
زهران ممداني.. علم فلسطين بأيدينا
راشد عيسى
من الأغاني الحلوة التي تعرّفت إليها في هذه البلاد، فرنسا، تلك التي تقول «أنا إنكليزي في نيويورك». وجدتها غريبة رغم حلاوتها لأنني لم أكن لأتخيل رجلاً إنكليزياً يشعر بالغربة في نيويورك، على الأقل كما يشعر بها أفريقي في باريس، وبالفعل فإن الأغنية ذاتها قُدمت بالفرنسية وحملت عنواناً مماثلاً: «أفريقي في باريس»، ناهيك بالطبع عن لاجئ فلسطيني في باريس. ثم إن نيويورك مدينة، كما الولايات المتحدة برمتها، نسيجها المهاجرون، ولا يستطيع أحد الادعاء بأنه هو الأصْل فيها، فيما الآخر غريب.
كل هذه التداعيات شغلت مخيلتي فيما أتابع تفاصيل ترشيح وانتخاب زهران ممداني عمدة لمدينة نيويورك، والحملة الشرسة التي يتعرض لها الرجل، ولو لم يكن أمريكياً لما استحق أن يصل إلى هذا الترشيح من الأساس، إلا أنه مع ذلك يظل هناك من في إمكانه التشكيك بانتمائه، ما دام رئيس البلاد (دونالد ترامب) شخصياً هدد بترحيله وسحب جنسيته. ظل ممداني يجابَه ويحارَب كآخَر، غير أمريكي، منذ أن قرر خوض الانتخابات التي تشهدها المدينة اليوم (4 نوفمبر).
ترامب وَصَفَه بـ«الشيوعي» الذي سوف «يواجه مشكلات مع واشنطن لم يسبق أن واجهها أي عمدة سابق في تاريخ مدينتنا العظيمة»، معتبراً أن المدينة «لن تكون كما هي أبداً» في حال فوزه. ووصفه، خلال اجتماع للحكومة في البيت الأبيض، بأنه شخص «غير موهوب جدًا». وقال: «لن تكون نيويورك كما هي أبدًا إذا تم انتخاب مسؤول شيوعي».
أما ترامب الابن، فقد كتب، إثر فوز ممداني بالانتخابات التمهيدية: «مدينة نيويورك سقطت»، معتبراً أن سكان نيويورك صَوَّتوا لصالح أحداث 11 سبتمبر/ أيلول.
ونشرت النائبة الجمهورية مارجوري تايلور جرين صورة مصممة بالذكاء الاصطناعي لتمثال الحرية مرتدياً النقاب. في إشارة إلى ما سيفعله بالمدينة هذا المسلم، المؤيد لـ «حماس»، بالتزامن مع بيان موقع من نحو 1.000 حاخام يحث الناخبين على مقاطعة ممداني من أجل «حماية المستقبل اليهودي».
أما الكونغرس الأمريكي فقد شهد تصاعداً في الخطاب العنصري والتحريضي، حيث أثار النائب الجمهوري راندي فاين جدلاً كبيراً بعد وصفه عدة نواب مسلمين في الكونغرس، من بينهم إلهان عمر ورشيدة طليب وزهران ممداني، بـ«الإرهابيين»، ودعا إلى ترحيلهم وسحب جنسياتهم.
صورة نمطية
ولأنه متحدر من أصول إسلامية (مولود لأب هندي وأم أوغندية) فسيوصم بأنه جاء من «ثقافة تكذب حول كل شيء»، والزعم أن هذه الثقافة «تعني حرفياً فضيلة أن يكذب إذا كان ذلك سيتيح تقدّم أجندته الإسلامية».
ومن المفهوم تماماً أن تنخرط جهات عديدة في الحرب على ممداني ومحاولات تعطيل انتخابه، من أثرياء توعدهم بضرائب، أو متخوفين من يساريته، ومن يهود لاحظوا انحيازه للحق الفلسطيني، فاعتبروه معادياً للسامية. هكذا وضعت نجمة داوود على صوره الانتخابية، وجرت الدعوة صراحة إلى محاربته، إذ قالت نائبة الحاكم السابقة: محاربة ممداني مكلفة، لكن السماح له بالفوز سيكلفك أكثر». وشن البعض حملة مضادة لانتخابه تقول: «أي أحد إلا ممداني».
فاز زهران ممداني في الانتخابات التمهيدية، وبدلاً من أن تشكل شخصيته نموذجاً مغايراً لإسلام نمطي راسخ في رؤوسهم، يصرّ خصومه في الولايات المتحدة على اختصاره بهيئة «مجاهد داعشي»، أو «مجاهد عالمي».
لن يقنعهم أن الشاب وَلَدٌ لمخرجة سينمائية وأستاذ جامعي، فذلك لن يتمكن من دحض افتراءاتهم ما دام ممداني يصر على موقفه الداعم لفلسطين، ويرى أن مدينته يجب أن تجابه نتنياهو المطلوب لمحكمة دولية.
آخر ظهور له كان منذ يومين، جاء في فيديو جميل جداً، ويبدو أنه أراده مسك الختام في حملته، فلا بد أن يكون له أثر بالغ عند ناخبيه ذوي الأصل العربي المسلم، وربما سواهم، لما يمثله من انفتاح وتعدد لغوي.
ظهر ممداني متحدثاً باللغة العربية، بالدارجة السورية تحديداً، وهو متمكن بالنظر إلى شخصيته كأمريكي يتعلم العربية كبيراً، ولو أنه كان متواضعاً حين قال إن لغته تحتاج إلى «شغل». قال ممداني، المتزوج من رسامة سورية، «بعرف كيف عم تفكروا، شكلي كأني صهركم من الشام». ورأيناه بعدها في عدة أمكنة، مع صينية الشاي التقليدية، ومن محال تجارية استهلاكية يبدو أنه تمثل شيئاً لعرب تلك البلاد، وكان لافتاً أكثر عندما ظهر في محل للكنافة النابلسية ووراءه علم فلسطين، وبالطبع لن يكون ظهور العلم اعتباطياً، فقط ظهر في لقطتين. ويبدو أن ظهور العلم بالذات أثار انتقادات، فاشتعلت حملات الشتم والاتهامات المسعورة من جديد.
فيديو خطِر
كان جميلاً أن الرجل لم يهادن في ظهوره، وكان بإمكانه تأجيل هذا الفيديو الخطر، غير المأمون العواقب، فليس أسهل من استثمار الخصوم للغة العربية كتأكيد على الهوية «الجهادية»، في بلاد اعتادت أن تسحب البندقية عندما تسمع صيحة عربية في محطة المترو، والنظر كذلك إلى العَلَم على أنه معاداة للسامية.
ومن ثم مرّرَ زهران ممداني بعض عناوين برنامجه الانتخابي، والذي يمكن تلخيصه بخفض تكاليف المعيشة، بدءاً بالنقل العام، ثم تجميد إيجارات السكن. من دون أن يعد بأن تكون الكنافة النابلسية أطيب منها في نيوجيرسي.
فيديو بدد كثيراً من قتامة الحملات المضادة واللئيمة تجاه المرشح الشاب، من دون أن يفلح تماماً في تبديد ظلال الأغنيات الحزينة عن الغرباء في المدن الغريبة. عندما يغني إنكليزي في نيويورك، وأفريقي في باريس، ونيويوركي في نيويورك.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»




