منوعات

أنور الدرويش فنان الفوتوغراف العراقي: مخاتلة الضوء والظل لاكتشاف الأمكنة بسحرها وأسرارها التراجيدية

أنور الدرويش فنان الفوتوغراف العراقي: مخاتلة الضوء والظل لاكتشاف الأمكنة بسحرها وأسرارها التراجيدية

مروان ياسين الدليمي

تتمثل رؤية الفنان الفوتوغرافي أنور الدرويش في حرصه العالي على أن لا يقع أسير ظواهر الأشياء، وسعيه الدائب للتوغل في أعماقها، وهذه الأسلوبية في عمله تعود إلى قناعته بأهمية أن لا يرتكن الفنان إلى قواعد ثابتة، لأن الفن يكتسب حضوره الحيوي عن طريق المغامرة لكسر القواعد، وأنَّ قوة الشكل الفني لديه مرتبطة بما يكتنزه من حركية النمو والتطور الاجتماعي والتأريخي، وأن مهمة الفنان صاحب الرؤية مغادرة سطوة الواقع الخارجي، بحثا عن أصدائه في ما هو كامن في أعماقه، لاكتشاف كنه العلاقة السرية القائمة، بين ذاته والموضوع الذي يتواصل مع عناصره. والفنان درويش ينتمي إلى عائلة تعشق فن التصوير الفوتوغرافي إضافة إلى أنه أصبح مهنة لمعظم أفرادها، فقد كان والده من رواد هذا الفن في الموصل، وفي مسيرته الاحترافية عديد المشاركات في مسابقات محلية ودولية، ومن خلاله انتقل هذا الوله إلى الأبناء والأحفاد.

سرديّة الصورة

الصورة لدى درويش خيار قصصي، يسرد عبر عناصرها الفنية أفكاره ومشاعره إزاء العالم، فهو سارد لحكايات مدينة الموصل العراقية، موظفا قواعد التناسب والتناغم والتضاد بشكل محسوب تقنيا عندما يستنطق الأثر الإنساني في خصوصية مبانيها القديمة، وما تحفل به من حياة واقعية معبأة مشاهدها بملامح الكفاح والفرح والقسوة والتحدي. فالموصل التي تمتد جذورها في أعماق التاريخ الحضاري لبلاد الرافدين، ما زالت تكتنز في شخصيتها المعاصرة هذا الأرث الثمين في بنيتها الاجتماعية والعمرانية، وهي فرصة مهمة بالنسبة له شخصيا تدفعه لتأسيس تجربته ومشروعه الفني الخاص.
شكَّل اهتمامه الواضح بتقنيات الضوء والظل في نحت موضوعه داخل إطار الصورة، علامة فارقة في تأسيس مفهومه للعلاقة التي ينبغي أن تكون بين المشهد الواقعي الذي يقترب منه، والكيفية التي سيكون عليها في سرديته الفوتوغرافية، وهذا ما يضعه في مكانة مميزة عن أقرانه، ويجعلها تجربة فنية خالصة، وليست أسيرة لهاجس التوثيق، فهو يتقصد التعبير عن رؤيته الشخصية للعالم من خلال الإصرار على تفرده في اختيار موضوع الصورة وتكوينها والحركة الكامنة فيها، وصولا إلى الإيحاء برسالته إلى المتلقي.

انشداد إنساني للبيئة المحلية

في رؤيته للأشياء يتخلى درويش عن إعادة تشكيل الانطباعات الجاهزة في وعي المتلقي، كما لو أنه يحاول أن يحفزه على أن يتأملها من زاوية جديدة، وهنا تتجلى شخصية الفنان في أن يضع أي مشهد واقعي داخل دائرة من العلاقات المركبة خارج نطاق ما هو مألوف ومتداول، بالتالي هي التي ستحدد الأسلوب الفني الذي يقدم خصوصية الصورة، بالشكل الذي تكون فيه أكثر قربا لشخصية الفنان في التعبيرعن رؤيته للعالم. فعندما نتأمل صورة فوتوغرافية، فمن المهم أن نتوقع الاحساس برؤية المصور وليس مجرد تفنن شكلاني باستعراض تكوينات وألوان وزوايا مجردة من أي محتوى تقتصر غايتها على إحداث حالة من الانبهار. وفي سياق المشروع الفني لدرويش لن نجد مثل هذه الصيغة، لأنه لا ينظر إلى الصورة باعتبارها منتجا سلعيا تجاريا، بقدر ما هي تجسيد لما يحمله من انشداد إنساني للبيئة المحلية التي يرتبط بكل خواصها الطبيعية والاجتماعية والوجودية، خاصة وأنه كان شاهدا على ما عاشته من تجارب وتحولات تراجيدية. وهنا لابد من العودة إلى الوراء للإشارة إلى الصلة التاريخية التي تجمع الصورة الفوتوغرافية مع الأمكنة القديمة، إذ كان لها حضور منذ بدايات هذا الفن في نهاية القرن التاسع عشر، عندما انتبه المصورون الأوائل إلى أهمية توثيق هذه العلاقة وترسيخها، باعتبار مكونا محوريا في التكوين والتعبير الإبداعي لأجل أن تبقى الأجواء الحميمة التي استوعبتها الصورة وهي تؤرخ وتؤنسن الأمكنة قديمها وحديثها، بنقوشها وزخارفها وألونها في ذاكرة الأجيال، ولكي لا يطالها النسيان مهما تقادم عليها الزمن، وفي الوقت نفسه حتى تبقى أداة مهمة لدراسة التاريخ والثقافة، فمن خلالها نرى الأمكنة أكثر من مجرد مباني، لأنها تمتلك القدرة على سرد الحياة التي مرت عليها. والفنان أنور درويش يدرك سر العلاقة القائمة على الشغف ما بين الصورة الفوتوغرافية والمكان، وعلى وجه خاص القديمة منها، وعندما تكون عدسة الكاميرا تحت إدارة فنان مثله يتمتع بدرجة عالية من العشق والحساسية، فمن الطبيعي أن تصبح النتيجة أداة مثالية للتوغل خلف ما يبدو عليه الزمن من سكونية مكدسة عليه مثل الغبار في كل زاوية اضطر الإنسان مرغما على هجرها تحت اشتراطات القدر أو ظروف شخصية قاهرة. والملاحظ أن عدسته إذا ما اقتربت من الأشياء والحيوات، تكون مدفوعة برغبة من يحاول إيقاظ السكون من غفوته، وبعث الحياة من جديد في التفاصيل، ولا أشك في أن المتلقي لأعماله، يشعر بتدفق صدى الأنفاس والحكايات مع انبجاس شحنة شفيفة من الحنين إلى الماضي، ورغبة في الحفاظ على خزائن التراث.

الحرب وأشياء أخرى

كانت الحرب من أبرز اللحظات التي عاشتها مدينة الموصل خلال العقدين الماضيين، فلاغرابة أن تتعالق مشاهدها في العديد من التقاطات درويش التي قدمها في معرضه الأخير الذي أقامه في كلية الفنون الجميلة للفترة ما بين 26- 27 تشرين الأول/اكتوبر الماضي، تحت عنوان “نوافذ الزمن” إضافة إلى بقية الموضوعات التي عكست تنوعا في انشداداته وهو يتمثل صورا مختلفة من النشاط الإنساني في مدينته، متنقلا ما بين انفعالاته إزاء الطبيعة والطفولة والريف والمِهن التي يكافح من خلالها الإنسان لتأكيد وجوده، رغم قسوة الظروف التي يواجهها، وقد أرتأى أن يوزع موضوعات أعماله إلى أربعة محاور: التصوير بالأسود والأبيض/التصوير باعتماد العتمة والنور/التصوير الملون (الرؤية اللونية)/ فنتازيا الفوتوغراف. ويشير هذا التقسيم إلى غنى تجربته البصرية وثراء المعرفة التي استند عليها ما جعله مهيأ للتفاعل والتجريب مع زوايا الحياة المختلفة.

عين حاذقة وفكر متقد

إلى جانب المعرض كان هناك حفل توقيع لكتاب أنيق عن تجربته احتوى على 247 صفحة من الحجم الكبير، من تأليف هيثم فتح الله عزيزة الذي يعد واحدا من أبرز فناني الفوتوغراف المعاصرين في العراق، حمل عنوان”الفوتوغرافي انور الدرويش ..عين حاذقة وفكر متقد” استهله فتح الله بعدد من الأسئلة الذكية: لماذا نصور؟ هل نصور من أجل إيقاف الزمن؟ هل نصور من أجل جمال المنظور بالصورة؟ هل نصور من أجل إشباع رغبة الهوية؟ ثم جاءت قراءته لتجربة درويش بمثابة إجابات معمقة ومستفيضة على الأسئلة التي طرحها، وهذا النوع من الإصدرات يعد قليلا في المكتبة العربية وليس في العراق فقط، لذا يمكن اعتباره إضافة نوعية في إطار القراءات النقدية لفن الفوتوغراف، وسنكتفي فقط بجملة منه سطرها عن درويش يقول فيها إنه “فنان فوتوغرافي مميز، له القدرة على التقاط الأشياء بمفهومها الحياتي والإنساني، بطريقة تنم عن إحساسه المرهف وثقافته العالية والحاذقة”.
لابد من الإشارة إلى أن اختراع التصوير الفوتوغرافي جاء في العام 1839 من قبل الفرنسي جوزيف نيسفور نيبس، وأول صورة التقطها عام 1826 كانت عبارة عن منظر طبيعي لمدينة فرنسية، وفي عام 1837 توصل المخترع الفرنسي لويس داجير إلى عملية جديدة للتصوير الفوتوغرافي سميت عملية داجير. وفي عام 1841 توصل البريطاني هنري فوكس تالبوت إلى عملية كالوتايب وكانت أسهل من عملية داجير، وأنتجت صورًا ذات جودة أفضل من سابقتها. وسرعان ما تطور التصوير الفوتوغرافي في السنوات التي تلت ذلك، وأصبحت الكاميرات أصغر وأخف وزنًا. ثم تحول التصوير الفوتوغرافي إلى هواية شائعة، وبدأ استخدامه في الأغراض التجارية والصحافية، أما اليوم فقد أصبح جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية بعد التطورات التكنولوجية الهائلة في الأجهزة الرقمية ومنها أجهزة الهواتف التي جعلتنا إلى حد ما نستغني عن الكاميرا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب