ثقافة وفنون

عائد إلى الحياة بقلم: حسين عبدالله جمعة

بقلم: حسين عبدالله جمعة

عائد إلى الحياة

بقلم: حسين عبدالله جمعة
بكل ما في الدنيا من ظلمٍ وقهر، كان يقبع خلف قضبان السجن التعسفي، في زنزانةٍ باردةٍ ضيقة، محرومًا حتى من لمسة حنانٍ طالما حلم بها.
جلس يراقب من بعيد، عبر الألواح المعدنية الحاجبة، والديه اللذين جاءا مثقلين بالشوق، يتشبثان بالنظر إليه من وراء زجاجٍ متسخٍ وستارٍ يفصل بينهم.
صاح بصوتٍ يقطر وجعًا:
ـ أتوسلكم… أرجوكم، لا تبكوا! لا تزيدوا مرارتي بهذا الهوان. كم سيبعدونني عنكم؟ عشرة أعوام؟ عشرون؟! لكني أعدكم، سألقاكم يومًا، وإن لم يكن على هذه الأرض، فربما يكون موعدنا في الجنة…!
أمّه كانت تختبئ خلف دموعها، وراء الأكياس التي أعدّتها بيديها المرتجفتين. ثلاثة أيامٍ من السهر والدعاء والصلاة، كي تطهو طعامًا تحمله معها… ثم تعود خائبة، محمّلةً بانكسارٍ أكبر من كل ما حملت.
هي لا تجلب له فقط الخبز، بل تحمل قلبها المكسور، وأحلامها المحطمة، وحياةً صارت أضيق من قبرٍ موحش.
وفجأة، يقطع الحارس الضوء… يصيح بأوامرٍ غليظة، ويهين الزائرين واحدًا واحدًا، معلنًا انتهاء الزيارة. عشر دقائق فقط انتهت، بعد أسبوعٍ من الانتظار والترقب، ليعود كلٌّ من حيث أتى… ويعود هو إلى زنزانته، إلى عتمته، إلى وحشةٍ لا يبدّدها سوى صوته المكتوم.
توالت الأيام أسابيع، ثم شهورًا. في كل يوم، كانت الأمراض تنخر جسد والديه؛ ضغط وسكري وتعب السنين. أبٌ كهل أُنهك حتى أدخله القهر إلى المستشفى، وأمٌّ حنون باتت تتلاشى كشمعةٍ في مهب الريح. كلاهما حملا حلمًا واحدًا: أن يريا ابنهما الشاب الواعد الذي خطفه الاعتقال التعسفي في عام تخرّجه.
أما هو، فكان وحيدًا في زنزانته، فريسة لأسئلةٍ لا تنتهي، تتكرر على مسمعه مئات المرات:
ـ لماذا تطلق لحيتك؟
ـ لماذا تحفظ القرآن في هاتفك؟
ـ إلى أي جماعة تكفيرية تنتمي؟
وكان جوابه لا يتغير:
ـ ديني يدعوني إلى الصلاة والالتزام وقراءة القرآن… أنا مع الله، ولست مع أي فرقة.
لكن تلك الأجوبة لم تُرضِ جلّاديه. بالعكس، كانت تزيد من عزلته، وتطيل إقامته في السجن الانفرادي البارد، وتفتح أبواب تعذيبٍ جديد، كأنهم يبحثون عن شيءٍ يرضي شهوة القهر في صدورهم.
خارج الأسوار، كانت المنطقة العربية تغرق يومًا بعد يوم في الدماء والفتن. مشاهد الذبح والسحل على الفضائيات، واصطفافات جديدة تمزّق الناس بين طوائف ومذاهب. ومع كل اعتقالٍ تعسفي، مع كل ظلمٍ يقع على شابٍ بريء، كان يُصنع “إرهابيٌّ جديد”… لا لأن قلبه اختار، بل لأن جرحه فُتح عنوةً، ودموع والديه صارت وقودًا لنقمةٍ لا تُطفئ.
لكن في الأفق، كانت هناك بارقة.
ملفّه القضائي كان نظيفًا كالماء، ومحامٍ صادق حمل قضيته رغم كل التأجيلات والمماطلات. من سجنٍ إلى آخر، ومن جلسة إلى أخرى، ظلّ يتنقّل كطائرٍ جُرّد من جناحيه.
وفي ليلةٍ قارسة، في شتاء بعلبك، والثلج ينهال على السهل والجبال، استدعاه المحقق بعد ثلاثة أشهر من العذاب والبرد والانتظار. نظر إليه، ثم قال ببرودٍ لم يُصدّق:
ـ أنت حرّ.
لم يصدق أذنيه. الحرية؟ الآن؟ بلا مقدمات؟
قال له المحقق ساخرًا:
ـ أنت في بيروت الآن. هل تعرف كيف ستعود وحدك إلى أهلك في البقاع؟
خرج مذهولًا. فراغ في جيوبه، ليلٌ ثقيل يقترب من منتصفه، وبردٌ ينخر العظام. لكنه لم يشعر بشيء سوى أنه يطير… يحلّق فوق وجع أمه ودموع أبيه وانكسارهما.
مشيا على قدميه، تتبعه نسمات الحرية الباردة، حتى وجد نفسه ـ من دون أن يدري كيف ـ أمام شقة رفاقه القدامى في جامعة بيروت العربيه.
طرق الباب… وانفتح أمامه عالمٌ جديد.
ابتسم، وهمس لنفسه:
ـ لقد عدتُ إلى الحياة…
حسين عبدالله جمعة
سعدنايل لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب