تحقيقات وتقارير

القوة العظمى المختلة: هل يمكن لأمريكا المنقسمة أن تردع الصين وروسيا؟

القوة العظمى المختلة: هل يمكن لأمريكا المنقسمة أن تردع الصين وروسيا؟

روبرت مايكل غيتس

ترجمة وتحرير: نون بوست

تواجه الولايات المتحدة في الوقت الراهن تهديدات خطيرة لأمنها أكثر مما واجهته منذ عقود، وربما أكثر من أي وقت مضى. ولم يحدث من قبل قط أن واجهت أربعة أعداء متحالفين في نفس الوقت؛ وهم روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وإيران، والذين قد تصل ترسانتهم النووية الجماعية في غضون بضع سنوات إلى ضعف حجم ترسانتها النووية تقريبا.

ومنذ الحرب الكورية، لم تضطر الولايات المتحدة إلى مواجهة منافسين عسكريين أقوياء في كل من أوروبا وآسيا. ولا يستطيع أحد أن يتذكر الوقت الذي كان فيه خصم يتمتع بالقدر ذاته من القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية التي تتمتع بها الصين اليوم.

لكن المشكلة هي أنه في اللحظة نفسها التي تتطلب فيها الأحداث استجابة قوية ومتماسكة من الولايات المتحدة، فإن واشنطن لا تستطيع تقديم مثل هذه الاستجابة. فقد فشلت قيادتها السياسية المنقسمة – بين الجمهوريين والديمقراطيين، في البيت الأبيض والكونجرس- في إقناع عدد كافٍ من الأميركيين بأن التطورات الجارية في الصين وروسيا مهمة.

وقد فشل الزعماء السياسيون في شرح كيفية ترابط التهديدات التي تفرضها هذه البلدان، ولقد فشلوا في صياغة إستراتيجية طويلة المدى لضمان سيادة الولايات المتحدة والقيم الديمقراطية على نطاق أوسع.

هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتن، ولكن تبرز قناعتان مشتركتان.

فأولاً، كل منهم مقتنع بأن مصيره الشخصي  مرتبط باستعادة أيام مجد الماضي الإمبراطوري لبلاده. وبالنسبة لشي، يعني ذلك استعادة الدور المهيمن الذي كانت تلعبه الصين الإمبراطورية في السابق في آسيا، في حين تضمر طموحات أكبر فيما يتعلق بالنفوذ العالمي. وبالنسبة لبوتين؛ ذلك يعني السعي إلى مزيج غريب من إحياء الإمبراطورية الروسية واستعادة الاحترام الذي كان يحظى به الاتحاد السوفييتي.

ثانيًا، يُعد كلا الزعيمين مقتنعان بأن الديمقراطيات المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، قد تجاوزت فترة أوجها ودخلت في مرحلة انحدار لا رجعة فيه. وهما يعتقدان أن هذا التراجع الواضح ينعكس في الانعزالية المتزايدة لهذه الديمقراطيات، ناهيك عن الاستقطاب السياسي، والفوضى الداخلية.

وإذا نظرنا إلى قناعات شي وبوتين مجتمعة فإنها تنذر بفترة خطيرة مقبلة بالنسبة للولايات المتحدة. ولا تكمن المشكلة في القوة العسكرية والعدوانية التي تتمتع بها الصين وروسيا فحسب، بل في أن كلا الزعيمين ارتكبا بالفعل حسابات خاطئة كبيرة على الصعيد المحلي والخارجي، ويبدو أنه من المرجح أن يرتكبا أخطاء أكبر في المستقبل.

ومن المحتمل أن تؤدي قراراتهم إلى عواقب كارثية عليهم وعلى الولايات المتحدة. لذا، يتعين على واشنطن أن تغير حسابات شي وبوتين وأن تقلل من فرص وقوع الكارثة، وهو الجهد الذي يتطلب رؤية إستراتيجية وعملًا جريئًا. لقد انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة بفضل إستراتيجية متسقة اتبعها كلا الحزبين السياسيين على امتداد تسع فترات رئاسية متتالية، وهي تحتاج اليوم إلى اتباع نهج مماثل من الحزبين. وهنا تكمن المشكلة.

تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف خطير فريد من نوعه: فهي تواجه خصومًا عدوانيين لديهم ميل إلى سوء التقدير، لكنهم غير قادرين على الاتحاد وحشد قواهم  اللازمة لثنيهم عن ذلك. ويعتمد النجاح في ردع قادة مثل شي وبوتين على مدى التمسك بهذه الالتزامات وثبات الاستجابة. وبدلًا من ذلك، أدى الخلل الوظيفي إلى جعل القوة الأمريكية  متقلبة وغير موثوقة، مما دعا عمليا المستبدين المعرضين للمخاطر إلى وضع رهانات خطيرة  لها العديد من الآثار الكارثية المحتملة.

طموحات شي

إن دعوة شي إلى “التجديد العظيم للأمة الصينية” هو الطريق المختصر لكي تصبح الصين القوة العالمية المهيمنة بحلول عام 2049، وهو الذكرى المئوية لانتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية الصينية، ويتضمن هذا الهدف إعادة تايوان تحت سيطرة بكين، وعلى حد تعبيره: “ينبغي أن يتحقق التوحيد الكامل للوطن الأم، وسوف يتحقق”.

ولتحقيق هذه الغاية؛ أصدر شي تعليماته إلى المؤسسة العسكرية الصينية بأن تكون جاهزة بحلول سنة 2027 لغزو تايوان بنجاح، كما تعهد بتحديث المؤسسة العسكرية الصينية بحلول سنة 2035 وتحويلها إلى قوة ” على المستوى العالمي”. ويبدو أن شي يعتقد أنه لن يتمكن من تأمين لنفسه مكانة مماثلة لمكانة ماو تسي تونج في معبد أساطير الحزب الشيوعي الصيني إلا من خلال الاستيلاء على تايوان.

تنطوي تطلعات شي جين بينغ وإحساسه بقدره الشخصي على خطر كبير للحرب. وكما أخطأ بوتين في حساباته بشكل كارثي في أوكرانيا، فهناك خطر كبير من أن يتخذ شي  الخطوة ذاتها في تايوان. لقد أخطأ بالفعل في حساباته بشكل كبير خلال ثلاث مناسبات على الأقل.

أولاً، من خلال النأي بنفيه عن مبدأ الزعيم الصيني دنغ شياو بينج التي تتمثل في “أخفي قوتك، وانتظر الفرصة”، فقد أثار شي على وجه التحديد الاستجابة التي كان دنغ يخشاها، فقد حشدت الولايات المتحدة قوتها الاقتصادية بهدف إبطاء نمو الصين، وبدأت في تعزيز وتحديث جيشها. وعززت تحالفاتها وشراكاتها العسكرية في آسيا.

وثاني التقديرات الخاطئة التي اتخذها شي هو تأرجحه نحو اليسار في السياسات الاقتصادية، وهو التحول الأيديولوجي الذي بدأ في سنة 2015 وتم تعزيزه في المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي الصيني في سنة 2022. وقد ألحقت سياساته، من إدخال الحزب في إدارة الشركات إلى الاعتماد بشكل متزايد على الشركات المملوكة للدولة، ضررًا عميقًا بالاقتصاد الصيني

ثالثا، إن سياسة القائمة على “القضاء التام على كوفيد” التي انتهجها شي، كما كتب الخبير الاقتصادي آدم بوسن في هذه الصفحات، “جعلت السلطة التعسفية للحزب الشيوعي الصيني مرئية وملموسة على الأنشطة التجارية للجميع، بما في ذلك الأنشطة التي يمارسها أصغر اللاعبين”. وكانت حالة عدم اليقين الناجمة عن ذلك، والتي تفاقمت بسبب تراجعه المفاجئ عن تلك السياسة، سببًا في خفض الإنفاق الاستهلاكي الصيني وبالتالي إلحاق المزيد من الضرر بالاقتصاد بالكامل.

وإذا كان الحفاظ على قوة الحزب يعد الأولوية الأولى بالنسبة للرئيس شي، فإن الاستيلاء على تايوان هو الأولوية الثانية بالنسبة له. وإذا اعتمدت الصين على تدابير للضغط على تايوان لحملها على الاستسلام بشكل استباقي دون اللجوء إلى خيار الحرب، فمن المرجح أن تفشل هذه الجهود. وبالتالي فإن شي سيُترك أمام خيار المجازفة بالحرب من خلال فرض حصار بحري واسع النطاق أو حتى شن غزو شامل للاستيلاء على الجزيرة. وربما يتصور أنه سيصل إلى هدفه، ولكن سواء فاز أو خسر، فإن التكاليف الاقتصادية والعسكرية المترتبة على شن حرب على تايوان ستكون كارثية بالنسبة للصين، ناهيك على كل الأطراف المعنية الأخرى. وسوف يرتكب شي خطأ فادحا.

لم يكن هناك شيء لا مفر منه في الحرب العالمية الأولى؛ لقد حدث ذلك بسبب غباء وغطرسة زعماء أوروبا.

على الرغم من حسابات شي الخاطئة والصعوبات الداخلية العديدة التي تواجهها بلاده، فإن الصين سوف تستمر في فرض تحدٍ هائل للولايات المتحدة؛ فقد أصبح جيشها أقوى من أي وقت مضى، وتمتلك الصين  في الوقت الراهن سفنًا حربية أكثر من الولايات المتحدة (على الرغم من أنها ذات جودة أقل). فقد قامت بتحديث وإعادة هيكلة قواتها التقليدية وقواتها النووية ــ وضاعفت قواتها النووية الإستراتيجية المنتشرة تقريبًا ــ وقامت بتحديث نظام القيادة والسيطرة لديها، وتعد في الوقت الحالي بصدد تعزيز قدراتها في الفضاء والفضاء الإلكتروني.

وبعيدًا عن تحركاتها العسكرية، اتبعت الصين استراتيجية شاملة تهدف إلى زيادة قوتها ونفوذها على مستوى العالم؛ حيث تعد الصين في الوقت الحالي الشريك التجاري الأول لأكثر من 120 دولة، بما في ذلك جميع دول أمريكا الجنوبية تقريبًا. وقد قامت أكثر من 140 دولة بالتسجيل كمشاركين في مبادرة الحزام والطريق، البرنامج الصيني المترامي الأطراف لتطوير البنية التحتية. وتمتلك الصين  في الوقت الحالي، أو تدير، أو تستثمر في أكثر من 100 ميناء في حوالي 60 دولة.

وتكتمل هذه العلاقات الاقتصادية المتوسعة بشبكة دعائية وإعلامية واسعة النطاق؛ فلا يوجد بلد على وجه الأرض بعيد عن متناول محطة إذاعية أو قناة تلفزيونية أو موقع إخباري صيني واحد على الأقل. ومن خلال هذه المنافذ وغيرها؛ تهاجم بكين الإجراءات والدوافع الأمريكية، وتقوض الثقة في المؤسسات الدولية التي أنشأتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وتعلن عن التفوق المفترض لنموذجها التنموي والإداري – كل ذلك مع الترويج لموضوع الانحدار الغربي.

هناك مفهومان على الأقل يتذرع بهما أولئك الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة والصين متجهتان إلى الصراع: الأول هو “فخ ثوسيديديس”؛ فوفقًا لهذه النظرية فإن الحرب تصبح أمراً لا مفر منه عندما تواجه قوة صاعدة قوة راسخة، كما حدث عندما واجهت أثينا أسبرطة في العصور القديمة أو عندما واجهت ألمانيا المملكة المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى. والسبب الآخر هو “ذروة الصين”، وهي فكرة مفادها أن القوة الاقتصادية والعسكرية للبلاد أصبحت أو ستصبح قريبًا في أقوى حالاتها، في حين أن المبادرات الطموحة لتعزيز المؤسسة العسكرية الأميركية سوف تستغرق سنوات قبل أن تؤتي ثمارها. وعلى هذا فإن الصين قد تغزو تايوان قبل أن يؤدي التفاوت العسكري في آسيا إلى تغيير الوضع غير الملائم للصين.

في المقابل، لا تُعد أيًّا من النظريتين مقنعة. فلم يكن هناك شيء لا مفر منه في الحرب العالمية الأولى؛ لقد حدث ذلك بسبب غباء وغطرسة زعماء أوروبا. ويعد الجيش الصيني نفسه أبعد ما يكون عن الاستعداد لصراع كبير، وبالتالي فإن أي هجوم صيني مباشر على تايوان أو غزوها – في حال حدث – سوف يستغرق بضع سنوات في المستقبل؛ ما لم يخطئ شي في تقديراته مرة أخرى بطبيعة الحال.

مقامرة بوتين

وقال زبيغنيو بريجنسكي، عالم السياسة ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، ذات مرة: “دون أوكرانيا، لم تعد روسيا إمبراطورية”. ومن المؤكد أن بوتين يشاركه هذا الرأي. وفي سعيه وراء إمبراطورية روسيا المفقودة، قام بغزو أوكرانيا في سنة 2014 ومرة أخرى في سنة 2022؛ حيث تبين أن المغامرة الأخيرة كانت عبارة عن سوء تقدير كارثي له عواقب مدمرة طويلة المدى على بلاده. وبدلاً من تقسيم وإضعاف حلف  الناتو، قدمت تصرفات روسيا للتحالف فرصا جديدة تتمثل في ضم أعضاء جدد أقوياء مثل فنلندا، والسويد. ومن الناحية الإستراتيجية، أصبحت روسيا الآن أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل الغزو.

ومن الناحية الاقتصادية؛ عوضت مبيعات النفط إلى الصين والهند ودول أخرى الكثير من الأثر المالي للعقوبات، كما حلت السلع الاستهلاكية والتكنولوجيا من الصين وتركيا ودول أخرى في آسيا الوسطى والشرق الأوسط محل السلع الاستهلاكية والتكنولوجيا القادمة من الغرب جزئيا.

ومع ذلك؛ ظلت روسيا خاضعة لعقوبات استثنائية من جانب كافة الديمقراطيات المتقدمة تقريبا. فقد سحبت شركات غربية لا حصر لها استثماراتها من البلاد وتخلت عنها، بما في ذلك شركات النفط والغاز التي تعتبر تقنيتها ضرورية للحفاظ على مصدر الدخل الرئيسي لروسيا؛ حيث وفر الآلاف من خبراء التكنولوجيا ورجال الأعمال الشباب. ومن خلال غزو أوكرانيا، رهن بوتين مستقبل بلاده.

بث للتدريبات العسكرية الصينية، بكين، التي أجرتها  في آب/ أغسطس 2023.

أما بالنسبة للجيش الروسي؛ فرغم أن الحرب أدت إلى إضعاف قواته التقليدية بشكل كبير، إلا أن موسكو تحتفظ بأكبر ترسانة نووية في العالم. وبفضل اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة، لا تتضمن هذه الترسانة سوى عدد قليل من الأسلحة النووية الإستراتيجية المنتشرة أكثر مما تمتلكه الولايات المتحدة، ولكن روسيا تمتلك عشرة أضعاف الأسلحة النووية التكتيكية، والتي تصل إلى حوالي 1900 سلاح.

وعلى الرغم من هذه الترسانة النووية الضخمة، إلا أن التوقعات بالنسبة لبوتين تبدو قاتمة. وفي ظل تبدد آماله في غزو سريع لأوكرانيا، يبدو أنه يعتمد على مأزق عسكري صعب لإرهاق الأوكرانيين، ويراهن على أنه بحلول الربيع أو الصيف المقبل، سوف يتعب عامة الناس في أوروبا والولايات المتحدة من دعمهم.

وكبديل مؤقت لأوكرانيا التي تم غزوها، ربما يكون بوتين على استعداد للنظر في وضع أوكرانيا المشلول التي أصبحت دولة هشة في حالة خراب، وانخفضت صادراتها وتقلصت مساعداتها الخارجية بشكل كبير. لقد أراد بوتين أن تكون أوكرانيا جزءًا من الإمبراطورية الروسية المُعاد تشكيلها، كما أنه يخشى أن تصبح أوكرانيا ديمقراطية وحديثة ومزدهرة كنموذج بديل للروس في الجوار. وبما أنه لم يستطع تحقيق هدفه المعلن، قد يعتقد أنه قادر على تقويض أهداف أوكرانيا.

وطالما بقي بوتين في السلطة، ستظل روسيا خصما للولايات المتحدة وحلف الناتو. فمن خلال مبيعات الأسلحة، والمساعدة الأمنية، وأسعار النفط والغاز المخفضة، فإن بوتين يعمل على تنمية علاقات جديدة في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وسوف يستمر في استخدام كل الوسائل المتاحة له لزرع الانقسام في الولايات المتحدة وأوروبا وتقويض نفوذ الولايات المتحدة في الجنوب العالمي.

وبفضل شراكته مع الرئيس شي جين بينغ، وثقته في أن ترسانته النووية الحديثة سوف تردع أي عمل عسكري ضد روسيا، فسوف يستمر في تحدي الولايات المتحدة بشدة. لقد ارتكب بوتين بالفعل خطأً تاريخيا في الحسابات، ولا يمكن لأحد أن يكون متأكدا من أنه لن يرتكب خطأ آخر.

الولايات المتحدة ضعيفة

في الوقت الحالي، تبدو الولايات المتحدة في موقف قوي في مواجهة كل من الصين وروسيا. والأهم من ذلك كله أن أداء الاقتصاد الأمريكي جيد؛ إذ يزدهر الاستثمار التجاري في مرافق التصنيع الجديدة، وبعضها مدعوم ببرامج البنية الأساسية والتكنولوجيا الحكومية الجديدة. كما تَعِد الاستثمارات الجديدة من قبل كل من الحكومة وقطاع الأعمال في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والروبوتات، والهندسة الحيوية، بتوسيع الفجوة التكنولوجية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وكل دولة أخرى لسنوات قادمة.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، منحت الحرب في أوكرانيا الولايات المتحدة فرصا جديدة؛ حيث إن التحذير المبكر الذي أرسلته واشنطن لأصدقائها وحلفائها بشأن نية روسيا لغزو أوكرانيا أعاد ثقتهم في القدرات الاستخباراتية الأمريكية.

وقد سمحت المخاوف المتجددة من روسيا للولايات المتحدة بتعزيز وتوسيع حلف الناتو، كما قدمت المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا دليلا واضحا على أنه يمكن الوثوق بها للوفاء بالتزاماتها. ومن ناحية أخرى، أدى الترهيب الاقتصادي والدبلوماسي الذي تمارسه الصين في آسيا وأوروبا إلى نتائج عكسية، مما مكّن الولايات المتحدة من تعزيز علاقاتها في كلا المنطقتين.

لقد تلقى الجيش الأمريكي تمويلا جيّدا في السنوات الأخيرة، ويجري تنفيذ برامج التحديث في جميع الركائز الثلاثة للثالوث النووي – الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وقاذفات القنابل، والغواصات.

واشترى البنتاغون طائرات مقاتلة جديدة (طائرات إف-35، وطائرات إف-15 محدثة، ومقاتلة جديدة من الجيل السادس)، إلى جانب أسطول جديد من طائرات التزود بالوقود للتزود بالوقود أثناء الطيران. كما اشترى الجيش نحو عشرين منصة وأسلحة جديدة، وتقوم البحرية ببناء سفن وغواصات إضافية. ويواصل الجيش تطوير أنواع جديدة من الأسلحة، مثل الذخائر التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وتعزيز قدراته السيبرانية الهجومية والدفاعية. وبشكل عام، تنفق الولايات المتحدة على الدفاع أكثر مما تنفقه الدول العشر التالية لها مجتمعة، بما في ذلك روسيا والصين.

ولكن من المؤسف أن الخلل السياسي في الولايات المتحدة وإخفاقاتها السياسية يقوّضون نجاحها؛ إذ يتعرض الاقتصاد الأمريكي للتهديد بسبب الإنفاق الحكومي الفيدرالي المُسرف، وقد فشل الساسة من كلا الحزبين في معالجة التكاليف المتصاعدة للاستحقاقات مثل الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية، والمساعدات الطبية.

وكانت المعارضة الدائمة لرفع سقف الدين سببًاا في تقويض الثقة في الاقتصاد، مما أثار قلق المستثمرين بشأن ما قد يحدث إذا تخلفت واشنطن عن سداد ديونها بالفعل. (في شهر آب/ أغسطس 2023، خفضت وكالة “فيتش” التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، مما أدى إلى رفع تكاليف الاقتراض على الحكومة). وقد ظلت عملية المخصصات في الكونغرس معطلة لسنوات. لقد فشل المشرعون مرارًا وتكرارًا في سن مشاريع قوانين الاعتمادات الفردية، وأقروا قوانين “شاملة” ضخمة لم يقرأها أحد، وأجبروا الحكومة على الإغلاق.

تحتاج الولايات المتحدة إلى المزيد من القوة العسكرية لمواجهة التهديدات التي تواجهها، ولكن الكونغرس والسلطة التنفيذية مليئة بالعقبات التي تحول دون تحقيق هذا الهدف.

على الصعيد الدبلوماسي، أدى ازدراء الرئيس السابق دونالد ترامب لحلفاء الولايات المتحدة، وولعه بالقادة المستبدين، واستعداده لزرع الشكوك حول التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها في الناتو، وسلوكه غير المنتظم بشكل عام، إلى تقويض مصداقية الولايات المتحدة واحترامها في مختلف أنحاء العالم. ولكن بعد سبعة أشهر فقط من إدارة الرئيس جو بايدن، أضر انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ والكارثي من أفغانستان بثقة بقية العالم في واشنطن.

على امتداد سنوات، أهملت الدبلوماسية الأمريكية جزءًا كبيرًا من الجنوب العالمي، الذي يمثّل الجبهة المركزية للمنافسة غير العسكرية مع الصين وروسيا: لقد تُركت مناصب سفراء الولايات المتحدة شاغرة بشكل غير متناسب في هذا الجزء من العالم. وابتداءً من سنة 2022، وبعد سنوات من الإهمال، سارعت الولايات المتحدة إلى إحياء علاقاتها مع دول جزر المحيط الهادئ، ولكن فقط بعد أن استغلت الصين غياب واشنطن لتوقيع اتفاقيات أمنية واقتصادية مع هذه الدول. إن المنافسة مع الصين وحتى روسيا على الأسواق والنفوذ عالمي؛ ولا يمكن للولايات المتحدة أن تغيب عن أي منطقة.

ويدفع الجيش ثمن الخلل السياسي الأمريكي، ولا سيما في الكونغرس. ففي كل سنة – منذ سنة 2010 – فشل الكونغرس في الموافقة على مشاريع قوانين المخصصات للجيش قبل بداية السنة المالية التالية. وبدلا من ذلك، أصدر المشرعون “قرارًا مستمرًّا”، والذي يسمح للبنتاغون بعدم إنفاق أموال أكثر مما أنفقه في السنة السابقة ويمنعه من البدء بأي شيء جديد أو زيادة الإنفاق على البرامج الحالية.

وتحكم هذه القرارات المستمرة الإنفاق الدفاعي حتى يتم إقرار مشروع قانون مخصصات جديد، وقد استمرت من بضعة أسابيع إلى سنة مالية كاملة. والنتيجة هي أنه في كل سنة، لا تؤدي البرامج والمبادرات الجديدة المبتكرة إلى أي نتيجة لفترة لا يمكن التنبؤ بها.

وقد أقرّ قانون مراقبة الميزانية لسنة 2011 تخفيضات تلقائية في الإنفاق، والمعروفة باسم “الحجز”، وخفض الميزانية الفيدرالية بمقدار 1.2 تريليون دولار على امتداد عشر سنوات. واضطر الجيش، الذي كان يمثل في ذلك الوقت نحو 15 بالمئة فقط من النفقات الفيدرالية، إلى استيعاب نصف هذا التخفيض – حوالي 600 مليار دولار. ومع إعفاء تكاليف الموظفين، كان يجب أن يأتي الجزء الأكبر من التخفيضات من الصيانة والعمليات والتدريب وحسابات الاستثمار.

وكانت العواقب وخيمة وطويلة الأمد. ومع ذلك، اعتبارًا من أيلول/ سبتمبر 2023، يتجه الكونغرس نحو ارتكاب نفس الخطأ مرة أخرى. وهناك مثال آخر على سماح الكونغرس للسياسة بإلحاق ضرر حقيقي بالجيش، وهو السماح لأحد أعضاء مجلس الشيوخ للحيلولة دون تثبيت مئات من كبار الضباط لعدة أشهر متتالية، مما لا يؤدي فحسب إلى إضعاف الاستعداد والقيادة بشكل خطير ولكن أيضًا من خلال تسليط الضوء على الخلل الحكومي الأمريكي في مثل هذا المجال الحيوي، وجعل الولايات المتحدة أضحوكة بين خصومها.

بشكل عام، تحتاج الولايات المتحدة إلى المزيد من القوة العسكرية لمواجهة التهديدات التي تواجهها، ولكن الكونغرس والسلطة التنفيذية مليئة بالعقبات التي تحول دون تحقيق هذا الهدف.

لقاء اللحظة

إن المنافسة الملحمية بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والصين وروسيا ورفاقهما من جهة أخرى تجري على قدم وساق. ولضمان أن تكون واشنطن في أقوى وضع ممكن لردع خصومها من ارتكاب المزيد من الحسابات الاستراتيجية الخاطئة، يجب على قادة الولايات المتحدة أولا معالجة انهيار اتفاق الحزبين المستمر منذ عقود فيما يتعلق بدور الولايات المتحدة في العالم.

ليس من المستغرب أن يرغب العديد من الأميركيين، بعد 20 سنة من الحرب في أفغانستان والعراق، في الانغلاق على الذات، وخاصة في ضوء المشاكل العديدة التي تواجهها الولايات المتحدة في الداخل. ولكن مهمة الزعماء السياسيين تتمحور حول مواجهة هذه المشاعر وشرح كيف يرتبط مصير البلاد بشكل لا ينفصم بما يحدث في أماكن أخرى. وذات يوم، لاحظ الرئيس فرانكلين روزفلت أن “أعظم واجب على رجل الدولة هو التعليم”. ولكن الرؤساء الجدد، ومعهم أغلب أعضاء الكونغرس، فشلوا فشلا ذريعا في الاضطلاع بهذه المسؤولية الأساسية.

ويتعين على الأميركيين أن يفهموا السبب وراء أهمية القيادة الأميركية العالمية، على الرغم من تكاليفها، في الحفاظ على السلام والازدهار، كما يتعين عليهم أن يعرفوا لماذا تشكل المقاومة الأوكرانية الناجحة للغزو الروسي أهمية بالغة لردع الصين عن غزو تايوان. إنهم بحاجة إلى معرفة السبب الذي يجعل الهيمنة الصينية على غرب المحيط الهادئ تهدد المصالح الأمريكية، وهم بحاجة إلى معرفة السبب وراء أهمية النفوذ الصيني والروسي في الجنوب العالمي بالنسبة للمحفظة الأمريكية.

إلى جانب معرفة السبب وراء أهمية الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف للحفاظ على السلام، والسبب وراء تهديد التحالف الصيني الروسي للولايات المتحدة؛ وتمثّل هذه أنواع الروابط التي يحتاج القادة السياسيون الأمريكيون إلى رسمها كل يوم.

ليس الأمر مجرد خطاب واحد في الكونغرس؛ بل إن الأمر يتطلب تكرار الرسالة حتى تترسخ. فإلى جانب التواصل المنتظم مع الشعب الأميركي بشكل مباشر، وليس من خلال المتحدثين الرسميين، يحتاج الرئيس إلى قضاء بعض الوقت في تناول المشروبات والعشاء  ووجبات العشاء وعقد اجتماعات صغيرة مع أعضاء الكونغرس ووسائل الإعلام لإثبات دور الولايات المتحدة القيادي. وبعد ذلك، ونظرًا للطبيعة المجزأة للاتصالات الحديثة، يحتاج أعضاء الكونغرس إلى نقل الرسالة إلى ناخبيهم في جميع أنحاء البلاد.

بوتين يخاطب الوحدات العسكرية الروسية، موسكو، حزيران/ يونيو 2023

ما هي تلك الرسالة؟ لقد وفرت القيادة العالمية الأميركية 75 سنة من السلام بين القوى العظمى، وهي أطول فترة منذ قرون. ولا يوجد شيء أكثر تكلفة من الحرب  في حياة أمة، ولا شيء آخر يمثل تهديدا أكبر لأمنها وازدهارها.

ولا شيء يجعل الحرب أكثر احتمالًا من اللّامبالاة والتظاهر بأن الولايات المتحدة لا تتأثر بالأحداث في أماكن أخرى، كما تعلمت البلاد قبل الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.

إن القوة العسكرية التي تمتلكها الولايات المتحدة، والتحالفات التي أقامتها، والمؤسسات الدولية التي صممتها، كلها ضرورية لردع العدوان ضدها وضد شركائها. وكما ينبغي أن يوضح قرن من الأدلة، فإن الفشل في التعامل مع المعتدين لا يؤدي إلّا إلى تشجيع المزيد من العدوان. ومن السذاجة الاعتقاد بأن النجاح الروسي في أوكرانيا لن يؤدي إلى المزيد من العدوان الروسي في أوروبا، بل وربما حتى الحرب بين حلف شمال الأطلسي وروسيا.

ومن السذاجة بنفس القدر الاعتقاد بأن النجاح الروسي في أوكرانيا لن يزيد بشكل كبير من احتمالات العدوان الصيني على تايوان، وبالتالي احتمال نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين.

إن العالم الذي لا يتمتع بقيادة أميركية موثوقة سيكون عالمًا من الحيوانات المفترسة الاستبدادية، حيث قد تكون جميع البلدان الأخرى فريسة محتملة. وإذا كان لأمريكا أن تحمي شعبها وأمنها وحريتها، فيتعين عليها أن تستمر في احتضان دورها القيادي العالمي، وكما قال رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عن الولايات المتحدة في سنة 1943: “إن ثمن العظمة هو المسؤولية”.

إن إعادة بناء الدعم في الداخل لتلك المسؤولية أمر ضروري لإعادة بناء الثقة بين الحلفاء، كما أنه من الضروري الوعي بين الخصوم بأن الولايات المتحدة ستفي بالتزاماتها. وبسبب الانقسامات الداخلية، والرسائل المختلطة، وتناقض الزعماء السياسيين بشأن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في العالم؛ هناك شك كبير في الخارج حول موثوقية الولايات المتحدة.

ويتساءل كل من الأصدقاء والخصوم عمّا إذا كانت مشاركة بايدن وبناء التحالفات تمثل عودة إلى الوضع الطبيعي أو ما إذا كان ازدراء ترامب لشعار “أمريكا أولًا” للحلفاء سيكون الخيط المهيمن في السياسة الأمريكية في المستقبل؛ فحتى أقرب الحلفاء يتحوطون في رهاناتهم بشأن أمريكا، وفي عالم تبرز فيه روسيا والصين، فإن هذا أمر خطير بشكل خاص.

إن استعادة الدعم الشعبي للقيادة العالمية للولايات المتحدة هي الأولوية القصوى، ولكن يجب عليها اتخاذ خطوات أخرى لممارسة هذا الدور فعليًا.

أولاً، يتعين عليها أن تذهب إلى ما هو أبعد من “التمحور” نحو آسيا؛ حيث إن تعزيز العلاقات مع أستراليا واليابان والفلبين وكوريا الجنوبية ودول أخرى في المنطقة أمر ضروري ولكنه غير كافِِ، فالصين وروسيا تعملان معًا ضد المصالح الأمريكية في كل قارة، وتحتاج واشنطن إلى إستراتيجية للتعامل مع العالم أجمع، وخاصة في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، حيث يتفوق الروس والصينيون بسرعة على الولايات المتحدة في تطوير العلاقات الأمنية والاقتصادية.

الدبلوماسية العامة ضرورية لتعزيز المصالح الأمريكية، لكن واشنطن تركت أداة القوة المهمة هذه تذوي منذ نهاية الحرب الباردة

ولا ينبغي لهذه الإستراتيجية أن تقسم العالم إلى ديمقراطيات وأنظمة استبدادية، بل يجب على الولايات المتحدة أن تدافع دائمًا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل مكان، لكن هذا الالتزام يجب ألّا يعمي واشنطن عن حقيقة أن المصالح الوطنية الأمريكية تتطلب منها أحيانًا العمل مع حكومات قمعية وغير تمثيلية.

ثانيًا، يجب أن تتضمن استراتيجية الولايات المتحدة كافة أدوات قوتها الوطنية، فقد أصبح كل من الجمهوريين والديمقراطيين معادين للاتفاقيات التجارية، وأصبحت المشاعر الحمائية قوية في الكونغرس، وهذا قد ترك المجال مفتوحًا أمام الصينيين في الجنوب العالمي، الذي يقدم أسواقًا وفرصًا استثمارية ضخمة.

وعلى الرغم من عيوب مبادرة الحزام والطريق، مثل الديون الهائلة التي تتراكم على البلدان المتلقية، فقد استخدمتها بكين بنجاح للتلميح إلى نفوذ الصين وشركاتها وهيمنتها الاقتصادية في عشرات البلدان، ولن يختفي هذا الأمر المنصوص عليه في الدستور الصيني في سنة 2017. وتحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى معرفة كيفية التنافس مع المبادرة بطرق تتناسب مع نقاط قوتهم، وقبل كل شيء، قطاعهم الخاص، وتمثل برامج المساعدات التنموية الأميركية جزءاً صغيرًا من الجهود الصينية، كما أنها مجزأة ومنفصلة عن الأهداف الجيوسياسية الأمريكية الأكبر.

وحتى عندما تنجح برامج المساعدات الأميركية، فإن الولايات المتحدة تحافظ على الصمت بشأن إنجازاتها. فهي لم تذكر سوى القليل، على سبيل المثال عن خطة كولومبيا، وهي برنامج مساعدات مصمم لمكافحة تجارة المخدرات الكولومبية، أو خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من مرض الإيدز، والتي أنقذت الملايين من الأرواح في أفريقيا.

إن الدبلوماسية العامة ضرورية لتعزيز المصالح الأمريكية، لكن واشنطن تركت أداة القوة المهمة هذه تذوي منذ نهاية الحرب الباردة. وفي الوقت نفسه؛ تنفق الصين مليارات الدولارات في جميع أنحاء العالم لتعزيز خطابها، وتبذل روسيا أيضًا جهودًا حثيثة لنشر دعايتها ومعلوماتها المضللة، فضلاً عن إثارة الفتنة داخل الديمقراطيات وفيما بينها.

ولهذا تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية للتأثير على القادة والشعوب الأجنبية، وخاصة في الجنوب العالمي. ولتحقيق النجاح في ذلك؛ فإن هذه الإستراتيجية تتطلب من حكومة الولايات المتحدة ليس فقط إنفاق المزيد من الأموال، ولكن أيضًا دمج ومزامنة العديد من أنشطة الاتصالات المتباينة.

وتشكل المساعدة الأمنية للحكومات الأجنبية مجالًا آخر يحتاج إلى تغيير جذري؛ فعلى الرغم من أن الجيش الأمريكي يقوم بعمل جيد في تدريب القوات الأجنبية، إلا أنه يتخذ قرارات مجزأة حول مكان وكيفية القيام بذلك دون النظر بشكل كافٍ في الإستراتيجيات الإقليمية أو كيفية الشراكة مع الحلفاء بشكل أفضل.

وقد قدمت روسيا بشكل متزايد المساعدة الأمنية للحكومات في أفريقيا، وخاصة تلك ذات النزعة الاستبدادية، لكن الولايات المتحدة ليس لديها استراتيجية فعالة لمواجهة هذه الجهود. ويجب على واشنطن أيضًا أن تجد طريقة لتسريع تسليم المعدات العسكرية إلى الدول المتلقية؛ فهناك الآن ما يقرب من 19 مليار دولار من مبيعات الأسلحة المتراكمة إلى تايوان، مع تأخير يتراوح بين 4 إلى 10 سنوات.

وعلى الرغم من أن هذا التعطيل ناتج عن العديد من العوامل، إلا أن أحد الأسباب المهمة هو القدرة الإنتاجية المحدودة لصناعة الدفاع الأمريكية.

أفراد من مشاة البحرية الأمريكية في بحر البلطيق، أيلول/سبتمبر2023.

ثالثًا، يتعين على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في إستراتيجيتها النووية في مواجهة التحالف الصيني الروسي. إن التعاون بين روسيا – التي تعمل على تحديث قوتها النووية الإستراتيجية – والصين – التي تعمل على توسيع قوتها الصغيرة بشكل كبير- يختبر مصداقية الردع النووي الأمريكي، كما هو الحال مع القدرات النووية المتوسعة لكوريا الشمالية وإمكانات الأسلحة الإيرانية.

ولتعزيز قوة الردع لديها؛ من المؤكد تقريبًا أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تكييف إستراتيجيتها وربما تحتاج إلى توسيع حجم قواتها النووية أيضًا، خاصة وأن القوات البحرية الصينية والروسية تمارسان تدريبات مشتركة على نحو متزايد، وسيكون من المفاجئ أن لا تقوما أيضاً بتنسيق قواتهما النووية الاستراتيجية المنتشرة بشكل أوثق.

هناك اتفاق واسع النطاق في واشنطن على أن البحرية الأمريكية تحتاج إلى المزيد من السفن الحربية والغواصات. ومرة أخرى؛ أصبح التناقض بين خطاب الساسة وأفعالهم صارخًا. فلعدة سنوات، كانت ميزانية بناء السفن ثابتة بشكل أساسي، ولكن في السنوات الأخيرة، حتى مع زيادة الميزانية بشكل كبير، حالت القرارات المستمرة ومشاكل التنفيذ دون توسع البحرية.

وتتمثل العقبات الرئيسية التي تحول دون إنشاء قوة بحرية أكبر في الميزانية: الافتقار إلى تمويل أعلى مستدام للبحرية نفسها، وعلى نطاق أوسع، نقص الاستثمار في أحواض بناء السفن وفي الصناعات التي تدعم بناء السفن وصيانة السفن. ورغم ذلك فمن الصعب أن ندرك أي شعور بالإلحاح بين الساسة لمعالجة هذه المشاكل في أي وقت قريب، وهذا أمر غير مقبول.

وأخيرًا، يتعين على الكونغرس أن يغير الطريقة التي يخصص بها الأموال لوزارة الدفاع، وفي نفس الوقت يتعين على وزارة الدفاع أن تغير الطريقة التي تنفق بها تلك الأموال؛ حيث يحتاج الكونغرس إلى التصرف بسرعة وكفاءة أكبر عندما يتعلق الأمر بالموافقة على ميزانية الدفاع. وهذا يعني في المقام الأول إقرار مشاريع قوانين المخصصات العسكرية قبل بداية السنة المالية، وهو التغيير الذي من شأنه أن يمنح وزارة الدفاع القدرة على التنبؤ التي هي في أمس الحاجة إليها. ويتعين على البنتاغون – هو الآخر – أن يعمل على إصلاح عمليات الاستحواذ المتصلبة والضيقة الأفق والبيروقراطية، والتي تجاوزها الزمن بشكل خاص في عصر حيث أصبحت سرعة الحركة والمرونة والسرعة أكثر أهمية من أي وقت مضى. لقد قال القادة في وزارة الدفاع الأشياء الصحيحة حول هذه العيوب وأعلنوا عن العديد من المبادرات لتصحيحها.، لكن التنفيذ الفعال والعاجل هو التحدي الحقيقي.

كلام أقل.. عمل أكثر

تعتقد الصين وروسيا أن المستقبل ملك لهما. وعلى الرغم من كل الخطابات الصارمة القادمة من الكونغرس الأمريكي والسلطة التنفيذية حول التصدي لهؤلاء الخصوم، إلّا أنه من المدهش أن هناك القليل من الإجراءات. وفي كثير من الأحيان، يتم الإعلان عن مبادرات جديدة، إلّا أن التمويل والتنفيذ الفعلي يتحركان ببطء أو يفشلان في التنفيذ تمامًا.

فالكلام سهل، ولكن لا يبدو أن أحداً في واشنطن مستعد لإجراء التغييرات العاجلة المطلوبة، وهذا أمر محير بشكل خاص، لأنه في وقت يتسم بالحزبية والاستقطاب المرير في واشنطن، تمكن شي وبوتين من حشد دعم الحزبين – بطريقة مثيرة للإعجاب وإن كان هناك نوع من الهشاشة – بين صناع السياسات لرد أميركي قوي على عدوانهما. لدى السلطة التنفيذية والكونغرس فرصة نادرة للعمل معًا لدعم خطابهما حول مواجهة الصين وروسيا بإجراءات بعيدة المدى تجعل من الولايات المتحدة خصمًا أكبر بكثير وقد تساعد في ردع الحرب.

لقد ارتكب شي وبوتين – اللذان يحيط بهما رجال يقولون “نعم”- بالفعل أخطاء جسيمة كلفت بلديهما غاليًا، وعلى المدى الطويل، فقد ألحقوا الضرر ببلدانهم. ومع ذلك، وفي المستقبل المنظور؛ تظل هذه التهديدات تشكل خطرًا يجب على الولايات المتحدة التعامل معه. وحتى في أفضل العوالم ـ العالم الذي تتمتع فيه حكومة الولايات المتحدة بجمهور داعم، وقادة نشيطين، واستراتيجية متماسكة ـ فإن هؤلاء الخصوم سيشكلون تحديًا هائلًا.

لكن المشهد الداخلي اليوم أبعد ما يكون عن النظام: فقد تحول الرأي العام الأميركي إلى الداخل، وانحدر الكونغرس إلى المشاحنات والفظاظة وسياسة حافة الهاوية.

والرؤساء المتعاقبون إما أنكروا الدور العالمي الذي تلعبه أميركا أو لم يقدموا تفسيرًا جيدًا له. وللتعامل مع مثل هؤلاء الخصوم الأقوياء المعرضين للمخاطر، تحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز لعبتها من كل الأبعاد، وعندها فقط يمكنها أن تأمل في ردع شي وبوتين عن القيام بالمزيد من الرهانات السيئة، فالخطر القادم منهما حقيقي.

المصدر: فورين أفيرز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب