الشهيد . معنى يتجاوز الجسد والزمان

الشهيد . معنى يتجاوز الجسد والزمان
محمود الجاف
ليس الشهيد مجرّد إنسان توقّف قلبه في ساحة حرب، ولا ظلاً يختفي خلف صمت المقابر . الشهيد في جوهره الأعمق هو الكائن الذي اكتشف أن الحياة ليست ما يُمنح للإنسان، بل ما يُعطيه الإنسان من ذاته . هو ذاك الذي أدرك أنّ القيمة تُصان حين تُفتدى، وأن الروح تتحرّر حين تختار مصيرها بإرادة كاملة، في اللحظة التي تتردد فيها الحياة ذاتها . في الوعي الديني هو أقرب إلى التجلي منه إلى النهاية؛ فالقرآن يضعه في موضع “الحياة” لا “الموت”، وكأن الوجود يعيد تعريف نفسه عندما يمرّ عبر هذا النوع من الفناء المضيء . وفي الأديان الأخرى، تتكرر الفكرة ذاتها بصيغ مختلفة : التضحية القصوى، الفداء، حماية الإنسان لإنسانيته ضد كل ما يسعى إلى انتزاعها . أمّا في الفلسفات الإنسانية، فيظهر الشهيد كأرقى تعبير عن قدرة الإنسان على تجاوز خوفه الأكثر بداهة : الخوف من الفناء . لان الشهادة، في معناها العميق، ليست موتاً من أجل الوطن فقط، بل اعترافٌ بأن هناك ما هو أثمن من الجسد، وأن الحقيقة حين تُحاصَر لا تحتاج إلى من ينطقها، بل إلى من يدفع ثمن استمرارها .
شهداء العراق . أولئك الذين أعادوا تعريف معنى البقاء
في العراق، لم تكن الشهادة حادثة معزولة، بل كانت جزءاً من نسيج تاريخٍ متوتر امتد قرناً كاملاً . جموعٌ من أبناء الطوائف والقوميات والديانات وقفوا جميعاً تحت سقف واحد : أن الأرض لا تملك أن تدافع عن نفسها دون أن يهبها أبناؤها بعضاً من دمهم، وأن الوطن مهما تعددت صوره هو في جوهره ذلك الوعد الذي لا يكتمل إلا بالتضحية . كانت النتيجة نهراً من الدماء، ليس لحماية حدود جغرافية فحسب، بل حدود روحية، قيمية، هوية تعرّضت مراراً للاقتلاع . خلف هذا النهر، ترك الشهداء عائلاتٍ انكسرت أكتافها، وأطفالاً تعلّموا معنى اليتم قبل أن يتعلموا معنى الكلمات، ورجالاً فُقدت من صدورهم أنصاف أرواحهم . ومع ذلك، فإن الشهداء لم يغادروا العراق؛ لقد بقوا فيه بطريقة لا يمكن للتاريخ أن يمحوها . بقوا في الذاكرة، وفي الخوف الذي يزول كلما استُحضروا، وفي اليقين بأن بقاء الوطن لم يكن صدفة، بل نتيجة أثمانٍ لم يعد ممكناً تجاهلها .
ثم جاء الاحتلال . وسؤال الخيانة الكبرى
حين دخل الاحتلال عام 2003، كان المشهد أقرب إلى انهيار معنى الدولة نفسها : مؤسسات تفككت، مجتمع تصدّع، خطابٌ وطني فُقد بين صراعات المصالح . بدا وكأن إرث الشهداء الممتد لعقود يُهدَر بضربة واحدة، وكأن ما دُفع من دماء ليحفظ الأرض قد استُبدل بفوضى تُهدّد كل شيء . ومع ذلك يبقى الدمّ من حيث طبيعته الفلسفية أقوى من السقوط السياسي. فالدولة قد تنهار، والنظام قد ينهار، لكن القيمة التي مات الشهيد من أجلها تتجاوز الكيان المادي للدولة . الشهادة لا ترتبط بنظام الحكم، بل بالمعنى الذي يجعله ممكناً . ولهذا، فإن روح الشهيد تظل أعلى من قدرة الاحتلال على الإلغاء، وأقوى من قدرة عملائه على التشويه .
يوم الشهيد العراقي . ذاكرةٌ تشبه المرآة
اختار العراق الأول من كانون الأول يوماً للشهيد، استعادةً لحادثة بشعة خلال الحرب العراقية – الإيرانية، حين قُتل عدد من الأسرى العراقيين بوحشية تُناقض كل قانون وأخلاق . لم تتحول الحادثة إلى ذكرى لكونها مروّعة فقط، بل لأنها كشفت ببلاغة قاسية عن طبيعة الصراع : أنّ الإنسان، حين يصبح وجهاً لسيادة وطنه، يتحول جسده نفسه إلى ساحة مقاومة . لقد أصبح هذا اليوم مرآة، تنعكس فيها معاناة المقاتل العراقي، وصلابته، وإصراره على الدفاع عن وطنٍ كان يعرف أن سقوطه يعني سقوط معنى حياته .
الأسئلة التي يتركها الشهداء وراءهم
إن الشهداء لا يرحلون بصمت . إنهم يتركون أسئلة، أسئلة ثقيلة لا يجيب عنها الزمن بل الأحياء :
-هل نحن أهلٌ للثمن الذي دُفع من أجل أن نعيش؟
-هل حفظنا وطناً رأوه أغلى من أجسادهم؟
-هل حافظنا على الوحدة التي صانوا بها الأرض؟
-وهل فهمنا أن الشهادة ليست حدثاً نُحييه، بل مسؤولية تُمارَس؟
إن إرث الشهيد ليس لقباً ولا منظراً احتفالياً . إنه تكليف . تكليفٌ بأن لا نسمح لاحتلال أو تطرف أو فساد بأن يمحو ما ثبتته الدماء . فالشهيد ليس رقماً في سجل، ولا صورة على جدار، بل هو تلك اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن معنى الحياة أهم من الحياة نفسها . وحين نكتب عنهم، فإننا لا نكتب عن موت، بل عن أعلى درجات الحياة، وعن وطنٍ صيغ جزء كبير من هويته بالحبر الأحمر الذي لم يجفّ منذ قرن .
إن الشهادة، في معناها الوجودي، ليست فعلاً ينتهي حين يسقط الجسد، بل هي علاقة مستمرة بين أحياءٍ مُطالَبون بأن يرتقوا، وبين شهداء ارتقوا بالفعل . إنها ليست موتاً يمضي، بل حياة تطالبنا بأن نكون على مستواها.




