مقالات

ترامب : الحيوان العقاري بقلم الدكتور وليد عبد الحي

بقلم الدكتور وليد عبد الحي

ترامب : الحيوان العقاري
بقلم الدكتور وليد عبد الحي
يميل الكثير من الكتاب الى حصر مفهوم “الوطن” في التجسيد المادي للمكان(الارض)، ويأخذ مفهوم تحرير الوطن ذات المنحى في التعبير “المباشر” عن الحلول في المكان بدلا من ساكن آخر ، وهو ما يختصر الوطن بل يشوه مفهومه ليجعل منه “عقارا”.
فإذا تربى الفرد في بيئة تغذي مفهوم العقار في منظومته المعرفية، تتساوى عنده كل الامكنة ، ويصبح الموقع(او الحيز او المكان او المسافات..الخ) لا تزيد عن كونها مواصفات تسويقية يستعرضها تاجر العقارات لغواية زبائنه فقط.
ومقابل المدلول المادي للحيز المكاني في مفهوم الوطن ، هناك المدلول المعنوي الذي يتوارى في اعماق الذاكرة ويتلصص بين الحين والآخر على معنى الحارة ،والجدار ، ويسترق السمع الى صوت فيروز او عبد الوهاب او عبدالباسط عبد الصمد، ويضحك عندما تطل الاشجار التي كان يندس بين جذوعها ليسرق قبلة من حبيبته، ويتساءل عن معنى الوجود والحياة كلما مر من جوار المقبرة ، ويقارن بين دلالات مسجد القرية ودلالات كنيسة القرية المجاورة التي يذهب لثانويتها لاستكمال دراسته، ويفهم عمق المعنى الكامن في ضريح الشهيد..اساطير الوطن جزء من الذاكرة، وبطولاته وهزائمه وتاريخة وحاضره ومستقبله خيوطها تشكل نسيج المعنى الجواني.
الوطن ليس المكان المجرد من دلالات المعنى، وبالتالي يصبح الدفاع عن الوطن لا يتساوى مع الدفاع عن المكان الذي لا نراه الا عقارا ، فالوطن يمنحك المعنى والهوية والذاكرة والوعي ،وتشكل تضاريسه معاني الزمن ،ويرتب لك مناخه طقوس السلوك اليومي لباسا وطعاما وصلاة بل ومواعيد الغرام وقطف الثمار ،ولكل موسم اغانيه ، ويتعرف الطفل على مواعيد بناء الطير لعشه ،ويتعرف على زهور الاشواك التي يزورها النحل ،كما يتعرف على ثقوب الارض ليراقب مهرجانات خروج ودخول النمل منها…
ان قول ميسون بنت بحدل(وفي رواية اخرى بنت جندل) ” لبيت تخفق الارياح فيه احب الي من قصر منيف “…الخ، تعبير عن الفارق بين المكان(العقار ) والوطن، وقول شوقي “وطني لو شغلت بالخلد عنه ،نازعتني اليه في الخلد نفسي” تعبير آخر ، وكل هذا يتسق مع علم نفس المكان او علم نفس البيئة(إدوارد هول ونظريته حول القُربيات (Proxemics)و جون كالهون وموضوع المساحة الشخصية او سيكولوجية المكان، وهناك علم اجتماع المكان (جورج سيمل)…الخ، وكم تكون المتعة مع كونراد لورينز في تحليله لما اسماه الدافع المكاني(Territorial Drive) ودلالات استماتة الحيوان في الدفاع عن جحره ، فهذا السلوك الفطري توقف عنده لورينز طويلا وبامتاع يكشف المسافة ا لفاصلة بين الوطن والمكان.
اعود الى ترامب-الحيوان العقاري-، فهذا الرئيس تشكلت منظومته المعرفية بكيفية اختلط فيها مفهوم العقار بمفهوم الوطن، وقد سبق لي في محاضرة وفي دراسة منشورة ان اشرت الى هذه البنية السيكولوجية في عام 2017، فهذا الرجل في كتابه “The Art of the Deal” يؤكد ميوله نحو تجارة العقارات وتفضيله لها على كل النشاطات الاخرى، وهو مزيج من الانتماءات المكانية ،فجذور والده الذي كان يعمل ايضا في مجال التطوير العقاري تعود لالمانيا، وامه مهاجرة اسكتلندية.
ان مشاريع ترامب الكبرى هي مشاريع “عقارية” تتجاوز اي احساس بالوطن، فهو يريد غرينلاند، وكندا، ويستولي على قناة بنما، ويريد اعفاء من رسوم قناة السويس، ويريد نصيب من رسوم الحج الاسلامي، ويريد مقابل نفقات الدفاع عن الأمكنة فيها قواعده في الخليج ، واخيرا لم ينظر الى صراع شرق اوسطي يمتد لثلاثة ارباع القرن الا من خلال تحويل قطاع غزة الى “عقار سياحي” أو “ريفيرا” ، وان ينقل اهالي غزة من مكان الى مكان “لا من وطن الى مكان “.
نحن امام “حيوان عقاري”، ولا ارى في ذلك تطاولا(مع انه يستحق ذلك)، فهو لا يفهم تشبث الفلسطيني بوطنه لانه لا يفهم الوطن الا كمكان، فالمسجد الاقصى في منظومته المعرفية لا يختلف عن اي فندق او حلبة مصارعة من التي كان يُقاوِل فيها ،ولا يرى فارقا بين كنيسة المهد أو منارة عكا وبين اي فندق في موسكو اعده الروس له ليقضي فيه شهواته، وهو هنا ليس البير كامي له فلسفته ، بل هو مريض نرجسي وبدرجة غير قابلة للشفاء ، ونماذجه كثيرة في التاريخ الانساني.
ولتوضيح الفكرة دعونا ندقق في عباراته عندما قال ان “اسرائيل بلد صغير ومن حقها التوسع”، فهو لا يميز بين الحدود السياسية وفناء المنزل، فالفاتيكان دولة صغيرة المساحة فلماذا لا تتوسع، ومثلها موناكو وناورو وتوفالو وسان مارينو وليخنشتاين والبحرين ومالطا والمالديف …الخ.
لقد احصت صحيفة نيويورك تايمز(أؤكد نيويورك تايمز) (91 ) كذبة قالها ترامب خلال اول 99 يوما من رئاسته، وكذب 1318(الف وثلثمائة وثماني عشر) مرة خلال اول 263 يوما من رئاسته..(ويمكن التأكد من الارقام في صحيفة نيويورك تايمز في 29 ابريل 2017 و في صحيفة واشنطن بوست بتاريخ 10 اكتوبر 2017، وهو ما يؤكد ان ثقافة التاجر الفاجر هي التي تحرك هذا الحيوان العقاري الذي ينتفخ الزعماء العرب لمجرد انهم يحظون بالجلوس معه.
ان الخفة المتناهية في طرح اقتراحاته على المقاومة الفلسطينية تشير الى أنه لا يرى الامر صراعا “وطنيا” ،بل لا يراه الا مجرد “تذاكي بين تجار عقارات” حيث يسعى كل منهم “لغواية الآخر”…وتتذكرون صفقته الاولى التي سماها صفقة القرن..فالحياة صفقات مادية فقط والمكان عقار لا وطن، وهو لا يرى الدولة الا عقارا(Real estate not state)>
ان الوطن ليس مكانا مجردا، واللامرئي في المكان اقوى واكثر عمقا من المرئي المجسد ، لكن المجتمعات الاستيطانية لا تفهم ولن تفهم ميسون بنت بحدل(أو جندل) بينما فهم معاوية عمق المعنى وادرك تداعياته …فأنى لحيوان عقاري ان يفهم معنى الوطن؟..بدون ربما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب