأكد أن الجزائر باتت تتصدر إحصائيات الوفيات في الطرقات بالمنطقة، داعياً إلى تبني خطة طموحة بعنوان “صفر قتلى” أسوة بتجارب ناجحة في العالم.
وفي الفضاء الافتراضي، انفجر الغضب الشعبي عبر مئات المنشورات التي حمّلت السلطات مسؤولية ترك الحافلات القديمة تجوب الطرقات، محذّرة من أن منع الاستيراد جعل حياة المواطنين مرتبطة بوسائل نقل غير آمنة. وذهب بعض المعلقين إلى وصف ما يحدث بأنه “قتل غير مباشر” نتيجة قرارات غير مدروسة، فيما تساءل آخرون بمرارة عن سبب استمرار إهمال النقاط السوداء في الطرقات رغم التحذيرات المتكررة.
كما اعتبر يعقوبي أن تعطيل استيراد المركبات وقطع الغيار الأصلية ساهم بشكل مباشر في اهتراء الحظيرة الوطنية وتحولها إلى “خطر يومي”، محمّلاً الحكومة والبرلمان معاً مسؤولية استمرار هذا النزيف البشري. ودعا إلى إطلاق خطة وطنية عاجلة تحت شعار “صفر قتلى”، وتشديد العقوبات على المخالفات المرورية، وتفعيل الرقابة البرلمانية.
وفي السياق نفسه، عبّر مواطنون وناشطون عن غضبهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث شدد كثير منهم على أن قرار غلق الاستيراد زاد من معاناة الجزائريين وجعلهم عرضة لكوارث مميتة بحافلات مهترئة “لا تصلح لنقل المواطنين”. وكتب أحدهم أن “الحافلة التي سقطت لا تصلح في الطرقات”، في إشارة إلى قدم وسائل النقل، فيما رأى آخرون أن السياسة الحالية أدت إلى استفحال حوادث المرور.
وذكر الناشط الحقوقي ياسين بودهان أن الحادث يجب أن يكون “جرس إنذار حقيقياً”، مؤكداً ضرورة مراجعة القوانين المنظمة لنشاط الحافلات الخاصة، خاصة تلك التي تجاوز عمرها التشغيلي، مع فرض فحوص تقنية صارمة وإنشاء لجان مشتركة لمراقبة النشاط. أما الصحفي ياسين بلمنور، فانتقد محاولة تحميل السائق وحده المسؤولية في حين أن الجسر الذي سقطت منه الحافلة معروف منذ التسعينيات بحفره الخطيرة وصيانته المؤقتة.
وبينما يستمر التحقيق في حادث وادي الحراش، تمنى البعض في تعليقاتهم، أن تشكل هذه الفاجعة نقطة تحول نحو إصلاح جذري في سياسات النقل والسلامة المرورية، وأن لا يطوى الملف بمجرد انتهاء الحداد وتقديم واجب العزاء.
توقيف 4 قنوات
وعلى هامش هذا الحادث، برز نقاش آخر حول تعامل القنوات مع الحادث، وهو ما اعتبره البعض غير مهني باستجواب المصابين وتصويرهم في المستشفيات، رغم أن هناك من رأى هذا الأمر شائعا في مثل هذه الكوارث في العديد من الدول. وإثر ذلك، قررت السلطة الوطنية المستقلة لضبط السمعي البصري، توقيف قنوات “البلاد، الوطنية، الحياة والشروق” عن البث ابتداء من الساعة العاشرة والنصف ليلاً (22:30) ولمدة 48 ساعة متواصلة، وذلك على خلفية ما وصفته بـ”إخلالات مهنية فادحة” في تغطيتها لحادث سقوط حافلة بوادي الحراش.
وأوضحت السلطة، في بيان لها، أن هذه القنوات ارتكبت تجاوزات مهنية جسيمة تمثلت في “استجواب جرحى داخل مرافق الاستعجالات والإنعاش، وملاحقة أهالي الضحايا في لحظات الصدمة، وبث صور وأصوات صادمة من دون أي تنبيه مسبق، فضلاً عن السعي لتعظيم مؤشرات التفاعل على حساب كرامة المواطن وخصوصيته”.
وعبّرت السلطة عن رفضها القاطع للممارسات التي اعتبرتها “انتهاكاً صارخاً لكرامة الإنسان وخصوصيته وخروجاً عن مقتضيات المهنة”، مؤكدة أن الأداء الإعلامي المطلوب في مثل هذه اللحظات الأليمة يجب أن يقوم على “احترام الكرامة والخصوصية، حماية الفئات المكلومة، وعدم تحويل المأساة إلى مادة للإثارة والسبق الإعلامي”.
كما دعت غرف الأخبار إلى التركيز على “التقارير الميدانية والتحقيقات الصحافية الجادة في ملابسات الحادث، والتحقق الدقيق من المعلومات، والالتزام بحرمة الفضاءات الطبية”، معتبرة أن “حرية الإعلام مسؤولية، ولن يتم التسامح مع أي إخلال يمس كرامة المواطن وسمعة المهنة”.
“القدس العربي”: