كتب

اهمية الدرس اللساني العربي لتطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي عربية .. بقلم تحسين الشيخلي

تحسين الشيخلي

اهمية الدرس اللساني العربي لتطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي عربية ..
بقلم تحسين الشيخلي
لندن أكتوبر 2025
يمثل الدرس اللساني العربي مدخل أساسي لفهم بنية اللغة العربية وطرائق اشتغالها الصوتية والصرفية والدلالية، وهو بذلك ليس مجرد دراسة أكاديمية بل أداة معرفية تكشف آليات التفكير والتعبير في واحدة من أعمق اللغات الإنسانية. فالعربية بثرائها البنيوي وتاريخها الممتد تشكل نظام لغوي فريد يربط بين التراث والحداثة، وبين النص والهوية. ومن هنا تأتي أهمية اللسانيات العربية اليوم، ليس فقط لصون اللغة وتطوير تعليمها، بل لتمكينها من دخول العصر الرقمي عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي لا يمكن أن تتقن العربية ما لم تبنى على أسس هذا الدرس العميق.
من هنا تبدو أهمية الدرس اللساني العربي ( أي دراسة بنية اللغة العربية، وتاريخها، وقواعدها، واتجاهاتها التداولية ) أمر لا يستهان به في تطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي عربية قادرة على الفهم، التوليد، والتفاعل بفعالية مع المستخدم العربي.
فاللغة العربية تتميز بخصائص لغوية وسياقية تجعل مهمة المعالجة الآلية أكثر تعقيدا، وبالتالي فإن الاستثمار في البعد اللساني ضرورة استراتيجية. في هذا المقال نعرض رؤية تحليلية واقعية حول ما تتيحه دراسة اللغة العربية في تحسين أداء نماذج الذكاء الاصطناعي العربية، ونناقش كيف يمكن للباحثين والمطورين العربيّين استثمار هذا الميدان، مع الوقوف على التحديات والفرص، مستندين إلى أدب البحث العلمي في حقل معالجة اللغة الطبيعية العربية.
أولاً يجب أن ندرك أن اللغة العربية بطبيعتها متميزة من حيث التركيب الصرفي والنحوي والدلالي، إضافة إلى تنوعها اللهجي بين الفصحى واللهجات المحلية. الدراسات الحديثة تشير إلى أن هذه الخصائص تشكل حاجز أمام أداء نماذج الذكاء الاصطناعي المبنية بالغالب على بيانات باللغات الغربية أو نماذج متعددة اللغات غير مخصصة كلياً للغة العربية. فعلى سبيل المثال، الورقة (Characteristics that Make its Automatic Processing Challenging) توضح أن اللغة العربية تتسم بتعقيد صرفي، وتغير شكل الكلمة بحسب الجذر والنمط، وتعدد لهجاتها، الأمر الذي يزيد من الصعوبة في التقسيم اللغوي (tokenization) والتحليل الصرفي واللّغوي. كذلك، مراجعة شاملة لحقل معالجة اللغة الطبيعية العربية تؤكد أن الموارد قليل، والنماذج المدربة خصيصاً للعربية ما تزال محدودة مقارنة بالإنجليزية واللغات الأوروبية.
من هذا المنطلق فإن الدرس اللساني العربي ( الذي يشمل علم الصرف، النحو، الدلالة، التداول، وتحليل اللهجات) يوفر عناصر أساسية لخوارزميات الذكاء الاصطناعي لتتعامل مع اللغة العربية بعمق ودقة. عندما يفهم النموذج كيف تتشكل الكلمات من الجذور، كيف تتغير المعاني بحسب تصريفات الزمن، الجنس، العدد، وكيف تتداخل الدلالة مع السياق والمجال، فإنه يكون أكثر قدرة على أداء المهام اللغوية مثل التعرف على الكيانات، تحليل المشاعر، الترجمة الآلية، والإجابة على الأسئلة. على سبيل المثال، نموذج مثل AraBERT – وهو نموذج تم تدريبه خصيصاً للغة العربية ، أظهر تفوق في مهام متعددة بعد أن أخذ في الاعتبار بنية العربية اللغوية بقدر معقول.
علاوة على ذلك، الدرس اللساني يساعد في معالجة التنوع اللغوي العربي بين الفصحى واللهجات. كثير من التطبيقات اليوم تتجاهل اللهجات أو تبقيها هامشية، ما يجعلها أقل فاعلية في الواقع العربي اليومي. لكن عندما تغذي نماذج الذكاء الاصطناعي بخبرة لسانية تشمل اللهجات، واختلافات النطق، والتحولات الدلالية، فإنها تكتسب قدرة أكبر على التفاعل الطبيعي مع المستخدم العربي ، سواء في الدردشة النصية أو الصوتية، أو في خدمات مثل المساعدات الافتراضية. أحد المصادر الأخيرة تؤكد أن (Arabic NLP is no longer optional— it is the key to inclusive, effective AI in the Middle East).
من الجانب العملي، استثمار الدرس اللساني في الذكاء الاصطناعي العربية يتطلب عدد من الخطوات، أولا تطوير قواعد بيانات لسانية ضخمة ومعلمة (annotated datasets) تشمل الفصحى واللهجات، ومعالجة الصرف والنحو في العربية، ثانيا التعاون بين اللغويين والمطورين بحيث تدمج المعرفة اللسانية في تصميم النماذج، ثالثا استخدام بنى لغوية (linguistic architectures) تعكس خصوصيات العربية – كاستخدام الجذور، الأوزان الصرفية، السمات النحوية ، بدل من اعتماد نموذج إطار عام بحت. كما أن هناك حاجة إلى بناء أدوات تحليل صرفي ونحوي فعالة للعربية، مع العلم بأن البحث (An Accurate Arabic Root-Based Lemmatizer) أظهر كيف يمكن لمحلل جذور أن يرفع دقة استرجاع المعلومات في العربية بشكل ملموس. تلك الخطوات لو نفذت بالشكل المنهجي يمكن أن تؤدي إلى تمكين نماذج الذكاء الاصطناعي من فهم البنية اللغوية والإنتاج اللغوي العربي بشكل أفضل، مما ينعكس على جودة الخدمات المقدمة للمستخدم العربي من ترجمة، توليد نص، دردشة، أو تحليل بيانات عربية.
لكن الواقع يكشف وجود تحديات حقيقية. أحدها هو قلة الموارد اللغوية العربية المصنفة والمتاحة بشكل مجاني بحيث يمكن استخدامها لتدريب أولي لنماذج الذكاء الاصطناعي. مراجعة حديثة في مجال الـ NLP العربية أشارت إلى نقص هائل في أدوات معالجة النحو والصرف واللهجات، ونقص في التنسيق البحثي. كذلك، التنوع اللهجي الكبير والتداخل بين الفصحى واللهجات يجعل مهمة بناء نموذج شامل صعبة، كما ورد في دراسة عملية تناولت دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز تعليم العربية حيث لوحظ صعوبة النماذج في التعامل مع التركيبات المعقدة واللهجات.
أيضاً، هناك صعوبة في تحويل المعرفة اللسانية التقليدية للنحو والصرف إلى بنى قابلة للمعالجة الحاسوبية ، فمثلا قواعد النحو في العربية تعتمد كثيرا على السياق والإعراب، وهو ما يختلف جوهرياً عن اللغات التي تعتمد ترتيب ثابت أو تفتقر لإعراب ظاهر. هذا يعني أن التعاون بين اللغويين ومهندسي الذكاء الاصطناعي ليس خيار بل ضرورة.
وعلى الرغم من تلك التحديات، فإن الفرص كبيرة. فاللغة العربية يتحدثها مئات الملايين من الأشخاص، وهي لغة رسمية في العديد من الدول، ما يجعل سوق ضخم لخدمات الذكاء الاصطناعي الموجهة للعربية. علاوة على ذلك، المنافسة العالمية في الذكاء الاصطناعي تجعل الدول العربية تدرك أن تملك البعد اللساني يمكن أن يكون ميزة تنافسية. حدث ذلك في تحولات حديثة أعلن عنها بأن تطوير نموذج عربي شامل أصبح من أولويات استراتيجية في بعض الدول.
يمكن القول إن الدرس اللساني العربي ليس فقط أساس نظري للاهتمام باللغة، بل يمثل بنية تحتية معرفية ضرورية لتطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي عربية مشرفة، فعالة ومستدامة. إن إهماله أو التعامل معه بشكل سطحي قد يقود إلى نتائج مقيدة أو غير فعالة، عوض عن ذلك فإن دمجه بعمق في عملية تصميم وتدريب النماذج يفتح آفاق لتحسين جودة التفاعل باللغة العربية، تعزيز الخدمات الرقمية، ودعم التحول الرقمي في العالم العربي. لكن الطريق يتطلب جهد منسق بين اللغويين والمطورين، دعم مؤسساتي ومشاركة في بناء الموارد اللغوية الضخمة، فضل عن الاهتمام بتخصصات علم اللسان العربي داخل مجالات الذكاء الاصطناعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب