مقالات

التربية في ظل العولمة.د.سالم سرية :أكاديمي وكاتب (فلسطين)

د.سالم سرية :أكاديمي وكاتب (فلسطين)

التربية في ظل العولمة

د. سالم سرية :أكاديمي وكاتب (فلسطين)

قبل ان يظهر التلفاز للوجود كان الاب والام (العائلة) هما  الموجه التربوي الوحيد للأبناء, ثم اصبح التلفاز يسمى الاب الثاني  الذي له توجيهاته  من خلال برامجه ومسلسلاته الفنية والثقافية المتنوعة وبذلك  اصبحت ذهنية الابناء تصاغ من خلال  البيت والتلفاز والمجتمع. ومع ظهور الملتميديا – انترنت  هواتف ذكية, اجهزة الكترونية … الخ, تضاءل دور الاب في التوجيه واصبح دوره ثانويا واصبح مرغما على ان يطور نفسه من الناحية التقنية  ويواكب العصر حتى يستطيع ان يستطلع معالم الخريطة النفسية والفكرية لأبنائه. واذا تباطأ في ذلك  وهذا ما يحدث فعلا  عندئذ يصبح الابن في واد والابناء في واد اخر و تتقولب اذهانهم بناء على  هذا السيل الجارف من المعلومات والافكار المرئية والمسموعة, ويصبح الاب متخلفا في نظر ابناءه لان الفجوة قد اصبحت تتسع يوما بعد يوم  لدرجة ان الاب يصبح عاجزا عن تفسير سلوكيات ابناءه  وتصرفاتهم .فتسريحة الشعر اصبحت مختلفة  وانواع العطور لها اول وليس لها اخر  والملابس  الغريبه المرتبطة بالموضة حدث عنها ولا حرج .اي بكلمه مختصرة اصبح الابناء مدمنين على الاستهلاك لا بل يجدون لذه ومتعه وفنونا بكيفية الاستهلاك والتبذير  بشكل يفوق امكانيات الاهل المادية. ان ثقافة الادمان على الاستهلاك اصبحت سمه عصر العولمة  التي تغذي وتعزز نزعه الشراء وحب الاقتناء. ان الحضارة الإلكترونية قد اصبحت تفرخ كل يوم هواتف خلويه جديده واجهزه الكترونيه حديثه  باهظه الثمن يرغم الاهل على شرائها .وقد شاهدت في قاعة الدراسية في الجامعة كيف ان العديد من الطلبة يحملون معهم هاتفين  او ثلاثة هواتف ؟؟؟ نعم ثلاثة هواتف … لماذا لست ادري. فهناك مباراة ومنافسه لا تتوقف بين الطلبة  حول نوع الهواتف التي  يحملوها معهم ونوع الاغاني التي يسمعوها اضافة الى احدث الافلام التي يشاهدونها واخر اخبار المباريات بين مدريد وبرشلونه. انني نادرا ما سمعت حورا موضوعيا  بين الطلبة حول قضية علمية او  اجتماعيه تستحق النقاش  بينما الصراخ والمزاح والمناكفة  حول ابطال كرة القدم ونتائج المباريات  انما تخترق طبلة اذني في كل اروقة الجامعة وبعض الاحيان افاجأ  بقسم منهم يسألوني قبل بداية المحاضرة عن الفريق الذي اشجعه.

كل ذلك من نتائج العولمة الثقافية والفكرية  التي تسللت الى بيوتنا  وخلايا دماغ ابنائنا بإرادتنا او رغما عنا .لذلك اصبح من الطبيعي جدا ان  يلهث الاب  مستفسرا من ابناءه عن نوع الجهاز الالكتروني الذي يود شراءه – هاتف, تلفاز, غسالة … الخ. باعتبار ان الابناء يواكبون التكنولوجيا يوما بيوم.

والسؤال الذي يطرح نفسه في كل ما ورد اعلاه هو كيف يمكن ان يتم  تقويم سلوك الابناء على الصعيد العلمي  و الاجتماعي والاخلاقي  من قبل العائلة في ظل هذه المعطيات. انه فعلا سؤال صعب والاجابة عليه اكثر صعوبة.

ان معظم الآباء يجهلون الحقيقة العلمية الثابتة في علم نفس الطفولة والمراهقة, وهي ان السنوات الاربع او الخمس الاولى في حياة الطفل  انما يتردد  صداها في السنوات القادمة في حياة الانسان  لأنها تعتبر السنوات الحرجة. فكما للحيوان سنوات  او ايام حرجة  فللإنسان كذلك.   ان التجارب النفسية التي اجريت على القطط والكلاب وغيرها, اظهرت ان القطة اذا عزلت عن امها لأيام محددة  ضمن السن الحرج وأعيدت اليها, تصبح في المستقبل خائفة من الفأر, وتهرب منه بدلا من ان تطارده.

ان كل واحد منا قد ينسى امورا كثيره تمر في حياته قد مضى عليها سنه او سنتين ولكن ذكريات الطفولة بحلوها ومرها لا يمكن نسيانها رغم مرور عشرات السنين.

ان تربية الطفل خلال السنوات الحرجة إما ان تنحو باتجاه الدلال المفرط نتيجة للحب المفرط  أو القساوة المفرطة اعتقادا ان ذلك يمكن ان يقوم الاعوجاج التربوي منذ الصغر.. وكل اسلوب منهما يصنع انسانا اخر في المستقبل, حين يواجه مصاعب الحياة الاقتصادية أو العلمية او الاجتماعية  , فالدلال المفرط يخلق انسانا اتكاليا, استحواذيا, وليس خلاقا. واذا انقطعت المنابع  المادية التوفير احتياجاته في مرحلة المراهقة كما كانت توفر له في مرحلة الطفولة  فأنه لن يتردد بالسلوك الغير شرعي للحصول على احتياجاته مهما تكن النتائج.

كما ان القساوة المفرطة في التربية من قبل الاهل او احد افراد عائلته  انما تخلق انسانا حاقدا على المجتمع  وعلى نفسه . وعندما يبلغ  سن الرشد يسقط القساوة على الاخرين, بصيغة او بأخرى , ويكون الاجرام احد مسالكه لان المجرم يشعر بينه وبين نفسه انه مظلوم ومكروه من الاخرين .وقد لوحظ ان البطش والسادية في ممارسات العديد من الملوك والرؤساء في التاريخ الانساني انما كانت ترتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ طفولتهم. كما ان العنف الاسري والعنف الذي تتعرض له المرأة في مجتمعنا هذه الايام  انما يقع في نفس السياق كذلك دون ان ننفي  طبعا ارتباط ذلك بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية .

اذن تبرز هنا الصعوبة والإشكالية التربوية الكبرى امام الاهل, وهي كيفية الموازنة بين الحنان والحزم, وبين التشجيع والتأنيب. فالتشجيع المتواصل يعزز الثقة بالنفس, والتأنيب المتواصل يحطم الفرد ويحبطه. يضاف الى كل ذلك مسألة اخرى وهي ان الاب  الذي جعل ابنه  يعتاد منذ الصغر على مشاهدة افلام الكرتون, والالعاب الالكترونية بكثرة انما بذلك جعله ينمو عاشقا للملتميديا  وكارها  للكتاب وبعيدا عن القراءة. ان عدم الرغبة في تصفح الكتاب تظهر للعيان   حين يصبح الابن في المرحلة الثانوية و الجامعية. فالطفل الذي عشق الملتميديا منذ الصغر  انما يستمر بعشقها عندما يكبر وبالتالي لا يجد رغبه في تناول الكتاب وقراءته الا مرغما.  .بينما الطفل الذي  ترعرع في عائله تحب المطالعة وتزخر غرفها بالكتب  انما ينشأ عاشقا للكتاب والمطالعة لذلك تراه يعتمد على نفسه في الدراسة ويحصل معدلا اعلى في الثانوية والجامعة.

ان السلوك العدواني للطالب الجامعي او الثانوي تجاه زملاءه ومدرسيه, وبالأخص الطالب الفاشل  انما ذلك محصله طبيعية للنمط التربوي الذي تلقاه من مصادر التوجيه وهي البيت والبيئة الاجتماعية ومعطيات العولمة الهدامة.

فكم من طالب هدد مدرسيه بالقتل, اذا لم ينجح. لقد شاهدت بأم عيني كيف تم اغتيال العديد من الاساتذة على يد طلبتهم بعد احتلال بغداد لأسباب دراسية وليس لأسباب سياسيه ابدا لان قسم كبير ممن اعرفهم لم يكن لهم علاقه بالسياسة ابدا لا من قريب ولا من بعيد بل كان ذلك انتقاما أسودا  رمى بظلاله على تلك النفوس المريضة الفاشلة . علما ان هذه الظاهرة منتشرة في العديد من دول العالم, حيث يدفع الاستاذ الجامعي حياته وسمعته ثمنا  للنزاهة العلمية وثمنا للرسالة التاريخية التي انيطت به لبناء قادة المستقبل.

ان ظاهرة السلوك العدواني للطلبة و التي تطفو على السطح هذه الايام انما هي مرتبطة بشكل وثيق  بالفشل الدراسي. وأن ظاهرة الانحراف السلوكي نتيجة الصعوبات العلمية التي يواجهها الطالب,  كذلك لا يمكن عزلها عن بيئة المجتمع اضافة لدور العائلة السابق ذكره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب