أسرى غزة العائدون من «الجحيم»: إنه «يوم البعث»

أسرى غزة العائدون من «الجحيم»: إنه «يوم البعث»
تحقّق المقاومة إنجازاً إنسانياً وتاريخياً بتحرير قرابة ألفَي أسير من سجون الاحتلال، في مشهد تتقاطع فيه مآسي الإبادة بفرح الحرّية ومرارة الفقد.

غزة | أتمّت المقاومة، صباح أمس، تسليم 20 أسيراً إسرائيلياً أحياء وجثامين أربعة آخرين قتلى، في مقابل إطلاق سلطات الاحتلال الإسرائيلي سراح 1986 أسيراً، من بينهم 250 من أصحاب المؤبّدات والأحكام المرتفعة، و1736 من أسرى قطاع غزة، الذين اعتقلوا بعد عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر. ورغم رفض إسرائيل الإفراج عن كبار الأسرى، وفي مقدّمهم مروان البرغوثي وأحمد سعدات وعباس السيد وحسن سلامة وعبد الله البرغوثي، فقد تضمّنت قائمة المفرَج عنهم أسماء وازنة، من مثل أسيرَي عملية «نفق الحرّية» محمود العارضة وأيهم كممجي، وقادة كبار في الجناح العسكري لحركة «حماس» وأهمّهم محمود عيسى.
على أنه ثمّة إجماع فصائلي وشعبي على أنّ نتاجات الصفقة كانت دون المأمول، خصوصاً إذا ما قورنت بصفقات ماضية حقّقت فيها المقاومة أرقاماً مضاعفة من الأسرى المحرّرين بعدد أقل بكثير من الجنود الإسرائيليين، وكان آخرها «صفقة شاليط» عام 2011 التي تحرّر بموجبها 1027 أسيراً مقابل جندي واحد. ومردّ ذلك أنّ التفاوض هذه المرة للوصول إلى صفقة، جرى في ظلّ إبادة جماعية لم يشهد مثلها العصر الحديث، حصدت نحو 70 ألف شهيد و 10 آلاف مفقود وأكثر من 150 ألف مصاب، ودمّرت 80% من مدينة غزة. وإزاء ذلك، أصبح المكسب الأكبر من الصفقة هو وقف الإبادة التي رفع الإسرائيليون سقف أهدافهم فيها إلى حدّ التهجير وقضم مساحات واسعة من القطاع.
ووصلت، ظهر أمس، باصات الأسرى إلى ساحة مستشفى ناصر في مدينة خانيونس، حيث بدا المشهد مهيباً، بعدما تجمّع عشرات الآلاف من المواطنين وأهالي الأسرى في انتظار اللحظة التاريخية؛ ثمّ عصفت بالمكان موجة من المشاعر المتضاربة، إذ كان يعمّ الفرح الهائج لحظة، قبل أن يغرق الناس في صمت ووجوم، ويعلو نحيب الفقد وأنين صدمات الفراق، ثمّ تعلو زغاريد الفرح مجدّداً.
وعقب ذلك، خرج الأسرى من المستشفى إلى شوارع المدينة المدمّرة، مرتدين لباس السجن الرمادي الموحّد، وموحّدين أيضاً بأجسادهم الهزيلة ولحاهم الكثّة ووجوههم ناصعة البياض. هكذا، طافت المئات من الهياكل العظمية التي يكسوها قليل من اللحم، فيما كشف الوجوم الذي غطّى وجوهها عن فظاعة ما عايشته في السجن. لقد بدا المشهد بالنسبة إلى أغلبية الأسرى الذين التقيناهم، أشبه بيوم البعث فعلاً.
«لقد بعثنا الله من القبور مجدّداً»، سمعنا هذه الجملة من أربعة أسرى التقتهم «الأخبار»، من بينهم سالم النجار، الذي يقول وهو يمشي متّكئاً على يدي أخويه، رغم أنّ عمره لم يتجاوز العشرين بكثير: «ذقنا طعم الموت عشرين مرة، جلسنا معصوبي العينين ومقيّدي اليدين والقدمين لأكثر من مئة يوم، يسمح لنا مرة واحدة في اليوم بالذهاب إلى الحمام، نضرب صباح مساء، نشبح لأسابيع، نطلب حبّة المسكّن للمرضى والجرحى ومبتوري الأطراف من زملائنا فنحرم منها، هؤلاء وحوش وليسوا بشراً، يستمتعون بعذابنا».
أمّا عائلة الجعفراوي، فقد مثّلت حكايتها الوجه الأبلغ للملحمة الفلسطينية المستمرّة؛ ففيما كان الأسير ناجي الجعفراوي، يركب باص الحرّية من سجون الاحتلال، كان شقيقه الناشط الإعلامي المؤثّر، صالح الجعفرواي، يوارى الثرى في مدينة غزة، بعدما قضى شهيداً على يد عصابات مسلّحة من المشبوهين. في مستشفى ناصر، حضر الوالد المكلوم مستقبلاً نجله ناجي، فيما يتنازعه شعورا حزن الفقد الطازج والفرح بتحرير نجله. وإذ حمل على كاهله عبء الموقف، فقد بدا وكأنه سمح لعينيه بأن تبكيا فرحاً وفقداً في آن.
وإلى جانب العائلة، كان الأسير هيثم سالم، يعيش الوجع مربّعاً، فقد استشهدت زوجته وجميع أطفاله قبل شهر واحدٍ من تحريره، في قصف استهدف خيمتهم في مواصي خانيونس، وكان يظنّ أنهم في انتظاره، بعدما خالفت الأخبار السيئة عادتها ولم تصل بالسرعة نفسها التي تحدّثت عنها الأمثال. «في السجن أنت معزول عن أخبار العالم كلّه، استشهدوا وما عرفت بخبر استشهادهم إلا الآن، كنت مجهز هديّة لابنتي بعيد ميلادها في 18/10، جمعت حبّات الزيتون وعملت إلها عقد وأنا في السجن، والله هي عقدها جبته معي، كلهم راحوا… كلهم استشهدوا، لمين بدي أطلع أنا وأتحرّر؟».
في باحة مستشفى ناصر أيضاً، فيض هائل من الفرح، الأحضان، الزغاريد وإطلاق الرصاص الاحتفالي في الهواء، وحتى حفلات الزفاف. أحمد، هو واحد من الأسرى الذين هيّأت عائلاتهم لاستقبالهم بحفلات الزفاف والحرّية في الوقت ذاته. تقول والدته لـ«الأخبار»: «لا وقت طويلاً للفرح لدينا، قرّرت أزوّجه اليوم وأجهّز له عروسه في يوم تحريره، خايفين ترجع الحرب، محتاجين نخطف لحظات الفرح ونعيشها».
في طريق العودة، كان الآلاف من الأهالي يصطفّون على جانبي الطريق، مهنّئين الأسرى المحرّرين بالتهليل. وإذ عاد كثر من هؤلاء من المستشفى وسط جماعات من ذويهم، فإنّ آخرين كانوا يجوبون الشوارع سائلين عن الطرقات وعن من تبقّى من أهلهم، فيما البعض لم يجدوا أصلاً أحداً في استقبالهم.