إسرائيل تحت ضغط الشارع: من حرب تشرين إلى الطوفان

إسرائيل تحت ضغط الشارع: من حرب تشرين إلى الطوفان
ما هي أبرز الاحتجاجات في إسرائيل؟ وماذا كانت نتائج كلّ منها؟ وهل ستزعزع الاحتجاجات الأخيرة أسس كيان الاحتلال؟ أم ستصمد حكومة بنيامين نتنياهو في وجهها؟
شهدت إسرائيل في الأيام الفائتة موجة من التظاهرات الحاشدة التي اجتاحت شوارع تل أبيب وعدد من المدن المحتلة الكبرى، رفضاً لاستمرار العدوان على غزة، والتي وُصفت بالأكبر في تاريخ الاحتلال.
الحقيقة أن أرض فلسطين المحتلة لم تعرف الهدوء يوماً، فمنذ اللحظات الأولى لتأسيس الكيان، كان الصراع الداخلي جزءاً لا يتجزأ من تركيبته.
فما هي أبرز الاحتجاجات في إسرائيل؟ وماذا كانت نتائج كلّ منها؟ وهل ستزعزع الاحتجاجات الأخيرة أسس كيان الاحتلال؟ أم ستصمد حكومة بنيامين نتنياهو في وجهها؟
تظاهرات حرب تشرين: صدمة داخلية بعد الهزيمة
بعد حرب تشرين عام 1973، والتي شكّلت هزيمة معنوية لجيش الاحتلال نتيجة الهجوم السوري – المصري المفاجئ لاستعادة الأراضي التي خسرتها مصر وسوريا في حرب الـ1967، ظهرت بوادر أزمة داخلية في الكيان، وتمّ تشكيل لجنة «أجرانات» للتحقيق في أسباب عدم توقّع جيش الاحتلال والحكومة للحرب.
وفي شباط 1974، نظّم ضابط الاحتياط في جيش الاحتلال موتي أشكنازي وقفة احتجاجية صغيرة قبالة مكتب رئيسة الوزراء غولدا مئير، مطالباً إياها بتحمل المسؤولية، وإقالة وزير الدفاع موشيه ديان.
وسرعان ما انضم إليه الآلاف، ليصبح الاحتجاج هو الأكبر الذي تشهده دولة العدو في ذلك الوقت، كاشفاً عن استياء كبير لدى المستوطنين، الذين فقدوا الشعور بالأمان للمرة الأولى.
وعلى الرغم من أن تقرير اللجنة حمّل الجيش مسؤولية «الهزيمة»، وأشاد بكل من مئير وديان، غير أن الشارع لم يكن راضياً، واستمرت التحركات الأسبوعية بالآلاف، ما دفع رئيسة الوزراء إلى تقديم استقالتها وإسقاط حكومتها في العاشر من نيسان قائلةً: «لقد استمعتُ إلى ما يدور في أوساط الجمهور. هناك استياء لا ينبغي تجاهله».
شباب «غوش أمونيم»: نحو الاستيطان
مع بداية الثمانينيات، برزت حركة شبابية استيطانية جديدة تحت اسم «غوش أمونيم»، ضمّت مستوطنين متشدّدين يطالبون بتوسيع السيطرة على القدس الشرقية والمستوطنات في الضفة الغربية.
لم يكتفِ هؤلاء بالنشاط السياسي التقليدي، بل أقاموا مستوطنات في مناطق استراتيجية، مهدّدين باستخدام السلاح في حال محاولة نقلهم من مواقعهم.
-
أقام شباب «غوش أمونيم» مستوطنات في مناطق استراتيجية (من الويب)
نفّذت الحركة عبر السنوات احتجاجات أمام الوزارات ومكاتب حكومة الاحتلال رافضةً أي تسوية مع الفلسطينيين، أو أي قانون أو قرار حكومي يتعارض مع مبدأ «أرض إسرائيل الكاملة تحت السيادة اليهودية».
- وفي عام 1975، وافقت الحكومة الإسرائيلية بقيادة حزب «المعراخ» على إنشاء أول مستوطنة في الضفة المحتلة، وهي «أوفرا»، التي تأسّست على أراضٍ فلسطينية خاصة في رام الله. ومع صعود حزب «الليكود» إلى السلطة في عام 1977، تمّ «إضفاء الشرعية» على المستوطنة، ما مهّد الطريق لتوسيع الاستيطان.
صبرا وشاتيلا تطيحان بشارون
في أعقاب مجزرتي صبرا وشاتيلا في لبنان، برزت حركة «السلام الآن» التي تأسّست في عام 1978 على أيدي ضباط احتياط إسرائيليين بهدف الضغط من أجل «تسوية سلمية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني».
وقد نظّمت الحركة في أيلول من العام نفسه تظاهرة شارك فيها أكثر من 400 ألف شخص في تل أبيب، مطالبين بالتحقيق في المجزرتين ومحاسبة المسؤولين.
استجابةً لهذه الضغوط، شكّلت الحكومة لجنة «كاهان»، وقد حمّل تقريرها، الذي صدر بداية شباط من العام التالي، حزب الكتائب اللبناني المسؤولية المباشرة، لكنه اعتبر حكومة الاحتلال «مسؤولةً بشكل غير مباشر» عنها، وأوصت اللجنة بإقالة وزير الدفاع حينها أرييل شارون بسبب «إهماله في منع المجزرة».
وعلى إثر التقرير، استقال الأخير في 24 شباط 1983.
«الأمهات الأربع»
تُعدّ «الأمهات الأربع» من أبرز الحركات الاحتجاجية وأكثرها تأثيراً في تاريخ دولة الاحتلال. وقد تأسّست إثر تحطّم مروحيتين تابعتين لجيش الاحتلال أثناء توجههما إلى جنوب لبنان عام 1997، ما أسفر عن مقتل 73 جندياً.
دفع الحادث بأربع أمهات لجنود يخدمون في لبنان إلى الخروج إلى الشارع وتنظيم احتجاجات صغيرة بدايةً، للمطالبة بالانسحاب الفوري وغير المشروط من الجنوب اللبناني.
وقد لقيت هذه التحركات صدى واسعاً، خاصة في ظل تصاعد عمليات المقاومة اللبنانية ضد مواقع الاحتلال ودورياته في الشريط الحدودي المحتل، وما نتج منها من تزايد أعداد القتلى الجنود.
ومع مرور الوقت، تمكنت الحركة من تنظيم فعاليات حاشدة شارك فيها الآلاف، ما دفع المرشحين الثلاثة لرئاسة الوزراء آنذاك لتقديم وعود بإعادة أبنائهم إلى «الوطن».
وبعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، حلّت الحركة حلّ نفسها وأنهت عملها، معتبرةً أنها أنجزت الهدف الذي قامت من أجله.
«فك الارتباط» وصعود نتنياهو
شهدت إسرائيل عام 2005 موجة احتجاجات واسعة ضد خطة فك الارتباط التي أقرّتها حكومة شارون، والتي قضت بالانسحاب من قطاع غزة.
وقد نظّم المستوطنون حينها عشرات التظاهرات التي شارك فيها عشرات الآلاف، رافعين شعارات مثل «يهود لا يطردون يهوداً»، في محاولة لوقف الخطة التي نُفّذت بالقوة في الخامس من آب.
في ظل هذه الاحتجاجات، قدّم رئيس حكومة العدو الحالي بنيامين نتنياهو، الذي كان وزير المالية حينها، استقالته من منصبه، معتبراً أن الخطة «تمنح الإرهاب قاعدة عمليات جديدة».
رفعت هذه الخطوة شعبية نتنياهو بين التيار اليميني والمستوطنين، وأظهرت استطلاعات الرأي حينها أنه المرشح الأوفر حظاً لقيادة «الليكود»، ما مهّد الطريق لصعوده لاحقاً إلى رئاسة الحكومة، خصوصاً مع انشقاق شارون وتأسيسه حزب «كاديما».
حرب تموز: أولمرت يتمسّك بالسلطة
صيف 2006، عادت الاحتجاجات إلى تل أبيب بعد انتهاء عدوان تموز على لبنان، والفشل العسكري والسياسي الذي مُني به العدو.
وقد شهدت ساحة رابين في تل أبيب في آب الـ2007 تظاهرة حاشدة شارك فيها حوالى 150-200 ألف مستوطن، بعدما بحث «الكنيست» في جلسة استثنائية تقرير لجنة «فينوغراد» الذي حمّل المستويين السياسي والعسكري مسؤولية الحرب، التي «نجحت فيها مجموعة من آلاف المقاتلين في الصمود لأسابيع طويلة أمام الجيش الأقوى في الشرق الأوسط»، ما ولّد شعوراً «قوياً لدى الجمهور (الإسرائيلي) بالانكسار والخيبة».
-
رغم الاحتجاجات تمسّك أولمرت بمنصبه (من الويب)
رغم الاحتجاجات، تمسّك أولمرت بمنصبه، بينما تصاعدت، مرة أخرى، شعبية نتنياهو الذي تصدّر استطلاعات الرأي، خلفاً لأولمرت.
«الأعلام السود» تُسقط بنتنياهو… مؤقّتاً
انطلقت احتجاجات «الأعلام السود» في حزيران 2020، واستمرت حتى الشهر نفسه من عام 2021، وجاءت هذه الاحتجاجات في سياق أزمة سياسية وصحية، فكان نتنياهو يواجه اتهامات بالفساد، إضافة إلى انتقادات واسعة لإدارته جائحة كورونا.
وقد تجمّع المتظاهرون في مدن عدّة، حاملين الأعلام السود، مطالبين باستقالة نتنياهو بسبب تهديده «للديمقراطية الإسرائيلية».
وصل عدد المشاركين في ذروة الاحتجاجات إلى عشرات الآلاف، وتمّ إغلاق شوارع رئيسية وتعليق بعض الأنشطة العامة، ما زاد من الضغط على الحكومة، خصوصاً مع مشاركة شخصيات سياسية بارزة.
أدّى هذا الضغط إلى تشكيل حكومة جديدة بقيادة نفتالي بينيت ويائير لابيد في حزيران 2021، عبر ائتلاف واسع ضمّ أحزاباً من اليمين والوسط واليسار، إضافةً إلى حزب عربي، ما أدّى عملياً إلى تنحي نتنياهو بعد 12 عاماً في الحكم.
غير أن التنوّع الحزبي انعكس خلافات داخلية حادّة حول ملفات مختلفة. وفي حزيران 2022، أعلن بينيت استقالته من رئاسة الحكومة، فتسلّم لابيد المنصب مؤقتاً. ومع نهاية العام، تم حلّ «الكنيست» والدعوة لانتخابات جديدة، أعادت نتنياهو إلى السلطة.
التعديلات القضائية
بدأت أزمة التعديلات القضائية مع طرح حكومة نتنياهو خطة لإضعاف صلاحيات المحكمة العليا وتعزيز نفوذ الحكومة و«الكنيست» على التعيينات القضائية، ما اعتُبِر تهديداً جديداً لـ«الديمقراطية الإسرائيلية»، خصوصاً أن نتنياهو نفسه يواجه تهماً بالفساد.
ومنذ كانون الثاني 2023، خرج مئات الآلاف أسبوعياً في مناطق مختلفة من الأراضي المحتلة، في احتجاجات اعتُبرت «الأكبر في تاريخ إسرائيل»، وشملت إضرابات عامة نفّذتها قطاعات واسعة مثل الأطباء والطيارين وجنود الاحتياط.
-
خرج مئات الآلاف أسبوعياً في احتجاجات اعتُبرت «الأكبر في تاريخ إسرائيل» (من الويب)
تحت ضغط الشارع، علّق نتنياهو جزءاً من الخطة في آذار 2023. وفي بداية 2024، ألغت المحكمة العليا أحد أهم بنود الإصلاح، معتبرة أنه يهدد التوازن بين السلطات. غير أن «الكنيست» عاد وأقرّ، قبل أشهر، نسخة مخفّفة منه تركّز على تعديل آلية تعيين القضاة، في مواجهة طويلة بين الحكومة والقضاء والمستوطنين.
«طوفان الأقصى» وما بعده
جاءت عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023 لتشكّل صدمةً جديدةً، إذ بدت الأجهزة الإسرائيلية عاجزة عن حماية المستوطنين، ما أعاد إلى الأذهان حرب تشرين 1973.
ومع اتساع العدوان الإسرائيلي على غزة، خرجت تظاهرات متفرقة داخل الأراضي المحتلة، طالب بعضها بالانتقام، بينما ركّزت أخرى على إعادة أسرى الاحتلال، قبل أي اعتبارات عسكرية.
ومع دخول الحرب شهرها السادس والسابع، شارك حوالى 100 إلى 120 مستوطناً في التحركات، رافعين شعار «نتنياهو يتحمل المسؤولية»، فيما طالب آخرون بانتخابات مبكرة.
بلغت التظاهرات ذروتها في أيلول 2024، حيث شارك فيها حوالى 700 ألف مستوطن، بينهم حوالى 500 ألف في تل أبيب وحدها، في أكبر موجة احتجاجية، أدّت إلى إغلاق طرق رئيسية وتعطيل الحركة الاقتصادية.
-
حاول نتنياهو امتصاص الغضب عبر وعود غامضة باستعادة الأسرى (أ ف ب)
ورغم اتساع رقعة الاحتجاجات، غير أنها لم تؤثّر على نتنياهو وحكومته، الذي واجهها بسياسة مزدوجة، فاعتمد خطاباً متشدّداً يرفض إنهاء الحرب قبل القضاء على «حماس»، مع الاعتماد على القوة الأمنية لتفريق المتظاهرين، واتهامهم بـ«دعم مخططات حماس الإرهابية».
كذلك، حاول نتنياهو امتصاص الغضب عبر وعود غامضة باستعادة الأسرى، متجنباً الالتزام بخطوات ملموسة.
ومنذ ذلك الحين، شهدت الأراضي المحتلة تظاهرات متفرقة، إلى أن وافق المجلس الوزاري المصغّر في الثامن من آب الحالي، على خطة لاحتلال مدينة غزة، وتوسيع العدوان.
وفي 17 آب، تحشّد حوالى نصف ميلون مستوطن في «ميدان الأسرى» وسط تل أبيب، بالتزامن مع إضراب عام، وقطع للطرق، ومواجهات مع الشرطة، قبل أن تُعلن «هيئة عائلات الأسرى» تأجيل تظاهرة كبرى، في ضوء أنباء عن اتفاق محتمل لوقف إطلاق النار في غزة.
الكيان يتفكك؟
حتّى في حال استمرار الحرب واتساع رقعة التظاهرات، فإنه من غير المُتوقّع أن تؤدّي إلى زعزعة حكم نتنياهو أو أُسس الكيان، خصوصاً في ظلّ تشبّثه بالسلطة، وتصوّره للحرب على غزة بأنها «مهمة تاريخية لحماية وجود إسرائيل».
والتجارب السابقة أظهرت أن النظام السياسي في إسرائيل يستطيع امتصاص موجات الغضب الجماهيري ما دام الائتلاف الحاكم متماسكاً.
لذا، فالخطر الحقيقي على نتنياهو وحكومته يكمن في الخلافات الداخلية بين مكوّنات الائتلاف نفسه، وهو ما برز مع استقالة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وعدد من وزرائه مطلع 2025، احتجاجاً على اتفاق تبادل الأسرى، وكذلك في إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت في تشرين الثاني 2024 بعد خلافه الحاد مع نتنياهو بشأن الحرب على غزة، فضلاً عن ملفات خلافية أخرى مثل تجنيد «الحريديم»، والتعديلات القضائية، وشبهات الفساد، وغيرها.
وعلى عكس احتجاجات سابقة أدّت إلى تغييرات سريعة، تبدو أزمة ما بعد «طوفان الأقصى» أكثر تعقيداً وعمقاً. ففي حين أن تفكك الكيان كان ممكناً في صباح السابع من تشرين الأول 2023، غير أن الظروف الآن اختلفت، والسخط الشعبي لن يكون كافياً، في جميع الأحوال، إلّا إلى إحداث تغييرات مؤقّتة، إلى حين توافر فرصة جوهرية جديدة، كالطوفان.
الاخبار اللبنانية