عربي دولي

منطقة الانقلابات.. كيف أصبح غرب إفريقيا برميل بارود يهدد القارة والعالم؟

كانت النيجر آخر دول منطقة غرب إفريقيا التي تنعم باستقرار نسبي، قبل أن تشهد انقلاباً خلط الأوراق، فكيف تحولت المنطقة إلى برميل بارود وساحة لصراع لا ينتهي بين القوى الكبرى؟

ولا تزال الصورة غامضة رغم مرور أكثر من أسبوع على وقوع الانقلاب في النيجر، كما لم تتضح بعدُ أسباب اندلاع الاضطرابات الأخيرة في منطقة الساحل الممتدة في وسط إفريقيا.

فالنيجر كانت تُرى أكثر الدول استقراراً في المنطقة، ولم يمر سوى بضعة أشهر على وصف وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، لها بأنها “نموذج للديمقراطية”. واستند هذا الرأي حينها إلى نجاح رئيسها محمد بازوم، الوسطي والمؤيِّد للغرب، في الفوز بانتخابات عام 2021 الرئاسية بأكثر من 55% من الأصوات، ليصبح أول زعيم للبلاد يتولى السلطة سلمياً منذ الاستقلال عن فرنسا في عام 1960.

منطقة الاضطرابات والانقلابات

تناول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية كيف أن انقلاب النيجر يمثل فصلاً آخر من فصول الاضطرابات في منطقة الساحل الإفريقي. فأيَّ رحالة تسوقه الجرأة الآن إلى اجتياز القارة الإفريقية من شرقها إلى غربها، أو من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، فسيواجه مصاعب جمة وتكاليف مرهقة كي يقطع رحلته دون المرور ببلدٍ إما تمزقه الحرب الأهلية وإما يحاول التعافي من آثارها، وسيتعذر عليه أن يجد دولة في طريقه لم يقع بها انقلاب عسكري منذ 2021 أو لم تتحول إلى دولة فاشلة يسيطر عليها مركَّب المهالك المعتاد، من السياسيين الجشعين والميليشيات المتشددة والمرتزقة الروس، وفي القلب من ذلك كله بقايا النفوذ الاستعماري الفرنسي.

ولا شك أنه لا يستحسن بهذا الرحالة أن يسلك الطريق الذي يمر من منطقة تيغراي الشمالية في إثيوبيا، التي كانت تضطرم بالحرب الأهلية حتى العام الماضي؛ ثم عبر السودان، الذي تفشى فيه العنف بعد انتقاله من نظام قمعي إلى صراع داخلي على السلطة؛ ثم جمهورية إفريقيا الوسطى، التي يرى كثير من الخبراء الآن أنها نموذج يجمع أسوأ ما تشهده بلدان القارة من أزمات.

وإذا واصل الرحالة طريقَه شمالاً فسيمر عبر تشاد، التي يحكمها جندي يبلغ من العمر 39 عاماً، استولى على السلطة في عام 2021 بعد مقتل والده في أرض المعركة، بعد نزاعه الممتد 30 سنة على السلطة؛ ثم مالي التي عصفت بها حركات التمرد والميليشيات المتشددة، وزاد عليهم المرتزقة الروس الذين استأجرهم قائد الانقلاب الثاني في البلاد خلال السنوات الأخيرة.

انقلابات غرب إفريقيا
جنود ماليون خلال دورة تدريبية في مارس 2021 / رويترز

ويمكن أن يتخذ الرحالة طريقاً آخر يمر به على الكاميرون، التي لا تزال تعاني وطأة الحرب الأهلية الطويلة؛ وبوركينا فاسو، التي شهدت انقلابين عسكريين في عام 2022 فقط.

في كلتا الحالتين، يحتاج هذا الرحالة إلى حماية عالية التكاليف والكثير من حسن الحظ، فضلاً عن أنه لا سبيل له إلى بلوغ الجانب الآخر عبر هذين الطريقين إلا بالمرور عبر النيجر، التي أصبحت أحدث دولة تقع فريسة للاضطراب المتوطن في المنطقة بأسرها.

صراع تقليدي انتهى بانقلاب النيجر

تشير التقارير إلى أن بازوم كان ينوي إعادة تشكيل الحرس الرئاسي- وهو قوة من نخبة الجنود يقودها الجنرال عبد الرحمن تشياني- لكن لمَّا علم قائد الحرس أنه قريب من الإقالة، سارع بالتحرك ووضع بازوم قيد الإقامة الجبرية.

ثم تتابعت الخطوات المعتادة للانقلابات العسكرية،  فظهر الجنود على تلفزيون البلاد الرسمي ليعلنوا أنهم عزلوا الرئيس من السلطة، وجمَّدوا العمل بالدستور. ثم أعلن تشياني نفسه زعيماً للنيجر في خطاب متلفز، وقال إنه اضطر إلى ما فعله لحماية الأمة من تهديدات أمنية جسيمة.

تصاعدت الأزمة حتى وصلت الآن إلى لحظة حرجة، فقد أدى استيلاء تشياني على السلطة إلى تهديد 15 دولة في غرب إفريقيا بالتدخل العسكري، وأمهلته تلك الدول- بزعامة نيجيريا- حتى مساء الأحد 6 أغسطس/آب للتنحي، وإلا التحرك لإزاحته وإعادة بازوم إلى حكم البلاد. انتهت المهلة دون أن يتراجع قادة الانقلاب، رغم وصف وزير الخارجية الفرنسي تلك التهديدات، يوم السبت 5 أغسطس/آب، بأنها “جديرة بالتصديق”. ومع ذلك، فإن تشياني لم تصدر عنه أي بادرة تفكير في حلٍّ وسط للأزمة، بل دعا أبناء وطنه لمقاومة أي محاولة لغزو البلاد.

في غضون ذلك، استولى الفزع على مختلف الدول في جميع أنحاء القارة. ووصف الرئيس الكيني، وليام روتو، ما حدث بأنه “نكسة خطيرة”، لكن الواقع أن الأمر أشد وطأة من ذلك، فاستقرار النيجر أمر لا غنى عنه لاستقرار منطقة الساحل، وتوطُّد الاستقرار بتلك المنطقة بالغ الأهمية لمستقبل القارة.

لقد تحولت المنطقة في غضون 15 سنة من منطقة فقيرة، ولكنها مستقرة نسبياً، إلى بوتقة من الفوضى السياسية، والمعاناة الإنسانية، والاتجار الإجرامي بالبشر، وعنف المتطرفين. وأبانت الأنظمة العسكرية -التي وصلت إلى السلطة بالانقلابات- عن عجز شديد في مواجهة هذه التحديات. ففي الوقت الذي أخذت فيه حدة العنف المتطرف في النيجر تتراجع شيئاً فشيئاً خلال عهد بازوم المنتُخب ديمقراطياً، فإن هجمات المتشددين في مالي المجاورة، التي يتزعمها العقيد أسيمي غويتا، زادت بنسبة 25% عما كانت عليه العام الماضي.

النيجر
أعضاء من المجلس العسكري في النيجر – رويترز

علاوة على ذلك، فإن كل مكان ينتشر فيه مرتزقة فاغنر المرتبطون بالكرملين الروسي، يدفع المدنيون فيه الثمن، بحسب ما تقوله الروايات الغربية بطبيعة الحال. إذ لا سبيل أمام الأنظمة العسكرية إلا الاعتماد على القوة، وليس إجماع الناس، لإدارة التفاعل المعقد والمضطرب بين مختلف المجتمعات والأعراق والطوائف في البلدان التي تحكمها. ورغم التذرع بالرغبة في إعادة الاستقرار فإن المآل هو مزيد من الاضطراب في أحوال البلاد والعباد.

والواقع أن أزمات منطقة الساحل أوسع تأثيراً بكثير من الانحصار فيها، فهذه الأزمات تؤثر في بلدان الجنوب والشمال مثل: ليبيا والجزائر ومصر. وقد ينشأ العنف المتطرف في هذه المنطقة، وتمتد آثاره إلى أوروبا. وهناك مخاوف أيضاً من حدوث تدفقات هائلة من اللاجئين، أكبر بكثير مما شهدته القارة حتى الآن. وهذه الأمور كلها قد تكون لها عواقب كارثية على مناطق شاسعة من شرق إفريقيا ووسطها، وقد تؤدي إلى انتكاس التنمية في القارة بأكملها إلى ما كانت عليه قبل عقود مضت، أو قطع الطريق عليها تماماً.

تداعيات خطيرة تهدد الجميع وليس إفريقيا فقط

أما فيما يتعلق بالتأثيرات الجيوسياسية، فإن غالب الظن أن انقلاب النيجر سيقدم عضواً جديداً إلى التحالف النامي من دول الجنوب العالمي، التي ما انفكت تميل إلى جانب روسيا في وجه الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. وقد أخذت خريطة التحالفات في إفريقيا تقتفي آثار خطوط الصدع التي اكتست بها ملامح الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي.

استغلت موسكو اضطرابات المنطقة بانتهازية شديدة وبراعة واضحة. وعلى الرغم من أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أدان انقلاب النيجر في قمة في سان بطرسبرغ للزعماء الأفارقة، الشهر الماضي، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشاد به قائلاً إنه مرتبط بمقاومة الاستغلال “الاستعماري الجديد”.

ومع ذلك، قد يلمح المراقب سبباً للتفاؤل بمستقبل القارة رغم الخيبات المحيطة بها. ففي نيجيريا على سبيل المثال، جعل استشراء الفساد واضطراب الحكم وتعثر الاقتصاد أيَّ استبشار بمستقبل هذه البلاد مدعاةً لاتهام أصحابه بأنهم مفرطون في التفاؤل، لكن نتائج الانتخابات التي جرت قبل ستة أشهر كشفت أن الأمور قد تتغير في نيجيريا، فعلى الرغم من هزيمة بيتر أوبي، مرشح المعارضة، أمام بولا تينوبو، “عراب السياسة” المخضرم ومرشح الحزب الحاكم، فإن هذه الانتخابات جاءت مختلفة تماماً عن جميع الفعاليات الانتخابية التي أجريت في البلاد منذ انتهاء الحكم العسكري في عام 1999.

اعتمدت الأحزاب القائمة على شبكات المحسوبية، ودعوات التضامن العرقي أو الديني، وآلتها الحزبية الضخمة، لحشد التأييد لمرشحيها. أما أوبي وحزب العمال الذي يتزعمه، فقد تجاوزا أسباب الانقسام في نيجيريا، وتعهَّدا لناخبيهم بالحوكمة الفعالة وتعزيز الابتكار، والبعد عن سياسات المحسوبية والاسترضاء.

معظم التأييد لأوبي جاء من الشباب وناخبي المناطق الحضرية. وصحيح أن كثيراً من ناخبيه أثرياء ومتعلمون، ولكن ليس كلهم كذلك.

وقد أظهرت نتائج التصويت من مراكز الاقتراع في العاصمة أبوجا، أن أوبي قد حصل على أكثر من 6 ملايين صوت (نحو 25 % من مجموع الأصوات) وفاز في العاصمة، وكذلك في لاغوس، التي ظلت إقطاعية موالية لمنافسه بولا تينوبو طيلة سنوات طويلة. ولذلك يرى المحللون أن أوبي قادر على حسم الفوز في انتخابات 2027 الرئاسية.

ماكرون فرنسا النيجر
هل يشهد ماكرون نهاية نفوذ فرنسا في غرب إفريقيا؟/ رويترز

رغم تراجع الديمقراطية في جميع أنحاء القارة، فإن انتخابات نيجيريا سوف تشجع الناس في دول أخرى على المضي قدماً في هذا السبيل. والحقيقة أن الأنظمة القمعية والأحزاب المتشبثة بالسلطة منذ 40 عاماً أو أكثر، ما انفكت تواجه تحديات جمة من السياسيين الأصغر سناً، الذين يعرفون كيفية التحدث إلى جيل جديد من الناخبين، واستغلال تبرُّمهم الهائل في دفع البلاد إلى التغيير.

وعلى الرغم مما قد يحمله الأمر من تناقض في أول وهلة، فقد ذكر تقرير نشرته الأمم المتحدة في يوليو/تموز، أن الدعم الشعبي للانقلابات العسكرية الأخيرة “كان أحد الأعراض لموجة جديدة من توسع الطموحات الديمقراطية عبر القارة”، فقد أشار الاستطلاع الذي شمل 8 آلاف شخص- منهم 5 آلاف شهدوا تغييرات غير دستورية للحكم في غرب إفريقيا أو منطقة الساحل- إلى أن التبرم الواسع من السياسات القائمة كان أحد أبرز الأسباب في تزايُد الانقلابات في السنوات الأخيرة. ومع أن بعض المشاركين قالوا بأن الجيش يجب أن يتولى زمام الأمور إذا كانت الحكومة المدنية قليلة الكفاءة، فإن الغالبية العظمى ممن شملهم الاستطلاع آثروا أن تكون الحكومة ديمقراطية.

الخلاصة أن الناس باتت تقبل بالانقلابات لأنها ليس لديها خيار آخر. أما إذا قدم السياسيون بديلاً ديمقراطياً فسينقاد أهل البلاد إلى المنطق، وسيُقبلون على السعي إلى “الانتخابات الحرة والنزيهة، والمطالبة بالمساواة بين الجنسين، وحماية الحقوق المدنية”.

وعلى الرغم من المخاوف التي يثيرها انقلاب النيجر واضطراب الأوضاع في منطقة الساحل، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن المنطقة في سبيلها إلى غياهب عصر آخر من الديكتاتورية، وسيطرة العسكر على القارة، ونهب الموارد، والاتفاق مع الرعاة الفاسدين في المنطقة والعالم لتعزيز قبضتهم على السلطة.

الحقيقة أن القوة الدافعة للتغيير في القارة لا تزال في أيدي الشباب والآمال المعقودة عليهم. وحتى قدامى العسكريين المتمسكين بالسلطة باتوا يدركون بحكم الغريزة السياسية، لا المبادئ، أن ميزان الثقل آخذ في الميل إلى الشباب وتطلعاتهم.

ترجمه/عربي بوست

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب