عربي دوليمقالات

 قرار التأميم التاريخي: مشهدية إعلانه لن تمحى من الذاكرة العربية– طليعة لبنان

 قرار التأميم التاريخي: مشهدية إعلانه لن تمحى من الذاكرة العربية
طليعة لبنان
قبل واحد وخمسين عاماً من هذا التاريخ، كان العراق ومعه أمته العربية على موعد مع حدث هام جداً، أرخ له الأول من حزيران من العام ١٩٧٢. في ذاك اليوم، قطعت إذاعة بغداد وتلفزيونها بثهما العادي، وبدءا بث النشيد الوطني، حيث ظن كثيرون أن ثمة تطوراً هاماً حصل في العراق، وأن هذه الإشارة تعني أن انقلاباً وقع، وأن الإعلان عنه سيبث على الأثير من خلال الإذاعة والتلفزيون.
هذا التقدير عند البعض، بأن انقلاباً حصل في العراق، تم ربطه بتصريح أدلى به رئيس الوفد البريطاني الذي كان يمثل شركة “بي بي” (بريتش بتروليوم) في مطار بغداد مغادراً حول النتائج التي أسفرت عنها المفاوضات مع الحكومة العراقية حول تعديل الاتفاقيات السابقة والنافذة حتى تاريخه، فكان جوابه ستسمعون بالخبر قبل وصولي الى لندن. وكان يوحي أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود بسبب تصلب موقف العراق الذي يصر على استرداد حقوقه التي انتزعت منه استناداً إلى اتفاقيات إذعان املى شروطها وحبك خيوطها المستعمر البريطاني، ولمح رئيس الوفد البريطاني آنذاك إلى مصير مصدّق في إيران يوم أقدم على اتخاذ قرار تأميم النفط الإيراني، يوم أعلن البلاغ الأول بإسقاطه واردف بدفع حياته ثمناً لذاك القرار.
كان البعض يعتقد أن تجربة مصدّق في إيران ستتكرر في العراق خاصة وأن الرئيس صدام حسين، (ويوم ذاك كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة ولرئيس الجمهورية هو من كان يدير ملف المفاوضات). لكن ما أن انتهت إذاعة بغداد وتلفزيونها من بش النشيد الوطني، حتى كان الرئيس أحمد البكر، رئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة، يطل من على شاشة تلفزيون العراق ليعلن باسم شعب العراق قرار تأميم النفط الذي شمل امتياز شركة (بريتش بتروليوم)، وهي الشركة التي كانت تحوز على الحصة الأكبر من إنتاج النفط العراقي وتسويقه.
منذ ذاك التاريخ، رأت شركات النفط الأجنبية، أنها تلقت صفعة قوية، كونها خسرت معركتها في ساحةٍ، هي على قدر كبير من الأهمية في سوق الإنتاج والتسويق النفطي والتي كانت تمسك بجلابيبه القوى الاستعمارية منذ اكتشف النفط في باطن الأرض العربية.
إن قرار تأميم النفط الذي اتخذته قيادة العراق، يعتبر من أهم القرارات التاريخية في التاريخ المعاصر للعراق والأمة العربية. وأهميته لا تكمن فقط، بأنه كان ترجمة عملية لوضع شعار “بترول العرب للعرب”، الذي رفعه حزب البعث في وقت مبكر من إطلالته على الحياة السياسية العربية، وإنما الأهمية تكمن في أبعاد ثلاثة لا تقل أهمية عن تطبيق الشعار القومي.
البعد الأول، تجلى بالكفاءة السياسية التي أديرت فيها معركة استرداد حقوق العراق بنفطه، حيث كان التركيز على الحلقة الأقوى في شركات النفط الأجنبية العاملة في العراق، وتحييد الحلقات الأضعف وذات الحصص الأقل، ريثما يتم هضم الخطوة الأولى وتوفير شروط الحماية الخارجية لها، وهذا ما حصل، حيث لم يتجلَ نجاح العراق في قدرته على اتخاذ القرار السياسي وحسب، وإنما أيضاً في استمرار إنتاج نفطه وتأمين أسواق له، لكسر إمكانية فرض حصار على عمليه تسويقه للنفط، والكل يعلم كيف تتحكم الكارتلات النفطية الكبرى بعملية الإنتاج والتسويق والتسعير والأسواق. (مع ملاحظة أن شركة “بريتش بتروليوم” والتي تسمى بشركة نفط العراق هي ثالث أكبر شركة في العالم في مجال التنقيب والإنتاج والتسويق).
البعد الثاني، أن قرار التأميم، توفرت له الحماية الداخلية، من خلال انسداد أية ثغرات في بنية النظام السياسية، يمكن أن يستغلها الأعداء للتشويش على القرار والانقضاض عليه، وأكثر من ذلك فأن شعب العراق تعامل مع الخطوة باعتبارها إنجازاً وطنياً مكملاً بنتائجه لخطوة الاستقلال السياسي الذي وضع حداً للانتداب البريطاني ولمحاولات إدخال العراق في أحلاف مشبوهة معادية في استهدافاتها للأمة العربية وتوقها نحو التحرر والتقدم والوحدة. وهكذا شكل الموقف الشعبي حزام أمان داخلي ،ولم يتأخر الوقت كثيراً حتى كان مردود إنتاج النفط يوظف في سياق مشروع التنمية الوطنية الشاملة والدور القومي للعراق والتي ترجمت بالخطة الانفجارية التي أحدثت تحولاً نوعياً في حياة العراقيين الذين لم يكن يصلهم من مردود النفط قبل التأميم ما لا يتجاوز المئة مليون دينار فيما الشركات الأجنبية كانت حصتها بالمليارات وبحضور العراق في ساحة الفعل القومي كما الدولي.
البعد الثالث، إن العالم الرأسمالي الذي تديره الكارتلات الكبرى والنفطية أولها، كانت تخوض معارك شرسة لحماية امتيازاتها واستثماراتها، وكانت تعتقد أن نجاح أية محاولة للتفلت من سيطرتها وسطوتها وهيمنتها في أية ساحة، ستدفع آخرين للدخول ميدان محاولات أخرى، ولذلك لم يكن من مصلحتها أن تنجح أية خطوة في تأميم النفط الوطني إنتاجاً وتسويقاً حتى لاتكر السبحة وتتهاوى الحصون النفطية كما تتهاوى أحجار الدومينو. ونجاح العراق في تأميم نفطه شكل تجربة رائدة بحيث أن كثيراً من الدول خاضت بعد ذلك غمار هذه التجربة منهم من نجح، ومنهم من فشل، ومن لم يستطع تحقيق نجاح كامل، حققاً نجاحاً جزئياً من خلال تحسين حصته، وبشكل خاص لدى بعض الدول العربية، ولكن للأسف لم يذهب هذا البعض من الذي ارتفع منسوب دخلهم من النفط الى توظيفه في خدمة المشاريع التنموية الشاملة على المستوى الوطني كما القومي، وإنما ذهب إلى توظيفه في حسابات المنظومات الحاكمة التي وظفتها في شركات استثمارية دولية، دون أن يصل الى أصحاب الحق الطبيعيين بثروات بلادهم إلا الفتات، وما جرى توظيفه داخلياً تم في أقانيم الاقتصاد الريعي، وأكثر من ذلك فإن بعضاً مما أصبح يمتلك فائضاً نقدياً أقدم على توظيفه في الاتجاه المعاكس لمشاريع التنمية والالتزامات القومية والوطنية ووظفه كأوراق ضاغطة على المواقع الوطنية العربية في السلطة كانت أو خارجها، وما تعرض له العراق من خلال الحصار وبعدها العدوان وما تتعرض له ثورة فلسطين نموذجاً.
إن الأبعاد الثلاث التي انطوى عليها قرار التأميم، هو الذي جعل العراق يبقى في قلب العاصفة منذ انطلاق ثورته في السابع عشر الثلاثين تموز. ولما لم تستطع القوى المعادية أن تسقط هذه الثورة من الداخل، عمدت إلى التحريض والتعبئة ضدها من الخارج والتي بدأت بإطلاق المواقف المعادية التي أسست للعدوان الإيراني في بدء الثمانينيات وانتهت بهزيمة نظام الملالي، ومن ثم العدوان الثلاثيني والحصار وصولاً الى العدوان الذي أوقع العراق تحت الاحتلال.
لقد شنت الحرب الثلاثينية على العراق على خلفية الموقف من أزمة الكويت، والغزو الذي أدى إلى الاحتلال، شن تحت ذريعة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وعلاقة مزعومة مع القاعدة، وفي اعتراف لاحق اعترفت أميركا كقائدة العدوان بأن التبريرات استندت إلى تقارير كاذبة ومفبركة.
لقد كان العدوان على العراق العام ١٩٩٠-١٩٩١ وبغض النظر عن أسبابه الظاهرية، إنما كان حرباً على نتائج الحرب مع إيران. والحرب التي شنت على العراق العام ٢٠٠٣، كنت حرباً ثأرية بمفعول رجعي على قرار التأميم التاريخي.
لقد انتظرت الكارتلات النفطية ثلاثون سنة كي تثأر من هزيمتها التي منيت بها في الأول من حزيران العام ١٩٧٢، وأميركا ومن معها من قوى التحالف الصهيو – استعماري، التي اعتبرت نفسها مقتولة قبل ثلاثين سنة من الغزو لم تنس الضربة التي أصابتها في مقتلها.
فهل ينسى العراق ومعه أمته العربية ما تعرضا له وهما مقتولان من العدوان المتعدد الأشكال؟.
إن الكارتلات النفطية لم تنس أنها قتلت في معركة فقدان امتيازاتها الاقتصادية قبل خمسين سنة.
فكيف تنسى أمة تنحر السهام في جسدها وهي مهددة بخسارة هويتها وتفكيك بنيتها القومية والمجتمعية.!
إن جماهير العراق ومعها جماهير الأمة العربية تستحضر دائماً مشهدية الرئيس البكر وهو يعلن قرار التأميم التاريخي، كما مشهدية استشهاد القائد صدام حسين في أول أيام الأضحى المبارك، وهي إن طال صبرها إلا أنها لن تنسى واقعة من صوب سهام القتل الى صدرها.
إنها حتمية الصراع المفتوح مع أعداء الأمة المتعددي المشارب والمواقع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب