فلسطين

في دفتر الطفولة الجائعة في غزة: اكتب «أحمد عبد العال… ولا تغلق القوس»

في دفتر الطفولة الجائعة في غزة: اكتب «أحمد عبد العال… ولا تغلق القوس»

بهاء طباسي

غزة-  كان الفجر يجرّ خيطه الشاحب على ممرات مستشفى ناصر في خان يونس حين وصلت نورا عبد الرازق تحمل طفلها الملفوف في غطاء باهت اللون، لا هو بالحارّ ولا بالكافي. اسمه أحمد سمير عبد العال. عامان من العمر، وجسد نحيل يكاد يتكسّر في حضنها. كان رأسه يثقل كتفها الصغيرة فيخيفها، فتضمه أكثر كمن يحاول أن يستعيد ما فات. ارتجف صدره بخفوت لا يلاحَظ، ثم سكن لحظة طويلة كأن الأنفاس تضل طريقها إليه.
قالت وهي تلهث: «مشينا نصف ساعة… والريح كانت رملًا، ويده باردة.. لينقذه أحد».
لم تنتظر إجابة من أحد، كانت تركض بالكلمات كما ركضت بقدميها على رمال المواصي، من خيمة مهترئة فقدت أسماء ساكنيها، إلى باب أبيض يكتب على الوجع: الطوارئ.
في غرفة الاستقبال، انحنى الطبيب رائد اللداوي يحاول أن ينتزع شيئًا من الصمت. نظر إلى قوام الطفل، إلى عظام تظهر تحت الجلد، وإلى عينين واسعتين كأنهما تستجديان رشفة لبن مؤجّلة. قال الطبيب، بصوت لا يبدو فيه العتاب بقدر ما يبدو فيه العجز: «هش جدًا… وزنه أقل مما يجب بكثير… جفاف وسوء تغذية شديدان». سأل عن الحليب العلاجي. هزت الأم رأسها نافية، كأن الرفض صار عادة يومية: «لقد تعبت وأنا أبحث.. لا يوجد حليب، الصيدليات خاوية، والمساعدات تُنهب فور وصولها… ثلاثة أيام أعطيته مياهًا ويانسونًا… كان يبكي ثم يصمت». توقف الطبيب عن الأسئلة، كأن الجواب ليس للأم وحدها، بل للعالم الذي يدير وجهه عندما يشتد البكاء.

تقول أم لـ«القدس العربي»: « 4 عائلات نتقاسم ماء القِربة… كل يوم أروح وأسأل: في حليب أطفال؟ أرجع من غير شيء»

اسم أحمد ليس جديدًا على هذه الردهات؛ صار الأطفال يتشابهون في القصص والأعراض. من رفح نزحت العائلة في موجة واحدة مع الجموع، تركوا وراءهم بيتًا وصورًا وذكريات ضاعت على الحاجز، وحملوا إلى المواصي خيمة يصعب أن تسميها مأوى. الشمس حين تشرق تصبح خصمًا، والريح حين تهب تصير خصمًا آخر.
تقول الأم لـ»القدس العربي»: «كنا أربع عائلات نتقاسم ماء القِربة.. كل يوم أروح وأسأل: في حليب أطفال؟ أرجع من غير شيء، أضحك له وهو جوعان».
في الليل، كان صوت الجوع أعلى من كل الأصوات، يوقظ الأب سمير الذي صار يلوّح بيديه للفراغ لعل معجزة تقوده إلى علبة مسحوق صغيرة. «أحمد كان يلعب بأصبعي… ثم يتركهما من التعب»، هكذا وصف الأب اللحظات الأخيرة التي سبقت قرار التوجه إلى المستشفى.
حين دخل أحمد غرفة الإنعاش، علت شاشات وخفتت أخرى. الممرضة الشابة، ليلى شحادة، التي لم تنم منذ ليلتين قالت: «لا نملك بروتوكولًا كاملًا… نفتقر للأملاح المناسبة، للبن العلاجي، للمحاليل الدقيقة… نُجري طبًا إسعافيًا مكسور الجناح». بين لحظة وأخرى، كانت ترفع عينيها عن الورقة لتراقب صدر الطفل، كأن الأوكسجين يحتاج إلى من يدعوه بالاسم. في الخارج، وقفت الجدة تسبّح، وتخاطب نساء ينتظرن مصائر متشابهة، وكل واحدة تحكي قصة لا تختلف كثيرًا: انقطاع الطعام، ندرة المياه النظيفة، أمراض جلدية تزحف على الأجساد الصغيرة، ومسارات إنسانية تنتهي دائمًا هنا.
في آخر تقرير لها عن الجوع في غزة، حذّرت منظمة الصحة العالمية من أن قرابة 12 ألف طفل دون الخامسة في غزة يعانون من سوء تغذية حاد، بينهم آلاف الحالات الشديدة التي تتطلب رعاية فورية ومتخصصة. وفي بيانات متفرقة خلال يوليو/تموز وأغسطس/آب، وثّقت وزارة الصحة في غزة أكثر من مئة وفاة مرتبطة بالجوع وسوء التغذية، كانت الغالبية الساحقة منها لأطفال لم يبلغوا بعد عتبات المدرسة.
عند الظهيرة، خرج الطبيب نفسه إلى الممر. حدّق للحظة في وجوه العائلة قبل أن يقول ما يقوله الأطباء حين لا يعود هناك ما يمكن فعله. لم تنفجر الأم بالبكاء؛ انهارت إلى الداخل كبيت قصفت إحدى غرفه فسقط على نفسه بلا صوت. دفعت الغطاء نحو وجه أحمد، ثم أعادت سحبه كأنها تريد أن تراه مرة أخرى، أن تتأكد من أن ملامحه الأخيرة له وليست لغيره.
قال الطبيب اللداوي في محاولة لالتقاط ما يمكن التقاطه من معنى: «لو وصل الحليب العلاجي في الوقت، لو توفرت التغذية العلاجية بالقدر الذي يحتاجه هذا المكان… كان احتمال النجاة أعلى».
لم يكن أحمد حالة منفصلة عن سياق أكبر. المخازن الفارغة في الأسواق، قوافل المساعدات التي لا تكفي، النهب الذي يسبق التوزيع أحيانًا، المسارات الأمنية التي تُعلَّق عندها الشاحنات، والحليب العلاجي الذي يخرج من قوائم التوريد كما لو كان رفاهية. كل هذا يشكّل البيئة التي مات فيها أحمد. في المستشفى.
قالت الطبيبة ليلى: «نرى الأطفال يصلون إلينا في مراحل متأخرة… الجلد يلتصق بالعظم، والبكاء يختفي لصالح صمت مرهق… بين كل عشر حالات سوء تغذية شديدة يصلنا واحد فقط في توقيت يسمح بالتدارك».
وتضيف لـ»القدس العربي»: «طب الأطفال هنا صار حارسًا على بوابة مغلقة».
في زاوية من الخيمة، تطلع الأب إلى صورة التُقطت بهاتف قديم؛ وجه أحمد ينظر إلى مكان غير محدد، ربما إلى الضوء الذي يتسرب من سقف القماش. قال الأب لـ»القدس العربي»: «كان يحب يلعب بالرمل… يضحك عندما يقترب الموج». ثم صمت قليلا: «أنا لا أطلب الكثير… لكن لما تقولوا مساعدات، أتمنى أن أراها تصل إلى أولادنا». في هذه الجملة تختصر العائلة خطابها كله.
تنتهي هذه القصة عند باب لا ينبغي أن يكون نهاية: باب المشرحة. لكنها تبدأ في أماكن أخرى كل يوم. تبدأ عند أقدام أمهات يسألن عن علبة حليب رخيصة، في طابور طويل بلا ظل، وعند أسرّة معدنية تتسع لجسد واحد بينما ينتظر ثلاثة. تبدأ في إحصائية تقول إن آلاف الأطفال في غزة على حافة سوء تغذية شديد، وفي خط صغير على دفتر طوارئ لا يستطيع موظفه أن يغلق قوس «شهداء الطفولة الجائعة». تبدأ، ولا يجب أن تظل تبدأ، لأن البداية المتكررة تعني ببساطة أن النهاية ذاتها تعود كل يوم.
أحمد سمير عبد العال — طفل غادر قبل أن يتعلم أن يكتب اسمه. اسمه الآن مكتوب على جدار من حكايات متشابهة، لكن لكل حكاية أم وأب وجدة، ولكل حكاية سرير لم يعد دافئًا، ولكل حكاية دفتر صغير تنتظر صفحاته أن تُملأ بألعاب وذكريات لن تأتي. على حافة الخيمة، تتعانق أمهات في صمت يليق بالشهداء الصغار. في هذا الصمت، تُقال الجملة التي لا تحتاج إلى تدريب كي تُحسن قولها: «أنقذوا الأطفال».

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب