السلاح بين السلطة والمقاومة: جدلية الشرعية والوجود

السلاح بين السلطة والمقاومة: جدلية الشرعية والوجود
في المشهد الفلسطيني الممزّق بين الاحتلال والسلطة والمقاومة، يطفو سؤال وجودي على السطح: لماذا لا تسلّم السلطة الفلسطينية سلاحها للمقاومة، رغم أن الأخيرة تمثّل في نظر قطاعات واسعة جوهر الكفاح من أجل التحرّر؟ سؤال يتجاوز حدود التكتيك العسكري ليطاول عمق الفلسفة السياسية ذاتها: مَن يملك شرعية السلاح، ومن يملك حق الاحتكار للعنف المشروع كما يسمّيه ماكس فيبر؟
السلطة الفلسطينية، ومنذ تأسيسها عقب اتفاقيات أوسلو، وُلدت في رحم معادلة معقّدة: دولة قيد التشكّل تحت الاحتلال، وجهاز أمني ضخم قوامه أكثر من 52 ألف عنصر بحسب «ائتلاف أمان الفلسطيني»، لكنه جهاز محكوم بشبكة مصالح وارتباطات مع المانحين الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن التنسيق الأمني مع إسرائيل. هذا التأسيس المشوّه جعل السلاح الذي تحمله أجهزة الأمن الفلسطينية سلاحاً مراقباً أكثر مما هو سلاح مستقل.
إنه سلاح مُصمَّم لأجل بسط سيطرة داخلية، لا لأجل مواجهة الاحتلال.
في المقابل، المقاومة المسلحة –سواء في غزة أو في الضفة الغربية– تعرّف نفسها باعتبارها الامتداد التاريخي للفعل الفلسطيني التحرري، الذي وُجد قبل السلطة وسيبقى بعدها. سلاحها لا يطلب إذناً، ولا ينتظر ميزانية من المانحين، بل يقوم على منطق نقيض: منطق الرفض والمواجهة ورفض التطبيع مع واقع الاستعمار الاستيطاني.
لكن لماذا لا تنتقل هذه الأسلحة من السلطة إلى المقاومة؟ أليست معركة الفلسطينيين واحدة؟
الجواب الأول براغماتي: لأن السلطة الفلسطينية نفسها ترى في تسليم السلاح نهاية لدورها. فهي بُنيت سياسياً وأمنياً على أساس أن تحتكر السلاح في حدود مناطقها، لا أن تُحوّله إلى قوة تواجه إسرائيل. بمعنى آخر: تسليم السلاح للمقاومة يعني انتحار السلطة كمؤسسة، وخسارة مبرّر وجودها أمام المانحين وأمام إسرائيل، التي ما زالت ترى فيها أداة ضبط أمني أكثر مما هي مشروع سياسي.
أمّا الجواب الثاني، فهو فلسفي أعمق: هنا نعود إلى جدلية فيبر حول «احتكار العنف المشروع». السلطة، حتى في ظل غياب السيادة الكاملة، تسعى لأن تبدو ككيان يحتكر أدوات القوة، لأن فقدانها للسلاح أو تحويله للمقاومة يعني تحوّلها إلى مجرد جهاز إداري بلا هيبة، أشبه بـ«بلدية كبرى» تدير شؤون السكان تحت الاحتلال، بلا سلطة سيادية. بهذا المعنى، تمسكها بالسلاح ليس لأجل التحرير، بل لأجل الحفاظ على صورة «الدولة الناقصة» التي تعيش عليها سياسياً.
النتيجة أن الفلسطينيين يعيشون انقساماً بين «سلاح تحت السيطرة» و«سلاح بلا سقف تفاوضي»، بين سلطة تسعى للاستمرار كوسيط إداري ومقاومة تسعى للاستمرار كحركة تحرير
لكنّ ثمة وجهاً ثالثاً لهذه الجدلية: المقاومة بدورها لا تقبل أن يوضع سلاحها تحت وصاية سلطة ولدت من رحم اتفاقيات لا تعترف بشرعية الكفاح المسلح. فالتاريخ علّمها أن كل محاولة لوضع المقاومة تحت جناح السلطة تعني تفريغها من مضمونها الثوري، وتحويلها إلى جزء من جهاز أمني ينفّذ سياسات لا تنسجم مع الفعل المقاوم.
إننا أمام صراع على معنى السلاح ذاته:
● عند السلطة: السلاح هو أداة لبسط النظام الداخلي، وتكريس شرعية تفاوضية أمام العالم.
● عند المقاومة: السلاح هو التعبير الأسمى عن بقاء الشعب ورفضه للمحو، أداة للحفاظ على الذاكرة والوجود والكرامة.
لكن، ما بين هذين المعنيين، يتكشّف المأزق الفلسطيني الأعمق: حين يتنازع الإخوة على أداة يُفترض أن تكون في مواجهة العدو، تتحول البنادق إلى مرايا تعكس أزمة مشروع سياسي برمّته.
إذا عدنا تاريخياً، نجد أن غالبية حركات التحرر لم تواجه هذه المعضلة بهذا الشكل. في الجزائر، كان السلاح بيد جبهة التحرير التي مثّلت القيادة السياسية والعسكرية معاً. في فييتنام، لم يكن هناك فصل بين «الدولة» و«المقاومة». أمّا في الحالة الفلسطينية، فقد شطر أوسلو هذا الترابط، وخلق كياناً أمنياً منفصلاً عن جوهر النضال. لذلك، فإن سؤال «لماذا لا تسلّم السلطة سلاحها للمقاومة؟» يصبح في جوهره سؤالاً عن: لماذا قُدّرت للفلسطينيين سلطة بلا سيادة، ومقاومة بلا دولة؟
إنّ رفض السلطة تسليم سلاحها ليس مجرد عناد سياسي، بل هو نتاج شبكة معقّدة من المصالح والهويات والارتباطات، تمتد من التمويل الخارجي إلى بقاء امتيازات النخب، ومن الرغبة في احتكار الشرعية إلى الخشية من التحوّل إلى كيان شفاف بلا تأثير. أمّا المقاومة، فترى في هذا السلاح المقيّد تهديداً لمشروعها التحرري، إذ يمكن أن يُستخدم ضدها بدل أن يُستخدم ضد الاحتلال، كما حدث مراراً في صدامات دامية.
النتيجة أن الفلسطينيين يعيشون انقساماً بين «سلاح تحت السيطرة» و«سلاح بلا سقف تفاوضي»، بين سلطة تسعى للاستمرار كوسيط إداري ومقاومة تسعى للاستمرار كحركة تحرير. وهنا المفارقة المؤلمة: كلما تعمّق الاحتلال، ازداد الخلاف على من يملك الحق في البندقية.
ختاماً، يمكن القول إن القضية ليست فقط في تسليم السلاح أو مَن يملكه، بل في إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني: هل هو مشروع دولة تحت الاحتلال، أم مشروع تحرّر جذري يطيح بمنطق أوسلو؟ ما لم يُحسم هذا السؤال الفلسفي – السياسي، سيبقى السلاح الفلسطيني أسير الانقسام، وستظل البندقية، بدل أن توجَّه كاملة إلى صدر المستعمِر، مشدودةً إلى تناقضات الداخل.
* كاتب فلسطيني