رئيس بمواصفات الحراك الفرنسي لن يحظى بشرعية شعبية لبنانية
بقلم حسن خليل غريب
في 17/ 8/ 2023
مرة أخرى يناطح الرأس الفرنسي صخوراً صوانية لبنانية، يتكسَّر عليها الرأس الفرنسي ولا تتكسَّر. كانت المرة الأولى التي حضر فيها إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي إلى لبنان مستعجلاً ومستقوياً بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب من العام 2020. شاهراً سيفه، رافعاً قبضته، مهدداً متوعداً بمعاقبة مرتكب الجريمة، وأمهل الطبقة السياسية الحاكمة أسبوعين من الزمن للكشف عن الفاعل ولكن كانت عينه على انفجار المرفأ، وقلبه على الحصول على التزام لإعادة إعماره.
نام اللبنانيون على فراش فرنسي من حرير. وتبيَّن لاحقاً أن تهديد ماكرون ووعيده من غير بارود. ونامت تهديداته في أدراج أحزاب السلطة الحاكمة، وراحت تعزِّي نفسها بمؤانسة كل ملفات الجرائم التي كدَّستها أحزاب السلطة في جوارير القضاة التابعين لتلك الأحزب، الضاربين بسيف السلطان الذي يأكلون من ماله. وفي نهاية الأمر تناسى ماكرون أن مبادرته، لم تكن أكثر جدوى من مقارعة طواحين الهواء فتراوحت مكانها، وراح ينتظر من ينقذها، وظلَّ منتظراً إلى أن وجدها في ائتلاف الدول الخمس التي كلَّفت نفسها لمعالجة ملء شغور موقع رئاسة الجمهورية في لبنان.
وبعد أن شَهَر أعضاء الائتلاف سيوفهم، وكلفوا المبعوث الفرنسي لتسويق قراراتهم إلى أحزاب السلطة في لبنان، كأنها جاءت لإعادة تجربة مصارعة طواحين الهواء مع تلك الأحزاب. وهنا نتساءل: هل يمكن للذين كانوا سبباً في استفحال الداء أن يكونوا هم الدواء؟
كل منهم يملك ترف الوقت، ولم يرف له جفن، ولم يعطف له قلب، ولم يتحرك له ضمير. ولم يشعر أحد منهم بآلام اللبنانيين الذين يعيشون في القلب من جهنم، ويقتاتون من طحين حطبها قوتاً لهم بدلاً من طحين القمح النادر الوجود، والذي إذا وجد فقد أصبح ثمنه فوق طاقة الجياع.
وبعد انتظار عشرة شهور، واللبنانيون تتآكلهم نيران جهنم الحمراء، كلَّف الرئيس ماكرون، الوزير لودريان كونه خبيراً بالوضع اللبناني لإتمام المهمة التي بدأها رئيسه قبل ثلاث سنوات مضت، والتي تم تحنيطها في أدراج الأليزيه مقر الرئيس الفرنسي .
مما حمله لودريان، مبعوث الرئيس الفرنسي، بعد محضه ثقة (الخماسية)، أخذت المأساة – الملهاة تُظهر كم أصبحت مبادرته هزيلة. ويظهر هزالها من خلال مضمون رسالته التي بعث بنسخ منها إلى 128 نائباً. وأهم ما في هزالها انها قاصرة عن علاج آلام اللبنانيين، للأسباب التالية:
لأن فرنسا صاحبة مصلحة وتخاف من أن تفقد عقوداً وقعتها معهم فلم توجه رسالة المبعوث الفرنسي تقريعاً لمجرمي السلطة والجهر في وجوههم أنهم يغتالون حقوق الإنسان في لبنان، الحقوق التي على أساسها تشكلت هيئة الأمم المتحدة، والتي على أساسها نجحت الثورة الفرنسية وأصبحت مثالاً للثورة العالمية.
ولم تتهمهم بأنهم يغتالون حقوق الدول بسيادتها على أرضها وشعبها، ولم يرشقوا أجراء الخارج من اللبنانيين بوردة، ويهددونهم بإحالتهم إلى المحاكم الدولية بتهم الخيانة العظمى التي يرتكبونها بحق سيادة لبنان. ولم يرشقوا الدول التي تتفاخر نهاراً جهاراً باستيلائها على لبنان بوردة وتحاكمهم على جرائمهم في ركل التشريعات الدولية والإنسانية برجلها.
لن نقف كثيراً أمام الأخطاء الفادحة التي وقعت بها ورقة (لودريان)، لأن حقوق الإنسان وتشريعاتها الإنسانية لا تعني في المنهج الرأسمالي أكثر من الحصول على حفنة من الاتفاقيات الاقتصادية، والحصول على كثرة من الأرباح التي تجنيها تلك الاتفاقيات لتصب في جيوب الشركات الرأسمالية الكبرى. فعينه الآن على الشعب اللبناني، وقلبه يرنو للحصول على تحالف مع الميليشيا الأقوى والأقدر على حماية مصالحه في لبنان.
إن سؤال لودريان لأعضاء مجلس النواب اللبناني عن مواصفات الرئيس، لهو تضييع المزيد من الوقت، في الوقت الذي ينتظر فيه الجياع في لبنان رغيفاً لا يهمهم معرفة مواصفاته بأكثر من أن يصل إلى أمعاء أولادهم. وهو شبيه بسؤال ماري أنطوانيت وجوابها: (إذا لم يجد الشعب خبزاً يأكله، فليأكل البسكوت). وكان عليك يا مبعوث فرنسا، أن تكون (مبعوثاً للثورة الفرنسية) التي غيرت مجرى التاريخ بمبادئها الخالدة، أن تسأل: كيف يمكنكم ضمان حق الشعب اللبناني بالحصول على قوت يومه، وسيادته على أرضه؟ وهو السؤال الأكثر أهمية والأكثر احتراماً للتشريعات والمبادئ الإنسانية التي نادت بها الثورة الفرنسية.
الثورة الفرنسية يا سيادة المبعوث الفرنسي، والثورة التي أطلقها الشعب اللبناني في 17 تشرين، اعتبرتا انتخاب رئيس لمؤسسة دستورية تحصيل حاصل، ولكنهما رفعتا شعار إسقاط كل مؤسسة دستورية لا تنادي بحقوق الشعب، ولا تعمل على إيصالها إليه. ولكنك أنت تساوم أحزاب السلطة في لبنان، التي كانت السبب في وصول لبنان إلى جهنم. وبذلك كأنك لم تفعل شيئاً.
لكل هذا نرجو منك أن تحط رحالك في فرنسا، ولا تعود إلينا، وإذا كنت تريد العودة في أواخر شهر آب، أو حتى في آخر السنة، فسيان عند الشعب اللبناني، لأنك أولاً وأخيراً لن تكون موفداً للثورة الفرنسية، بل ستبقى موفداً للشركات الرأسمالية، التي لاهمَّ لها سوى الأرباح المالية حتى ولو كانت على حساب مذلَّة اللبنانيين وهوانهم وبقائهم تحت بسطار الميليشيات الميافياوية لأحزاب السلطة.
وكما أن أحزاب السلطة في لبنان، وكذلك السلطة السياسية الحاكمة في فرنسا في هذه المرحلة، انتزعت من المبادئ الإنسانية والحقوقية روحها ومسختها إلى مصالح للرأسماليين في فرنسا، ولأمراء السلطة المافياوية في لبنان. فقد أصبح الشعب اللبناني هامشاً لا أهمية له. وليس من حق له سوى أن لا يموت من الجوع، ليبقى مطية مأجورة برغيف من الخبز، على قاعدة (من يأكل من رغيف السلطان، يضرب بسيفه).
إن الشعب اللبناني يرفض بالثلاث وساطاتكم، ويرفض مساومات أحزاب السلطة، فقد شكلتما شركة للبيع والشراء باسمه. تعطون يا سعادة موفد ماكرون المؤسسات الدستورية لأحزاب السلطة في لبنان، وتقبضون في المقابل تواقيعهم على ما يضمن مصالحكم على أرض لبنان، يابسة وجواً وبحراً.
نحن نعرف، وندرك بوعينا الكامل، أن مسرحية إخراج انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، التي تدور بين موفد الرئيس ماكرون وبين أحزاب السلطة في لبنان، على أساس أن تكون مواصفاته تناسب مصالح الفريقين، وهي:
-أحزاب السلطة تريد رئيساً يضمن لها إبقاء ملفات جرائمها نائمة في الأدراج، هذا غير أنها تعمل على استصدار عفو عام عنها كلها. وغير أن تعمل على تشريع ميليشياتها لكي تستمر هيمنتها على شتى مفاصل الدولة ومرافقها وإداراتها، المدنية منها والعسكرية والأمنية والقضائية. وباختصار أن يبقى لبنان مزرعة سائبة تمتلئ بقطعان الذئاب، ومغاور اللصوص والقتلة…
-وأن يبقى لبنان ساحة للتجاذب بين الشركات الرأسمالية في الخارج وامتداداتها في الداخل. ومن مصلحة الدول الخارجية، التي استطاعت أن تضمن لها (مرقد ميليشيا) على أرض لبنان، أن تبيع وتشتري بأبنائه لقاء رغيف من الخبز يقدمه أمراء الأحزاب الحاكمة لأتباعهم، يكون مردوده كبيراً جداً على موارد الأحزاب الاقتصادية من عائدات الجرائم، مما يؤدي إلى زيادة نفوذها في لبنان، وزيادة نفوذ من يدعمها على المستويين الدولي والإقليمي.
وإن اللبنانيين الأحرار يرفضون أية قيود على دولتهم. ويطالبون بدولة بمواصفات سيادية كاملة. يطلبون من المجتمع الدولي أن يقف مع الشعب اللبناني وحقوقه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لا أن يخضعوه لقواعد المساومات التجارية، في الداخل والخارج، بحيث لا يأكل الفاجر مال التاجر بفائض من مال أو سلاح، ويفرض على اللبنانيين رئيساً يشرِّع للميليشيات جرائمهم ويستر عوراتهم. رئيس يعرف أنه لن تستطيع ميليشيات منفلتة من قيود القوانين والتشريعات الإنسانية الحديثة أن تجمِّد التاريخ عند مصالحها وعقائدها التي عفا عليها الزمن، وفقدت قيمتها في عصر العقائد السياسية الحديثة.
وعلى أعضاء (الخماسية) الذين دخلوا إلى القضية اللبنانية من بوابة المساومات السياسية والاقتصادية والتجارية أن يعوا ويدركوا أن ما عقدوه من اتفاقيات موقعة بأقلام ميليشياوية ستذروه رياح التغيير القادمة. وأن يدركوا أيضاً أن ما قبل ثورة تشرين في لبنان لن تبقى هي ذاتها في مرحلة ما بعدها، وأن عصر حكم الميليشيات إلى زوال، وأن حكم الشعب سيبقى الحقيقة الخالدة.