مقالات

مقامة نباح المناهج وذبابها : أدب المقاومة الفكرية. بقلم صباح الزهيري أديب ودبلوماسي سابق

بقلم صباح الزهيري أديب ودبلوماسي عراقي سابق

مقامة نباح المناهج وذبابها : أدب المقاومة الفكرية.
بقلم صباح الزهيري أديب ودبلوماسي  عراقي سابق
مقاومة التوجيه الفكري والسياسي الزائف الذي يُحاول التسلل عبر المناهج الدراسية أو الخطابات الإعلامية المُضللة .
أصبح الحق غريبا , تنبحُ الكلابُ عليه , تتطايرُ أنفاسُها شررًا في ليلٍ بارد , لكنه لا يهتزّ , تمدُّ شجرته جذورَها في أرضٍ من حبر , وترفعُ أغصانَها نحو القمر , تقول : النباحُ ريحٌ عابرة , أما أنا فصوتُ الينابيع , وحبرٌ لا يجف , وتضحكُ من ضجيجٍ يتكرّر , فتكتبه بيتًا من سخرية , وتحوِّلُ عواءَ الخوف إلى نشيدٍ مقاوم , فشجرة الحق مؤمنة أن الكلابُ سترحل , والصمتُ بعدها سيبقى , لكنها ـ وحدَها ـ تظلُّ مشتعلةً , كجمرة الروح لا تُطفئها أنيابُ كلاب مسعورة .
يلتفت الحق مخاطبا قارئي كتب الكفر : (( ياأبنائي لا تُسرفوا في الردّ , فما النباحُ إلّا ضيفُ ليلٍ لا يعرفُ معنى النهار , اتركوهم يعوون , واجعلي كلماتكم أنهارًا , كلّما جفّت ضفةٌ سالت ضفةٌ أخرى , وتذكّروا : القصيدةُ لا تنتصرُ بالصرخات , تنتصر بما يخلّفه صمتُها العميق في قلوبٍ لا تنام )) , تبتسم القصيدة , تضمُّ كلماتِ العجوز إلى صدرها , وتكملُ اشتعالها , بوهجٍ أجملَ وأقوى , لأنها ولُدتْ للتو من رحم رشيد بعقل حكيم .
يدخل الحق هرما , محني الظهر, يحمل في عينيه بقايا حبرٍ يابس , ويهمس لجيل الشباب ,
(( في العالم أماكن كثيرة جميلة , ولكن لا مكان يشبه الوطن ,هذا الزمن يُدان فيه الصادق ويُكرَّم فيه المخادع , فقط لأنه نجح في التسلل إلى قمم السياسة والاقتصاد وحتى زعامة القبيلة والعشيرة عبر أبواب الكذب والاحتيال وشراء الذمم والاصوات , وفي هذا العالم , لا يُكافأ النبيل بعلو المكانة , بل غالبًا ما يُقصى ويُهمّش , بينما يُفتح الطريق أمام من تجرد من الفضيلة وتسلّح بالمكر , ومَن يملك زمام الأمور اليوم ليس الأكثر حكمة أو عدالة , بل الأكثر قدرة على الالتفاف والمراوغة , ومع غياب البوصلة الأخلاقية , تتغير المقاييس , وينقلب الميزان , فيصبح الكاذب فطنًا , والجاهل ملهمًا , والمنافق قائدًا , وكما وصف إيليا أبو ماضي هذا الواقع بقوله : (( ذهب الصدق وجاء الكذب , وتولى الناسُ التهريجا , صار الكاذبُ يُدعى فطناً , وأُطلقَ للجاهلِ تأليها )) .
تراهم ذبابٌ يحارب النحل , ليس لأن النحل اعتدى عليه , بل لأن نوره يفضح ظلمة الذباب , ولأن جهده يكشف عجزهم , يتسلل الذباب حيث لا يُطلب جهد , يتغذى على الفضلات , ويقتات من بقايا تعب الآخرين , بينما النحل يصنع عسله من رحيق الأيام , يعمل بصمت , ويترك أثره في الحقول , وفي قلوب العابرين , لكن الذباب لا يحتمل الفرق , يحاول طمس الفوارق , ليس بالارتقاء , بل بتسقيط من يعلوه , يشكك في العسل , ينشر عنه الشبهات : أنه مُرّ , أنه مضرّ , لعل أحدهم يتوقف عن الإعجاب به , وإن لم يُفلح , سرق تعب النحل ونسبه لنفسه , لا بحرفية , بل بحيلة , لا يعرف العمل , لكنه يتقن التملق , ويجيد الوقوف في الصورة , حيث يلمع العسل ولا يُذكر النحل.
كتب يحيى السماوي : (( في وطن بات مسلخا بشريا ما عُدنا نميّز فيهِ بين اللصّ والنّاطور بين البرتقالة والقنبلة , ولا بين عِمامَتي زياد بن أبيه وعمّار بن ياسر )) , فالمشهد السياسي في العراق الان لا تحركه المبادئ ولا البرامج بل صراع الطوائف والمصالح والنفوذ الخارجية , وتبدو النخب من القيادات السياسية , في معظمها , وكأنها تمثل نفسها لا مكوناتها الاجتماعية , بدليل أن غالبية من وصلوا إلى المناصب العليا أصبحوا من أصحاب الملايين , حتى لو كانوا بالأمس القريب شخصيات غير معروفة وليس لديهم تاريخ سياسي , وفي بلادٍ تلبس الوجع كوشاح , لا يُستغرب أن تضيع العدالة في زحمة المناهج الخائبة والمخاطبات , وأن يتحول الشرطي من حارسٍ للأمن إلى ذئبٍ يرتع في حقول الجراح , هنا , في عراق ما بعد الخراب , كل شيء قابل للكسر, حتى كرامة المواطن , ألا انه ومع كل هذا الظلام , لا بد أن يبقى في النفس شيء من الأمل , فحتى في عالم مقلوب كهذا , تظل الحقيقة قائمة في جوهرها , بانتظار من يعيد لها صوتها ومكانها , وربما كان الرهان الأكبر اليوم هو على وعي الشباب , وعلى يقظة الضمير, وعلى أولئك القادرين على التمسك بالقيم , لا لأنهم ينتظرون جزاءً , بل لأنهم يعرفون أن بقاء الإنسان نفسه مرهون بصدق القيم , لا بزيف الشعارات .
((هو العراق ياصدرا الوذ به كما يلوذ عصفور بذي زغب ))
———————-
صباح الزهيري

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب