الأكاديمي اللبناني د. عماد سلامة: التشدّد الأمريكي يزيد من انكشاف لبنان وشهية إسرائيل و«حزب الله» يغامر بالرهان على سياسة «شراء الوقت»

الأكاديمي اللبناني د. عماد سلامة: التشدّد الأمريكي يزيد من انكشاف لبنان وشهية إسرائيل و«حزب الله» يغامر بالرهان على سياسة «شراء الوقت»
حاورته: رلى موفق
يرى رئيس قسم الدراسات الدولية والسياسية في الجامعة اللبنانية الأمريكية د. عماد سلامة أن إلغاء مواعيد قائد الجيش في واشنطن ليس تفصيلاً بروتوكولياً، بل رسالة سياسية مباشرة حول عمق أزمة الثقة الأمريكية بالحكم في لبنان، وبقدرته أو رغبته في التقدّم خطوة حقيقية نحو حصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية. وليست هذه الرسالة معزولة عن سعي إدارة دونالد ترامب إلى دفع مسار «اتفاقات أبراهام»، بحيث يُربط أي دعم للبنان بتقدّم ملموس في إعادة ترتيب معادلة السلاح والسلطة وحدود نفوذ القوى غير «الدولتية» ضمن الإقليم.
ويُشير إلى أنّ لبنان يقف اليوم بين «لا» واضحة من إسرائيل و«لا» مقابلة من «حزب الله». ويكتسب إعلان رئيس الجمهورية الاستعداد للتفاوض على استراتيجية دفاعية وعلى مستقبل السلاح أهمية خاصة، لأنه ينقل الملف ـ نظرياً على الأقل ـ من كونه مدار تجاذب ثنائي بين واشنطن و«الحزب» إلى إطار لبناني ـ عربي ـ دولي أوسع، ويُعيد تأكيد المبدأ القائل بأن السلاح ينبغي أن يُدمَج، في نهاية المطاف، ضمن منظومة الدولة. لكن هذا الاستعداد لا يكفي إنْ لم يُستكمل بتوافق داخلي واسع، ومظلّة إقليمية ـ دولية، وثمن سياسي وأمني واضح من الجانب الإسرائيلي.
ويتوقف سلامة عند التحوّلات الإقليمية التي تُعيد تشكيل موقع لبنان، بدءاً من التقارب الأمريكي ـ العربي، مروراً بتقييد نفوذ إيران وأذرعها المسلحة، ووصولاً إلى تجديد التنسيق التركي ـ الأمريكي الذي يُعيد رسم خرائط النفوذ في سوريا والعراق وشرق المتوسط. وفي ضوء هذه المتغيّرات، يصبح رهان «حزب الله» على الوقت محفوفاً بالمخاطر، لأن البيئة التي كانت تحمي «توازن الردع» تتغيّر بسرعة، ولأن احتمالات الحرب الواسعة لم تعد مستبعدة، كما كانت في السابق، خصوصاً مع تراجع فعالية خطوط الإمداد وتشديد المراقبة والضغط على «الحزب» وحلفائه.
ويعتبر أن الرسالة الأعمق لمؤتمر «بيروت ـ 1» هي: لا استثمارات مستدامة من دون ضرب أُسس الدولة العميقة، ولا خروج للبنان من أزمته من دون إعادة تعريف الشرعية على أساس المواطنة والقانون، لا على أساس اقتصاد الحرب والولاءات الفئوية. وهنا نص الحوار:
○ كيف تقرأ إلغاء مواعيد قائد الجيش في واشنطن وهل خسر لبنان ما يُوصف بـ«الفرصة الأخيرة»؟
• إلغاء مواعيد قائد الجيش اللبناني في الولايات المتحدة شكّل رسالة سياسية واضحة أكثر منه مجرّد تفصيل بروتوكولي. هذا الإجراء عُومِل في واشنطن بوصفه مؤشّراً على أزمة ثقة متراكمة حيال أداء الحكم في لبنان في ملف سلاح «حزب الله» وحدود سلطة الدولة. فمن منظور المؤسسات الأمريكية، باتت المقاربة اللبنانية تُقرأ على أنها استراتيجية «خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء»: الإعلان المتكرر عن التزام حصر السلاح بيد الدولة، مقابل غياب أي مسار عملي متماسك أو جدول زمني واضح يربط هذا الالتزام بإجراءات تنفيذية وقانونية وأمنية محدّدة.
في هذا السياق، جاءت مواقف السناتور ليندسي غراهام وأصوات نافذة في الكونغرس لتُجسِّد هذا التحوُّل في النظرة إلى الدولة اللبنانية، حيث انتقد الحكومة بشكل صريح متهماً إيّاها إمّا بالعجز عن ضبط سلاح «حزب الله» أو بالتساهل معه، ومُلوّحاً بإعادة النظر في مستوى الدعم الممنوح للمؤسسات الرسمية ما لم يطرأ تغيير ملموس في هذا الملف. وتندرج وتيرة الضغط الأمريكي المتزايد في إطار سعي إدارة ترامب إلى تحقيق نتائج سريعة تُستخدم لتغذية زخم أوسع لمسار «اتفاقات أبراهام»، بحيث يُربط أي دعم للبنان بتقدّم ملموس في إعادة ترتيب معادلة السلاح والسلطة وحدود نفوذ القوى غير «الدولتية» ضمن الإقليم.
○ هناك «لا» إسرائيلية و«لا» من قبل «حزب الله» ما يُعمّق المأزق… هل يكسره مسار التفاوض الذي طرحه الرئيس عون؟
• يبدو لبنان اليوم محاصَراً بين «لا» إسرائيلية من جهة، ترفض عملياً وقف اندفاعتها العسكرية أو القبول بترتيبات أمنية مستقرة قبل الحصول على ضمانات واضحة تتصل بنزع سلاح «الحزب» وضبط الحدود والمعابر، ومن جهة أخرى بين «لا» من جانب «حزب الله» الذي يربط أي نقاش جدي في مستقبل سلاحه بوقف اعتداءات إسرائيل وانسحابها من النقاط اللبنانية المحتلة، وتثبيت معادلة ردع تضمن عدم العودة إلى مرحلة تفلّت اليد الإسرائيلية في الجنوب والداخل اللبناني.
في هذا السياق، يكتسب إعلان نيات الرئيس جوزف عون بالاستعداد للتفاوض على استراتيجية دفاعية وعلى مستقبل السلاح أهمية خاصة، لأنه ينقل الملف ـ نظرياً على الأقل ـ من كونه مدار تجاذب ثنائي بين واشنطن و«الحزب» إلى إطار لبناني ـ عربي ـ دولي أوسع، ويُعيد تأكيد المبدأ القائل بأن السلاح ينبغي أن يُدمَج في نهاية المطاف ضمن منظومة الدولة، لا أن يُترَك معلّقاً بين شرعية المقاومة ووقائع الدولة الضعيفة أو احتمالات الفراغ الأمني والحرب الأهلية.
مع ذلك، فإن هذا الاستعداد، بصيغته الراهنة، لا يكفي وحده لكسر المأزق القائم. فلكي يتحوّل إلى مسار فعليّ، يحتاج أولاً إلى مظلّة توافق داخلي تشمل القوى الأساسية، بما فيها «حزب الله» نفسه، على مبدأ الانتقال التدريجي من سلاح المقاومة إلى استراتيجية دفاعية وطنية واضحة المعالم. كما يتطلّب ثانياً مراعاة البُعد الإقليمي، ولا سيما ارتباط السلاح بمنظومة الردع الإيرانية الأوسع في مواجهة إسرائيل، بما يعني أن أي تسوية واقعية يصعب فصلها عن قنوات تفاهم أمريكية ـ إيرانية ودور عربي داعم، خصوصاً من جانب الدول الخليجية ومصر. ويحتاج ثالثاً إلى بلورة «ثمن سياسي وأمني» واضح من الجانب الإسرائيلي، يشمل التزامات مكتوبة بوقف الاعتداءات، والانسحاب من النقاط المحتلة في الجنوب، واحترام سيادة لبنان وتثبيت قواعد اشتباك جديدة متوازنة.
من دون هذه العناصر المتكاملة، يبقى إعلان النيات خطوة إيجابية في المستوى الرمزي، لكنه يظلّ عرضة لأن يتحوَّل إلى مجرّد عنوان يُستخدَم في إدارة الوقت أو في إعادة توزيع المسؤوليات، أكثر مما يُشكِّل مدخلاً حقيقياً إلى تسوية مستدامة لواحد من أعقد ملفات الصراع في لبنان والمنطقة.
○ هل «حزب الله» ينجح في تمرير الوقت في رهان على تبدلات تُعيد لـ«محور إيران» ما فقده من نفوذ في لبنان والمنطقة؟ وهل يفقد لبنان فرصة قيام دولة طبيعية؟
• هناك، بلا شك، رهان من «حزب الله» وطهران على أن موازين القوى قد تميل مجدداً إلى مصلحة محور إيران: تقدّم في الملف النووي، ثمة رهان واضح من جانب «حزب الله» وطهران على أن عامل الوقت يعمل لصالحهما، سواء عبر تغيّر المزاج الدولي أو تبدّل موازين القوى الإقليمية، أو عبر احتمال تعثّر خطة غزة الجديدة وما يرتبط بها من ترتيبات أمنية وسياسية. غير أن القراءة الباردة للمشهد تُشير إلى اتجاه معاكس: فالمسار الإقليمي العام يذهب نحو تكريس منظومة جديدة قوامها شراكة أمريكية ـ عربية أوسع، وتقييد متزايد لأدوار الفاعلين المسلّحين من خارج الدول. في هذا الإطار، لا يقتصر الضغط على محور إيران عند حدود التقارب الأمريكي ـ السعودي أو إعادة تأهيل النظام السوري ضمن شروط محدّدة، بل يمتد أيضاً إلى إعادة ترميم العلاقة الأمريكية ـ التركية بما يرفع منسوب التنسيق الأمني داخل الناتو وفي ملفات الشرق الأوسط، ويحدّ أكثر من هوامش الحركة الإيرانية في سوريا والعراق وشرق المتوسط. هذا التقارب التركي ـ الأمريكي، إذا استمر وتعمّق، سيجعل من الصعب على طهران الحفاظ على شبكة نفوذها بالمدى نفسه، وسيضيّق الخيارات المتاحة أمام القوى المرتبطة بها، ومنها «حزب الله» في لبنان.
في هذا السياق المتحوِّل، يُغامر «الحزب» بالاستمرار في سياسة شراء الوقت انطلاقاً من معادلة ردع متبادلة مع إسرائيل، وبافتراض أن توازن القوى الميداني يمنع أي حرب شاملة. غير أن الضغوط الدولية المتزايدة، واندماج ملف سلاحه في مقاربة أوسع لإعادة رسم خرائط الأمن الإقليمي، يجعلان من هذا الرهان محفوفاً بالمخاطر. فالسجال الدائر حول دور قوات الأمم المتحدة في الجنوب (اليونيفيل) يندرج بدوره في هذه المعادلة؛ إذ إن انتهاء ولاية هذه القوات في آب/أغسطس المقبل سيضع «الحزب» في مواجهة مكشوفة ومباشرة مع الجيش الإسرائيلي على طول الخط الأزرق، ويزيد من احتمالات الانزلاق إلى مواجهة واسعة النطاق. في حال تدهورت الأوضاع، قد يجد لبنان نفسه أمام سيناريو اجتياح أو عملية عسكرية كبيرة مدعومة هذه المرة بشرعية دولية أوسع، وبقبول أطراف إقليمية، من ضمنها النظام السوري الساعي إلى إعادة تثبيت نفسه ضمن المنظومة الأمنية الجديدة.
في ظل هذه التحوّلات، تصبح مسألة «الدولة الطبيعية» في لبنان جزءاً لا يتجزّأ من الصراع على السلاح والحدود. استمرار ازدواجية السلطة بين دولة رسمية ضعيفة وتنظيم مسلّح يمتلك قرار الحرب والسلم يفرغ أي إصلاح اقتصادي أو سياسي من مضمونه، ويُبقي مؤسسات الدولة في موقع المتلقّي للضغوط والصفقات الخارجية. وكلما طال أمد الرهان على الوقت، تقلّص هامش إمكان صياغة تسوية لبنانية ـ داخلية على قاعدة عقد اجتماعي جديد يدمج قدرات «الحزب» ضمن منظومة الدولة، ويترافق مع إصلاحات بنيوية في النظام السياسي والاقتصادي. ومع مضيّ المسار الإقليمي نحو مزيد من الاصطفاف ضد الأذرع المسلّحة لإيران، يصبح الاحتمال أكبر بأن تُفرض التسويات أو المواجهات من الخارج، وبأن يُدعى لبنان إلى «تطبيع» أو «سلام» من موقع ضعف لا من موقع التكافؤ، فتتراجع أكثر فرص بناء دولة قادرة وذات سيادة كاملة على أراضيها وحدودها وقرارها الاستراتيجي.
○ »العين الحمراء» الأمريكية قد تؤدي إلى مزيد من انكشاف لبنان، وإلى تعزيز السردية الإسرائيلية. هل تشي الوقائع المستجدة باحتمال حرب إسرائيلىة أوسع لفرض حقائق جديدة تفتح الطريق أمام لبنان للانضمام إلى «سلام ترامب» في المنطقة؟
• التشدّد الأمريكي حيال الجيش والسلطة يزيد، بلا شك، من انكشاف لبنان: مادياً عبر التلويح بورقة المساعدات وربطها بمسار سياسي محدّد، وسياسياً عبر تبنّي الخطاب الذي يقدّم لبنان بوصفه امتداداً لمنظومة «حزب الله» الإقليمية. هذا التوجّه يُعزِّز السردية الإسرائيلية التي تميل إلى تصوير أي عملية عسكرية واسعة على لبنان كنوع من «الدفاع الاستباقي» لا كعدوان جديد، ويفتح شهية مزيد من القوى الدولية للتماهي مع هذا التبرير أو على الأقل غضّ النظر عنه.
في السابق، كان ميزان الردع المتبادل، وقدرات «حزب الله» الصاروخية والمسيّرة، واحتمال اتّساع رقعة الحرب لتشمل أكثر من جبهة، عوامل أساسية تكبح اندفاعة إسرائيل نحو اجتياح شامل. أمّا اليوم، فمن منظور إسرائيلي، تبدو البيئة الإقليمية والداخلية أكثر ملاءمة للتفكير في خيارات هجومية أوسع: فـ»الحزب» منهك بحروب استنزاف طويلة على أكثر من جبهة، وخطوطه اللوجستية نحو سوريا والعراق وإيران تتعرّض لضربات متكرّرة وتشديد في أنماط المراقبة والحصار، والنقاش اللبناني الداخلي يشهد تصاعداً في حدّة الانتقاد لسلاحه، سواء على مستوى الرأي العام أو في مواقف رسمية وحكومية تدعو صراحة إلى حصر السلاح بيد الدولة. يُضاف إلى ذلك احتمال أن ترى السلطة السورية الناشئة، الساعية إلى إعادة تأهيل نفسها دولياً وإقليمياً، مصلحةً في عدم الاشتباك مع أي عملية تُضعِف نفوذ «الحزب» على حدودها الغربية، وربما في توفير مستوى من التسهيل أو الغطاء غير المباشر لمثل هذا المسار ضمن ترتيبات أمنية أوسع.
هذه العناصر مجتمعة تجعل احتمال أو «شهية» اجتياح أوسع للبنان أكثر حضوراً على طاولة القرار الإسرائيلي ممّا كان عليه قبل سنوات. فبدلاً من الاكتفاء بسياسة «التصعيد المضبوط» والاغتيالات والضربات الموضعية، يصبح خيار العملية الكبيرة مطروحاً كوسيلة لإعادة رسم قواعد اللعبة على الحدود، وفرض وقائع أمنيّة جديدة تتكامل مع مشروع «سلام ترامب» الأوسع، بحيث يُربط أي وقف لإطلاق النار، وأي برنامج لإعادة الإعمار في لبنان، بشروط واضحة تتعلّق بنزع سلاح «حزب الله» أو تحجيم دوره الميداني إلى الحد الأقصى.
هذا السيناريو ليس قدراً محتوماً، لكنه ينتقل تدريجياً من خانة «الاستبعاد» إلى خانة «الاحتمال الجديّ»، كلّما تزايد شعور إسرائيل بأن «الحزب» يضعف عسكرياً ويخسر بعض شرعيته الداخلية، وكلّما استمرّ التصدّع في الموقف اللبناني الرسمي والشعبي حيال قضيّة السلاح. في مثل هذا السياق، تصبح مسؤولية القوى اللبنانية مضاعفة؛ فمن جهة، في بناء مقاربة دفاعية ـ تفاوضية تقلّص مساحات الفراغ التي يمكن استغلالها لتبرير الحرب؛ ومن جهة ثانية، في صياغة خطاب وطني يرفض تحويل الخلاف الداخلي إلى ذريعة لإعادة إنتاج حرب مدمّرة جديدة تُفرَض نتائجها على لبنان من خارج أي توازن داخلي أو إقليمي متكافئ.
○ شكَّل مؤتمر «بيروت ـ 1» الاستثماري إشارة إلى رغبة العالمَين العربي والغربي بالمجيء إلى لبنان بقدر ما كشف عن ارتباط هذه العودة بـ«الأمن والأمان»، وهو الاسم الحركي لنزع سلاح «حزب الله»، أي خلاصات أوحى بها هذا المؤتمر؟
• مؤتمر «بيروت ـ 1» لم يكن مجرّد تظاهرة استثمارية أو مناسبة بروتوكولية، بل شكّل في جوهره اختباراً سياسياً ـ اقتصادياً لمستقبل لبنان في مرحلة ما بعد الحروب والاهتزازات الإقليمية. الرسالة الضمنية التي حملها المؤتمر هي أنّ جزءاً وازناً من العواصم العربية والغربية ما زال يرى في لبنان فرصة قابلة للحياة، لكنّه لم يعد مستعداً للتعامل معه كدولة مُستثناة من شروط الحدّ الأدنى من الاستقرار والإصلاح. الحديث لم يكن عن «إنقاذ» بلد مأزوم بمنطق المساعدات، بل عن الاستعداد للدخول في شراكات طويلة الأمد إذا توافرت بيئة سياسية ومؤسسية قادرة على حماية الاستثمارات وربطها بمسار تنموي واضح.
وظهرت بوضوح المعادلة التي تربط بين الأمن والاقتصاد، لكن الأمن المقصود لم يعد يُختَزل في وقف إطلاق النار أو ضبط الحدود فحسب، بل في القدرة على تفكيك ما يمكن وصفه بـ«الدولة العميقة» التي نشأت بعد الحرب الأهلية داخل المؤسسات الرسمية. هذه «الدولة العميقة» هي شبكة النفوذ والتقاسم التي غذَّتها الميليشيات السابقة وأحزاب ما بعد الحرب، عبر زرع كوادرها في الأجهزة والإدارات، وتحويل مؤسسات الدولة إلى أداة لخدمة اقتصاد موازٍ يقوم على التهريب، والزبائنية، وتقاسم المداخيل غير الشرعية تحت عناوين متعدّدة مثل «المقاومة» أو «حماية المكوِّن الطائفي». هذه البنية ليست فقط عبئاً مالياً وأخلاقياً، بل تشكّل في نظر المستثمرين المانع الأساسي أمام أي استقرار طويل الأمد، لأنها تُبقي القرار الاقتصادي رهينة مصالح فئوية وشبكات ظلّ فوق المحاسبة.
من هذه الزاوية، يمكن قراءة «بيروت ـ 1» كإعلان واضح بأن عودة العرب والغرب إلى لبنان مشروطة بقدرة الدولة على استعادة قرارها من هذه الشبكات، لا بمجرد وعود إصلاحية. فالمجتمع الدولي لمّح إلى أن ضخّ الرساميل الكبرى يتطلّب إضعاف الاقتصاد الموازي ومنظومة التهريب والاحتكارات، وترسيخ دولة قانون قادرة على مراقبة الحدود والمرافئ، وتطبيق القواعد نفسها على الجميع. بذلك، يصبح مسار نزع السلاح غير الشرعي وترتيب العلاقة بين الدولة والقوى المسلّحة جزءاً من عملية أوسع لإعادة بناء الدولة نفسها من داخلها، عبر تفكيك التداخل القائم بين أجهزة الحكم وشبكات المصالح التي تأسّست باسم «المقاومة» أو «الخصوصية الطائفية». هذه هي الرسالة الأعمق لـ«بيروت ـ 1»: لا استثمارات مستدامة من دون ضرب أُسس الدولة العميقة، ولا خروج للبنان من أزمته من دون إعادة تعريف الشرعية على أساس المواطنة والقانون، لا على أساس اقتصاد الحرب والولاءات الفئوية.
○ هل قرار مجلس الأمن بشأن غزة الذي رحب بخطة ترامب قابل للتنفيذ؟ وهل رفض حماس لبعض بنوده قادر على الإطاحة بالخطة وتبعاتها؟
• قرار مجلس الأمن الذي تبنّى خطة ترامب للحل في غزة يمثّل نقطة تحوّل مهمّة، لأنه نقل المبادرة من كونها مشروعاً أمريكياً أحادياً إلى إطار دولي ذي طابع إلزامي نسبي، يقوم على وقفٍ تدريجي للعمليات العسكرية، وإنشاء قوّة لتثبيت الاستقرار، وإطلاق مسار لإعادة الإعمار، وإعادة تنظيم الحوكمة في القطاع. غير أنّ هذا التحوُّل الشكلي لا يعني تلقائياً قابليّة الخطة للتنفيذ، إذ تبقى فجوة ملحوظة بين ما تطمح إليه العواصم الداعمة للخطة وبين حسابات الفاعلين الأساسيين على الأرض، وفي مقدّمهم الفصائل الفلسطينية.
عملياً، سيتوقّف نجاح الخطة على الطريقة التي سيُعاد من خلالها تعريف «المصلحة» الفلسطينية في المرحلة المقبلة. وقد تتحوّل الخطة إلى إطار لإدارة الأزمة لا لحلّها؛ تُطبَّق بعض بنودها التقنية، كهدنة متقطّعة أو مشاريع إعمار خاضعة لرقابة دولية مشدّدة، فيما تبقى الأسئلة الجوهرية معلّقة حول طبيعة السلطة في غزة، ومستقبل السلاح، ومصير المشروع الوطني الفلسطيني برمّته. وفي المقابل، فإن سيناريو رفض حماس الكامل لمسار الانتقال، من دون تقديم بديل سياسي قابل للحياة، يحمل بدوره ثمناً كارثياً، إذ يُعرِّض السكّان المدنيين لاستمرار أو «تطبيع» الوضع القائم بما يعنيه من حصار طويل الأمد، ودمار عمراني واقتصادي مزمن، وانسداد في الأفق السياسي، بحيث يصبح الجمود نفسه نوعاً من التسوية القسرية التي يُدفَع الشعب إلى التعايش معها.
بهذا المعنى، لا يكمن التحدّي فقط في كيفية تجنّب خطة تُفرِّغ القضية من مضمونها، بل أيضاً في تجنّب معادلة موازية لا تقلّ خطورة، تُفضي فيها مقاومة أي انتقال ـ من دون أفق بديل ـ إلى ترسيخ واقع الإفقار والحصار واللا-دولة، وتحوُّل غزة إلى نموذج دائم لـ«إدارة البؤس» بدل أن تكون مدخلاً لمسار تحرّر وطني متدرّج ومنظّم.
○ القرار لا يضمن دولة فلسطينية فورية، بل يفتح «طريقاً موثوقاً» بشرط تحقيق معايير إعادة إعمار وإصلاح، ماذا يعني ذلك في القراءة السياسية الدولية؟
• القرار الأممي وخطة ترامب يتحدّثان عن «مسار موثوق نحو دولة فلسطينية» بدل الاعتراف الفوري بدولة كاملة السيادة. هذه الصياغة تعكس تحوّلاً في المقاربة السياسية والقانونية للقضية، بحيث تنقل فكرة الدولة من حيّز «الحقّ السياسي ـ القانوني» المستند إلى قرارات دولية سابقة ومبدأ تقرير المصير، إلى حيّز «المكافأة المشروطة» التي لا تُمنح إلا بعد استيفاء مجموعة من المعايير الأمنية والإدارية والاقتصادية يُعرّفها المجتمع الدولي، وتتحكّم القوى الكبرى في تقييم مدى الالتزام بها. بهذا المعنى، لا يعود قيام الدولة الفلسطينية نتيجة منطقية لإنهاء الاحتلال، بل تتقدّم شروط «الإصلاح» و«ضبط السلاح» و«التعاون الأمني» على جوهر المسألة المتعلّق بإنهاء السيطرة الإسرائيلية على الأرض والموارد والحدود.
هذه اللغة تمنح عملياً هامشاً واسعاً للولايات المتحدة وحلفائها لإدارة وتطويع المسار بحسب اعتبارات سياسية متغيّرة؛ إذ يصبح بالإمكان إبطاء أو تسريع «الطريق الموثوق» وفق تقييم أحادي لمدى التزام الفلسطينيين بالشروط الموضوعة، من دون التزام موازٍ وواضح من الجانب الإسرائيلي بوقف الاستيطان، أو إنهاء نظام السيطرة العسكرية، أو تحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال. في المقابل، تُستثمر العبارة نفسها في الخطاب العربي والدولي لتقديم الخطة بوصفها «فرصة واقعية» يجب اغتنامها، بحجّة أنّها المرّة الأولى التي يُذكَر فيها أفق دولة فلسطينية ضمن معادلة إقليمية أوسع تشمل غزة والضفة والعلاقات مع الدول العربية.
على المستوى الفلسطيني، تُواجَه هذه الصياغة بإشكالية مزدوجة؛ فمن جهة، لا يمكن تجاهل أي نافذة، مهما كانت ضيّقة، تفتح إمكان البناء التدريجي لمؤسسات الدولة وتخفيف معاناة الناس على الأرض؛ ومن جهة أخرى، ثمة خشية عميقة من أن تتحوّل فكرة «المسار الموثوق» إلى غطاء لاستدامة وضع انتقالي طويل الأمد، تُمنح فيه السلطة الفلسطينية أو أي كيان حاكم في غزة صلاحيات إدارية واقتصادية موسّعة، فيما تبقى مفاصل السيادة الفعلية ـ الأمن، والحدود، والموارد الاستراتيجية ـ تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة أو غير المباشرة. في هذه الحال، قد ينتهي الأمر إلى دولة «منزوعة الدسم»، تُلبّي جزءاً من احتياجات المجتمع الدولي لضبط الصراع، من دون أن تجيب فعلاً عن جوهر المطلب الوطني الفلسطيني بدولة ذات سيادة حقيقية ومتكافئة في النظام الدولي.
○ شكَّلت زيارة الأمير محمّد بن سلمان إلى الولايات المتحدة حدثاً استثنائياً في دلالاته: إعلان ترامب عن جعل السعودية الحليف الاستراتيجي الأساسي من خارج الناتو؛ حجم الاستثمارات السعودية ومروحة اتفاقات شاملة (مقاتلات، نووي، ذكاء اصطناعي، معادن نادرة… وما شابه) وقضايا سياسية، إلى ماذا يُؤسِّس ذلك؟ هل هي مجرد صفقات تجارية أم أنها تنطوي على أدوار ونفوذ وشراكة مركزية للسعودية مع الولايات المتحدة، في ضبط إيقاع التحولات الجيو-استراتيجية في المنطقة؟
• زيارة وليّ العهد السعودي إلى واشنطن، كما صُوِّرت في الإعلان الأمريكي عن جعل السعودية «الحليف الاستراتيجي الأساسي من خارج الناتو»، لا يمكن قراءتها بوصفها سلسلة صفقات تجارية معزولة، بل باعتبارها خطوة مفصلية في إعادة هندسة موقع المملكة ضمن المنظومة الأمنية والاقتصادية التي ترسمها إدارة ترامب للشرق الأوسط. فحجم التفاهمات التي طُرحت ـ من صفقات تسليح نوعيّة، مروراً بالتعاون النووي المدني، ووصولاً إلى شراكات في مجالات الذكاء الاصطناعي والمعادن النادرة ـ يُشير إلى انتقال العلاقة من مستوى التبادل التقليدي (نفط وسلاح) إلى مستوى شراكة أعمق في القطاعات التكنولوجية الحسّاسة التي تُستخدم عادة لتثبيت التحالفات طويلة الأمد.
في هذا الإطار، تبدو السعودية معنيّة بلعب ثلاثة أدوار متداخلة من منظور واشنطن: ركيزة أمنية إقليمية يجري ربط منظومات الدفاع والاستخبارات بها، ومحرّك اقتصادي ـ استثماري قادر على ضخّ رساميل ضخمة في الاقتصاد الأمريكي مقابل نقل خبرات وتقنيات تدعم «رؤية 2030» وتخفّف من ارتهان المملكة للنفط، وفاعل سياسي ـ دبلوماسي مؤهَّل للتوسّط في ملفات معقّدة تمتدّ من غزة ومسار الدولة الفلسطينية إلى الاتفاقات الإبراهيمية والملف النووي الإيراني وأزمات السودان ولبنان وسوريا. بهذا المعنى، تصبح الاتفاقات العسكرية والتكنولوجية جزءاً من «عقد استراتيجي» جديد، تُسند بموجبه إلى الرياض وظيفة إدارة توازنات حسّاسة في الخليج والمشرق، مقابل منحها اعترافاً أمريكياً بدورها القيادي ومجالاً أوسع للمناورة الإقليمية.
مع ذلك، فإن تعزيز النفوذ لا يأتي من دون أثمان أو حدود؛ فكلّما تعمّقت الشراكة في المجالات الأمنية والتكنولوجية، ازداد ارتباط المسار السعودي بحسابات الاستراتيجية الأمريكية، سواء في ما يتعلّق بإدارة العلاقة مع إيران أو بضبط إيقاع التطبيع مع إسرائيل أو بكيفية التعاطي مع التحوّلات في أسواق الطاقة العالمية. من هنا، يمكن القول إن زيارة وليّ العهد والاتفاقات التي رافقتها تؤسّس لدور سعودي أوسع من أن يُختزل بصفقات تجارية، لكنها في الوقت نفسه ترسم إطاراً جديداً لعلاقة تتقدّم فيها مكانة المملكة ضمن منظومة الحلفاء، مقابل تحمّلها قسطاً أكبر من مسؤوليات ـ وكذلك أعباء ـ إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة.




