
عشرون عاما على بدء الحرب الاهلية في دارفور.. وقفة مراجعة
بقلم: عبدالله رزق ابو سيمازه
بعد عشرين عاما من اندلاع الحرب الأهلية في دارفور، لازالت الولاية ابعد ما تكون من أفق التحرير، الذي حملت لواءه، بعد مؤتمر حسكنيتة، العديد من الحركات المسلحة، التي فاقت الثمانين، في احدث التقديرات، سواء تعلق الأمر بتحرير دارفور، ابتداء، او تحرير السودان، بأسره، لاحقا، كهدف استراتيجي للحرب، ورغم النقلة الظاهرية التي احدثها هذا التغيير، في عناوين الحركة وفي ادبياتها، من “المناطقية “إلى “القومية”، بعد اتفاق ابشي، تحت تأثير الحركة الشعبية لتحرير السودان، فإن المنطلق الجهوي والتركيب الاثني لحركة التحرير، وفسيفساء تشظياتها اللاحقة، ظلت كما هي. وقد تبدى ذلك بأوضح صورة، في التكوين الاجتماعي لغالب الحركات التي شاركت في مؤتمر جوبا، بانتمائها إلى مكون قبلي واحد.
فتحرير دارفور من “الجلابة”، والذي ينطوي عليه العنوان الرئيس للحركة، وأهم مستهدفاتها، (تشير مفردة “الجنجويد”، في معناها العام، الى الأغيار، خلاف أهل الاقليم، خاصة الشماليين، وتماثل لحد بعيد مفردة “مندوكورو”، عند الجنوبيين)، لم ينشا من محصلة صراع “الرعاة العرب” والمزارعين الأفارقة”، وتنافسهم التناحري على الأرض وموارد المياه، إثر موجة الجفاف والتصحر، التي ضربت البلاد منذ النصف الثاني من سبعينات، القرن الماضي. فالأرجح أن جذوره تمتد إلى أبعد من ذلك، إلى الستينات، مع ظهور منظمة سوني، وتصاعد دعوة (دارفور للدارفوريين). وشهدت سنوات حكم النميري، التوجه نحو الحكم الاقليمي اللامركزي، استجابة لعديد من المطالبات، من ضمنها مطالبات الدارفوريين، غير انه مع فشل الحكم اللامركزي، في ظل شمولية نظامي نميري والبشير، والياس من انتصار الثورة، بدات تطغو على السطح، منذ حين من الوقت، الدعوة للانفصال. انفصال دار مساليت. وانفصال دارفور، ايضا، باسم التحرير. فانبهام الوعي بمن هو العدو ومن هو الصديق- المسألة الأولى في الثورة عند ماو تسي تونغ – حول مشروع الثورة على النظام الشمولي القائم، ثورة التحرير، منذ البداية، إلى مشروع حرب أهلية، تواجه فيه بعض مكونات دارفور السكانية، مكونات أخرى للولاية، على خط التقسيم الاثني، مستهديا بأيديولوجية “الكتاب الأسود”. ومع وقوف غالبية الكيانات الدارفورية على الحياد، فقد اقتصر القتال، في نهاية المطاف، على مليشيات التورابورا ومليشيات الجنجويد. وانتهى مشروع الثورة إلى نفق مسدود، وإلى مأزق للثائرين.
من الممكن رد فشل مشروع الثورة، التي لم تستطع تحرير مدينة واحدة، طوال ما يقارب عقدين من الزمان، لعدم سلامة الرؤية السياسية، او غياب البرنامج الوطني الواضح، او غياب القيادة الكارزمية، وربما عدم صحة التكتيك وسلامته، او ملاءمته لواقع السودان، ايضا.
(في ستينات القرن الماضي بشر مناضلون، تحت تاثير افكار جيفارا وكاسترو وماو تسي تونغ، بالحرب الثورية كبديل للنضال السلمي الديموقراطي.)
حسب تقرير لخبراء الأمم المتحدة نشر عام 2017،فإن حرب دارفور، (ثورتها المسلحة، في رواية أخرى ) قد انتهت، عامئذ، بانسحاب الفصائل المسلحة إلى ليبيا وإلى جنوب السودان، ولم يتبق منها سوى بؤرة في جبل مرة، حيث يسيطر فصيل حركة وجيش تحرير السودان، بزعامة عبد الواحد محمد نور. وخلفت الحرب ما بين 2.8 إلى 3 مليون نازح ولاجئ، بجانب 210 الف قتيل، وفق تقديرات الأمم المتحدة.
بدا مشروع الثورة، كما بشر بها مقاتلوها، بفصيلين، حركة العدل والمساواة بقيادة د.خليل ابراهيم، وهي وليدة الخلافات والانشقاقات في قمة نظام الاسلاميين الحاكم، وحركة وجيش تحرير السودان، التي انقسمت إثر مؤتمرها الأول في حسكنيتة، إلى حركتين، واحدة بقيادة مني اركو مناوي والثانية بقيادة عبد الواحد محمد نور. ومن ثم توالت التي وسمت تجربة الثورة، وكانت من أهم أسباب اجهاضها، بجانب الانقسامات، فقد وسمت المفاوضات مسيرة ثورة التحرير. فبعد مفاوضات ابشي عام 2003، توالت جولات التفاوض في السنوات اللاحقة والتي استضافتها العديد من العواصم العربية والافريقية، كان آخرها مؤتمر جوبا. ومنذ ابوجا، ظلت النخب الدارفورية، وهي تنتقل من جولة مفاوضات إلى أخرى، تقايض الثورة بالامتيازات والوظائف الدستورية، وقد وفرت الاتفاقات، للنظام، بالمقابل، آليات وأدوات اضافية للتمكين. ويمكن النظر لتلك الحلقات المتصلة من سلسة التفاوض،كتعديل مبكر في الاستراتيجية، دفع لاختزال خيار الكفاح المسلح، إلى مجرد آلية لتحسين الموقف التفاوضي للحركة المسلحة. إذ أن حركات الكفاح المسلح، التي لم تستطع الجمع بين العمل السياسي السلمي والعمل المسلح، قد فوتت على نفسها، فرصة التحالف مع الحركة الوطنية والتفاعل معها، ومع نضالاتها، مثلما فوتت فرصة تحديث تكتيكاتها مع تراجع خيار الكفاح المسلح، ومن ثم انعزلت وعزلت نفسها عن النضال الشعبي السلمي، والذي بلغ ذروته في ثورة ديسمبر المجيدة. وقد حالت هذه العزلة بينها والتشبع بافكار الديموقراطية والقومية، والتقدم. فبعد عشرين عاما من انزال علم السودان من سارية محافظة قولو، في أعلى جبل مرة، ورفع علم حركة تحرير دارفور محله، لم تزل الولاية، تعاني من التهميش الاقتصادي والسياسي، ومن الصراعات القبلية التناحرية، ومن النهب المسلح، كأبرز المشكلات التي تواجهها، وقد اضافت لها الحرب المأساة الإنسانية المتمثلة في ملايين النازحين، داخليا وخارجيا. وفي ظل اضطراب الأوضاع في البلدان المجاورة،(ليبيا، تشاد، افريقيا الوسطى)، واحتدام التنافس والتكالب الدولي على المنطقة، وعلى القارة، اصبحت دارفور، بهشاشة اوضاعها كافة، ثغرة في الأمن القومي، فيما اصبح خلاصها مرتهنا بصعود قوى اجتماعية جديدة، مؤهلة لصناعة التغيير وفق رؤى ثورية، تضع قضية دارفور في اطارها الصحيح، وطنيا واقليميا ودوليا.