فلسطينثقافة وفنون

في حضرة النهر الثالث وحارس عبقر… رحلة العراق ج٢…  بقلم المؤرخ حسام أبو النصر

بقلم المؤرخ حسام أبو النصر -فلسطين

في حضرة النهر الثالث وحارس عبقر… رحلة العراق ج٢…  بقلم حسام أبو النصر

كنت قد خرجت للتو من اجتماع مع وزير الثقافة والسياحة والاثار العراقي أحمد فكاك البدراني عبرت له خلالها عن اعتزازنا بالتاريخ المشترك وامتداده من زمن الكنعانيين والبابليين وصولاً للحكم العثماني وانه لا يمكن كتابة تاريخنا العربي بمعزل عن هذه العلاقة، وما تعرض له البلدان من سرقة ونهب للهوية والتراث لعزلنا عن تاريخ العالم لكن بقيت الآثار شاهداً على عمق الحضارتين، وان العراق دفع ثمن مواقفه بدعمه لفلسطين، كان البدراني يسمع بشغف، وتعابير وجهه المنهكة تعبر عن ألم العراق، وكأنه يسترجع ذكريات ما  دار خلال حديثنا، وعبر عن سعادته لهذه الزيارة مثمناً دور المثقفين الفلسطينيين في دعم العراق والاستعداد للتعاون الكامل في الجانب الثقافي مع فلسطين، فجأة أظلمت القاعة، يبدو أن الكهرباء قطعت، وهي معاناة جديدة اضيفت للعراق بعد الازمات التي مرت بها، فقلت مازحاً بالتأكيد هذا تضامناً مع فلسطين وخاصة غزة فنحن نتشارك في هذه المعاناة، ابتسم الموجودين، واهديت البدراني كتبي عن كتابة التاريخ، مودعاً، شاكراً، مغادراً، نحو مقر اتحاد كتاب وأدباء العراق التاريخي الذي يقع في الشارع الرئيسي في ساحة الاندلس، حيث  لم يكن من الممكن أن تكتمل رحلتي دون زيارة اشعاع ومنارة الثقافة والأدب والشعر في العالم العربي، ومنبع الكتاب العراقيين، فقد هاتفت رئيس الاتحاد الشاعر والناقد الكبير علي الفواز الذي رحب بالزيارة وفعلا كان في الاستقبال ومعه الأخ عمر سراي الأمين العام ومجموعة من كتاب شملت، الناقدين الكبيرين علي شبيب الورد، وجمال الهاشمي، والشاعر الكبير رياض النعماني (رفيق درب النواب) الذي كنت قد التقيته خلال زيارته فلسطين عام ٢٠١٨، مع الفنان سعدون جابر، وعادت بنا الذاكرة خمس سنوات والذكريات، شعور لا يوصف وكأني أمام أصدقاء أعرفهم منذ زمن بعيد، واخذنا الحديث عن أوضاع كتاب فلسطين وما يتعرضون له من بطش الاحتلال وعلى رأسهم المفكر وليد دقة، واستذكرنا أهم الكتاب العراقيين الذين التحقوا بالثورة الفلسطينية، وأيضا الكتاب الفلسطينيين الذين عاشوا في العراق منهم المفكر جبرا ابراهيم جبرا، ومحمد الأسعد وصولاً إلى سلافة حجاوي، والشاعر أحمد يعقوب، ولم ننسى القاص الروائي محمد سمارة ( رحل دون أن يملك بيتا)، وخلال الحديث اصطحبوني إلى قاعة المؤتمرات التي كانت قبل أيام قد احتفلت بمئوية نازك الملائكة، وتشرفت أن أعتلي منصتها، وأهداني الفواز درع زجاجي، فيه صور المؤسسين الأوائل وهم لبنة الهيئة الإدارية الأولى لإتحاد كتاب العراق، ضمت كل من: محمد الجواهري، لميعة عباس عمارة، عبد الوهاب البياتي، عبد الله كوران (والذي عمل في اذاعة الشرق الأدنى في يافا عام ١٩٣٩)، مهدي المخزومي، علي جليل الوردي، مهدي يوسف، صلاح خالص، محمد صالح بحر العلوم، عبد الملك النوري، عبد الكريم الدجيلي، علي جواد الطاهر، ذو النون أيوب، يوسف العاني، أشار الفواز إلى أنه قد تم افتتاح متحف في الاتحاد حديثاً، يحمل إسم محمد الجواهري شاعر العرب الأكبر، ونهر العراق الثالث كما لقبوه، وهو (مؤسس وأول رئيس لاتحاد الكتاب في أيار عام ١٩٥٩)، فاصطحبني إليه، لأجده مبنى جديد يشبه الطراز التقليدي القديم لمقر الاتحاد وضمن توسعته، وعند مدخل المتحف، يرقد تمثال لرأس رجل أسود، (نحته الفنان شرحبيل أحمد)، أخبرني الفواز أنه يجسد شخصية حارس المتحف، حيث تقول الأسطورة العربية القديمة حسب ما هو مدون، أن ثمة واديا إسمه عبقر، يعيش فيه الجن المعني بإلهام المبدعين ابداعهم، والمفكرين أفكارهم ومن هؤلاء الجن لافظ بن لاحظ، الذي ألهم إمرأ القيس قصائده الخالدة، ومسحل بن أثاثة الذي أهدى الأعشى نوادر شعره، وهاذر بن ماهر ملهم النابغة الذبياني وكذلك غيرهم من الجن الملهم هبيد وشنقناق … وان هذا المكان(المتحف) سيكون كعبقر يعطي من يزوره فكرة جديدة ومثمرة (وقد أعطاني ذلك فعلاً) وحرصا على أن لا تسرق أفكارهم، وضع هذا التمثال للرجل الأسود ليكون حارسا أمينا لكل شاردة وواردة .
وكان أمين عام المتحف القاص والروائي حسن البحار يشرح لي عن محتويات ومقتنيات المتحف للمؤسسين الذين ذكرتهم، إضافة إلى كتاب وشعراء آخرين أبرزهم، عبد المجيد الونداوي، باسم عبد المجيد حمودي، عزيز السيد جاسم، مظفر النواب، بدر شاكر السياب، الفريد سرحان، فاضل ثامر، حنون مجيد، عبد الرحمن الربيعي، غائب طعمة فرمان، بلند الحيدري، رشدي العامل، ناجح المعموري (الذي ترأس الاتحاد لدورتين)، أحمد خلف، يوسف الصائغ، ابراهيم الخياط (أمين عام الاتحاد حتى توفي عام ٢٠١٩ اثر حادث أليم)، وجميل الجبوري وآخرون.
وجبت مع الأمانة العامة ورئيسها بين الفترينات المخصصة لكل كاتب، فيها سيرتهم وأعمالهم إلى جانب مخطوطات لأعمال شعرية، سردية، نقدية، وفنية، لتشمل أيضاً مقتنيات الموسيقار الملحن الراحل محمد جواد اموري، منها عوده الشخصي، الذي يزين زاوية المتحف من فوق، وقد برزت أعمال النحاتين في بورتريهات وتماثيل أنجزها عدد من النقاشين، والتشكيليين، أهمها تمثال كامل الجسد للجواهري، وتماثيل تجسد وجه العامل، والنوري، للنحات نداء الكاظم والذي قام بأغلب الأعمال الفنية، كما نحت حسنين جهاد تمثال السياب، فيما لوحة للفنان إحسان عبد الجبار تجمل مدخل المتحف، معلقة بجانب حارسه الأسود، ومن ضمن المقتنيات تمثال لنازك الملائكة مقدمة من رئيس الوزراء العراقي في مئويتها، (التي كنت محظوظ بالحصول على دواوين شعرها من مكتبة الراحلة سلافة حجاوي)، فيما تظهر في الفترينات العديد المقتنيات متنوعة وثمينة، فناجين، وكؤوس محفورعليها أبيات الشعراء، وشمعدان، وإنارات، وصحون كان يستعملها الكتاب، وبطاقات شخصية، غليون، مسابح، أختام شخصية، ساعات يد، أقلام خطو بها كتاباتهم، إصدارات قديمة لأعمالهم، مخطوطات بخطهم، نظارات، أوسمة تذكارية، وصور قديمة، ملابس شخصية، منها طاقية الجواهري، عباءة وعمامة مصطفى جمال الدين، وفي واجهة المتحف  مكتبة كبيرة تضم مجلدات لهم، تنبعث منها رائحة الكتب القديمة تجذبك إليها، فيما خصصت زاوية لـ (الأديب العراقي) ثاني أقدم مجلة ثقافية عراقية بعد مجلة الثقافة الجديدة، والتي صدرت عام ١٩٦١م، وقد تغير اسمها عام ١٩٧١ للأديب المعاصر، حتى عامي ٢٠٠٣- ٢٠٠٥ بعد الاحتلال، لتعاود الصدور بإسم الأديب العراقي، استمرت الجولة بين ثنايا القصص التي لا تنتهي، في حضرة الجواهري تخطفك الدهشة، ويعود بي ما قرأته وما سمعته عنه، وخطرت في ذهني مفارقة عجيبة حين طلبوا منه أن يوقع على ورقة يتحمل فيها المسؤولية عن حياته خلال زيارته فلسطين (التي كتب فيها شعر، يافا الجميلة)، وطلبوا منه إيداع وصيته، كانت تلك مقدمة لسفرة مخيفة، مع هذا لم يكترث ولم يراوده القلق، دوّن موافقته ثم إتجه إلى المطار، حيث انطلقت الطائرة، وهو نفس شعوري حين اُبلغت بالرحلة على أن أتحمل مسؤولية قرار الذهاب للعراق، بل أصريت على السفر لتتحول المخيلة إلى حقيقة عن بلاد الرافدين وحكاياتها، رغم كل الأخبار الواردة حتى سنوات قريبة ولم تبشر بإستقرارها الكامل بعد، إلا أني قررت دون تردد أن أتوجه إلى بغداد لأرى ما أراه وأروي ما أرويه الآن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب