ثقافة وفنون

   لا تَزالُ العُبودِيةُ قائِمةً..

   لا تَزالُ العُبودِيةُ قائِمةً.. 

الأستاذ : علي او عمو.

المملكة المغربية.

كانت هنالك “منطقةٌ” تَسكُنها مجموعة من المواطنين العبيد، تُسمّى “منطقة العبيد” هؤلاء العبيد يَعملون بِجدٍّ و تفانٍ و نُكرانٍ للذّات، أصبحت الحقول و المزارع تُعطي إنتاجاً وافراً، غِلالاً جدَّ هائلة لا تُعدُّ و لا تُحصى، بالإضافة إلى ثروات هائلة من المعادن التي يحتضنها باطن أرضها، حيث تُستخرج منها جميعُ أنواع المعادن من ذهب و فضّة و نُحاس و حديد و غيرِها.. و تتوفَّر “منطقة العبيد” على بحرٍ زاخِر بجميع أنواع الأسماك و الرَّخَوِيات الباهظة الثمن، وهذه الخيرات العميمة تُباع خارج المنطقة يتمتّع بها سكان ما يُدعى “المناطق المُتحكِّمة”   في “منطقة العبيد” توجد ثُلَّة من (النُّبَلاء) التي تستفيد من كل هذه الثروات و الخيرات دون أن ينالَ منها العبيد  (أصحاب الأرض) شيئاً، كل ما فوق الأرض و ما تحت الأرض مِلْكٌ لثُلَّة  (النُّبلاء)، يُساق العبيدُ بالسَّياط و يُحكَمون بقُوَّة الحديد و النار، و الويْلُ كُلُّ الويْلِ لِمَنْ تُسَوِّل له نفسه العِصيانَ، عصيانَ أوامِرِ (النُّبَلاء)، مصيره السجن السحيق بدون هَوادَة من أجل إسكاتِ صوتِه و جعلِه عِبرةً للآخرين، و كُلُّ مَن سَنحتْ له فُرصةُ الهِجرة من شباب “منطقة العبيد” يُغادر مسقط رأسه مُرغماً إلى “المناطق المُتحكِّمة” بعيداً عن أرض آبائِه و أجداده من أجل العيش في حرية و كرامة و عدالة اجتماعية لِكَوْن تلك “المناطق المُتحكِّمة” تحكُمها مَجموعة من الرجال النُّزهاء الثُّقاة الذين اخْتارَهُم أهل تلك “المناطق المُتحكِّمة” بِحُرية لِتدْبير شؤونِهم و تولّي أمورهم.

رغم أنَّ (زُمرةَ النُّبلاء) تُحكِمُ قبضتَها على (عبيد القرية) إلّا أنّها لا تَملك قراراً مُستقلِّاً، فَأعيانُ “المناطق المُتحكّمة” همُ الذين يَفرضون عليها إملاءاتهم مُقابلَ الحفاظ لهم على مصالحهم في “منطقة العبيد”، و هؤلاء الأعيان هم سبب بَقاء هذه الشرذمة مُتربِّعةً على عروشَ التَّسلُّطِ و التًّحكُّم.

 لا تزال (منطقة العبيد) إلى اليوْم، تَرثي حالَها الضّنْك و لا تزال ساكِنتُها تئِنُّ تحت وَطْأة العُبوديّة و الاستغلال.. “حمّو” أحد ساكنة القرية، يقطُن أحد أدغالها المُقفِرة في بيت حالُه هو دليل  الفقر المُدقِع و التهميش و الحِرمان التي تَرزَحُ تحتَه شريحة واسعة من أناسٍ حُرِموا حتّى من إنسانيَّتهم كباقي أحرار المعمورة، بيتٌ على شكل كوخ مبني بالطّين (التابوت) مُسقَّف بالخشب و القَصَب تعشش فيه الفئرانُ مِن جميع الأعمار و الحشراتُ المُختلفة الأشكال و الألوان، تظهَر على صفحات جُدرانه شُقوق و غيرانٌ  يُرى ظاهِرُ البيت من خلالها، سَكَنٌ جِدُّ هشٍّ يبعث الخوف في النفوس لِكوْنه مُتصدِّع الأركان و آئِل للسقوط في أيّة لحظة، لا ماءَ في البيت و لا إنارةَ، اللَّهُمَّ بعض الشموع و قِنديلاً قديماً يشهد لِعصور غابرةٍ في أعماق التاريخ، ظلّ “حمّو” في هذه الرُّقعة  من الأرض (البلْدة) يرعى بِضْعةَ أغنام، يبيع عنزةُ أو خروفاً لِتَزويد أسرتِه بما تَسُدُّ به رَمَقَها.. 

عندما كان “حمّو”، و هو من العبيد، في يوم من الأيام، بالقرب من تَلَّة قريبة من البيت يسوق غنمه تُجاهَ مكان مُحادٍ لِجَبلٍ شاهِقٍ بحثاً عن الكَلاءِ، عَثرَ و انزَلَقت قَدَمُه فسقط أرضاً أُصيبَ على إثر ذلك بَكُسور في قدمه، أخذ يَصرُخ و يصيح بأعلى صوته، سمِع أحد الساكنة صُراخَه  فاتَّجَهَ نحوه  فساعده  للوصول إلى بيته، يتألم  “حمّو” و تتألم معه زوجتُه “فاضمة” و أبناؤُه  الأربعة الذين أُصيبوا بالذهول و الْهوْل و الفَزَع جرّاءَ هذا الحادِث المُروِّع المُفاجئ، أخذت الزوجة “فاضمة” المسكينةُ تُضمِّد قدَمَ  زوجها بِقُماش علًّها تُخفِّف من أَلَمِه في غياب أي مَشفىً في (البلْدة) و لا بالبَلْدات المُجاورة، باتَ الرجل يتألم و يزداد ألمُهُ كلَّما حرًّك قدمَه للاتّكاء على جنبه الآخر.. و في الصباح الباكر فكّر في قًصْد ” بلْدة ” بها شِبْهُ مُستوصَف و تبعُد عن سُكْناه بِعشَرات الأميال، ركِبَ “حمّو”، بمساعدة الزوجة، على متْن حماره، وسيلة نقله الوحيدة، و انْطلق و زوجتُه من خَلْفِه قاصِديْن تلك البلدة، سَلك الزوجان طريقاً كلها أوْعار، صخور و رمال شِعاب و وِديان و أَطيان، مَسلَك يستحيل أن تمُرَّ منه سيارة أو شاحنة، فبَلْداتُ هذه المنطقة المُقفِرة معزولة عُزْلة تامًّةً عن العالم الخارجيِّ.. وَصَل الزوجان إلى تلك البلدة، سألا عن المستوصف المقصود فقيل لهما بأنه مُغلَق منذ زمان و لم يكتمل بناؤه بعدُ، و لن يَكتملَ، تَرَكا حمارَهما في البلْدة لدى رجل عبْدٍ يعمل في ضيعةٍ لأحد (النُّبلاء)، شدَّ الزوجان الرِّحالَ إلى بلدة ثانية أكبر من الأولى، على مَتْن شاحنة للبضائع، قيل لهما بِأنّ بها مستشفىً يقصده المرضى من جميع ضواحيها، وصل الزوجان إلي البلدة، سألا أحدَ المارَّة عن المستشفى فقام بِتوجيههما نحوَه، دخلا إلى بهوٍ مُهتَرئٍ تَرثى جُدرانُه و نوافذُه و سقفُه حالَها مِمّا أصابها من إهمال و لا مُبالاة، دَلَفَا قاعةَ قِسمِ المُستعجلات فَوَجَداها غاصَّةً بالمرضى و قد فوجِئا عندما قال لهما أحد المرضي بأنه منذ خمسة أيام و هو يتنقَّل بين البيت و المستشفى و لا يزال ينتظر دوْرَه لاستشارةٍ طِبِّيَّة مُستَعجَلةٍ فأخذ “حمّو” المسكين يُقلِّبُ كفًّيْه و يتأسف لِحالِه..

خرج الزوجان من المُستشفى و هم يُفكِّرون في الأكل و الشرب و المَبيت في “بلدة” هما فيها غريبان، و ليس لَديْهما أموالٌ لِتلبية حاجياتِهم، و في طريقِهما إلى المَجهول، بادَرَت إلى ذهنَيْهما  فكرةَ التسوُّل من أجل الحصول على دُريهِماتٍ علّ ذلك يُخفِّف من قساوَة الوضع، شرعا في سؤال المارّة، فهناك من الناس المارّين مَن يُشفِق لِحالهما فيَمدّهم بشيء من النُّقود و منهم من يمُرّ غير آبِهٍ بهما، يَبيتان في العَراء و يقتاتان بشيء من الطعام، خُبزٌ و ماءٌ، ذاك هو الفطور الغذاء و العشاء. و تمُرّ أيّام قاسية على الزوجيْن إلى أنْ وصَل موعِد زيارة الطبيب.. قصدا المُستشفى و كلاهُما أمَلٌ في الشّفاء، إثر الدّخول طلَب أحدُ العاملين بالمستشفى من “حمّو” أداء الواجب قبْل السماح له برؤية الطبيب، أخرجت زوجتُه من جيْبِها صُرَّةً بها بعض النّقود، و أخذت تَعُدّها، فوجدت واجِب التطبيب كامِلاً غير منقوص، فحمدت الله، فدخل الزوجُ غُرفَة الطبيب، و بعدَ فَحصِهِ، قال له بأنّ كُسوره تستدعي المُكوث في المشفى لأيام عديدة، تُجرى له عملية جراحيّة لترميم العظام، هذا عن “حمّو” و ماذا عن “فاضمة” أين تقضي الليالي في انتظار شفاء الزوْج؟ انهمرت دموعها من شدّة ما حلّ بها، لمَحتها إحدى الخادمات و اتّجهت نحوها، قصّت عليها المرأة حكايتها، أشفق لها قلبُها، فخصّصَت لها غرفةً صغيرة للمَبيت، تهلّل وجه “فاضمة” و استرجعت أنفاسَها و اطمأنّ قلبُها. و بعد مرور بضعة أيام بدأ الرجل يتماثَلُ للشفاء.

شُفي “حمو” من مرضه، ذلك المرض الذي عانى منه معاناتٍ لا تُوصف، كما سلف ذكرها ، و لكنّ مُعاناتِه لا تَنتَهي سَيُعاني، بعد فترة من الزمن، نوعا آخر من المُعضلات، عند توجُّهه الى إحدى المدارس النائية، من أجل تسجيل ابنه في المستوى الأول من التعليم الابتدائي.

لقد حُرِمَ “حمّو” من دخول المدرسة في صِغَره و لم يتلقَّ أي تعليم يُذكر، فهو أمّيٌّ ضِمْن الكثير من الأميين في البلدة، و لِتعويض ما حُرِمَ منه، فكَّر في تسجيل ابنه الأكبر في إحدى المدارس النائية، التي يقصدها التلاميذ من كل فجٍّ و صوْبٍ سيراً على الأقدام و لِمسافة طويلة..

استيقظ “حمو” باكراً و أًيْقظ ابنَه و تناولا فطورهما ”خبز و شاي” و قامت فاضمة بإلباس ابنها أحسن ما لديْه من ثياب ليظهر بمَظهرٍ جميل أمام زُملائه و أقرانه في المدرسة.

امتطى دابته بصُحبة الابن مُتوجِّهيْن نحو المدرسة التي يَفصِلهما عن البلْدة بضعة كيلومترات، و لما وصلا، عقَل حماره بالقرب من بِناية المؤسسة ثُمّ دَلَفا بِنايةَ لا تَقل رَداءةً عن بيته، فالمؤسسة التعليميّة عبارة عن فَصليْن دراسييْن تَعلو جُدرانُهما شُقوق عميقة يبدوان و كأنهما اصْطبْلان لِلبهائم لا صِلةَ لهما بالتربية و التعليم و تنشِئة أجيال المستقبل، ركائز الأمم التي تريد النهوض ببلدانها و التي تُولي مواردَها البشريّة كلَّ الاهتمام و التي تبني كل آمالها و أمانيها عليها مُعتَبِرةً أن كلّ طفل مُتعلِّم هو لَبِنة في جدران تقدُّمها و رُقيِّها و نهْضَتها..

أوى الأب فصلا دراسيّاً فوجد بِداخِلِه رجلاً جالساً على كرسي رثّ بالٍ قديم قِدم التاريخ يشهد، و لَرُبَّما لعهد ما قبل التاريخ، إنه مدير تلك المدرسة، أَلْقى “حمو” نظرةً على هيْئة السيد المدير، تلك الهيئة التي لا تَلِق بِرجل التعليم سيد الأمّة و رمز نهضتها و نموِّها و ازدهارها.. انْدهش الرجُل، و قال في نفسه: هيْئه هذا الشخص تُشبه هيئة رُعاة البلدة، بِدلةٌ قديمةٌ مُتجاوزة ، سروالٌ تَظهَر عليه ضَرَبات الزمن و قَميصٌ مُمزَّقُ الكمَّين و حٍذاء يبدو أنه من أحذية السوق السوداء ( الخُردة )…. رغم  بَساطَة و سَذاجَة “حمو” إلّا أن رَجاحة عقلة أوْحت إليه بسُؤال غريب عجيب: لماذا يظهر المُعلِّم المُدرِّس بهذا المَظهَر المُرثي؟ و هو السّاهِر على تعليم و تربية الأجيال و هو قُدوتها  في حُسن الهِنْدام و حُسن الأخلاق و السلوك.. غابَ عن “حمو” أن هذا الرجل من “عبيد المنطقة” يتلَقّى أُجْرةً جدّ هزيلة لا تَكفيه حتّى لِتلبية الحاجيات الضروريّة لِعيالِه، و رغمَ ذلك فهو يعمل بإخلاص و تَفانٍ و نُكرانّ للذّات من أجل الرفع من مستوى أطفال” العبيد “ التعليمي و التربوي.. لم ُيدرك هذا” العبْد” أن (زمرة النّبَلاء) أرادوا التقليل من شأن مُعلِّمي الأجيال و مُربّيها و التنقيص من شأْنِهم عَمْداً و قَصداً… لم ُيدرك “حمو” أن (زمرة النُّبلاء) أرادوا زعزعة أركان المنظومة التعليمية و تحطيمها ليبقى ” العبيد” قُطعاناً من الأغنام يسوقونها أنّا شاءوا و كيْفما شاءوا من أجل ضمان استمرار سيطرتهم على خيرات و ثروات(منطقة العبيد).. لم يُدرك “حمّو” أن هؤلاء الطُّغاة لا يسعوْن إلى مصلحة “العبيد” و إنما يسعوْن وَراءَ مصالحهم الذاتية و لا يَهمُّهم الّا نهْب ثروات “منطقة العبيد” و العيش في البذخ و الرفاهية و تخزين الأموال في البنوك بنوك خارج “المنطقة” خوفاً من احتِمال قيام  ثورة و انتفاضَة “العبيد” في مُستقبَل الأيام ضدّ تحكّمهم و تسلُّطهم وانتهاكهم للأعراض و حُرمات (العبيد) المغلوبين على أمرهم.

يُدرِك (النبلاء) كلّ الإدراك أن المدرسة هي أساس بناء الأمم و أنها نِبراس المجتمع و مصباحه فَعَمدوا إلى إخماد هذا النبراس حتى لا تستفيق  (منطقة العبيد) و تلجأ الى زلزلة عروشهم و تحطيم كراسيهم المُهترئة التي لم تُبْنَ على الحقّ و لا على الأُسُس الديمقراطية و العدالة الاجتماعية التي كان من المفروض انتهاجها في ( القرية) التي تزخَر بمُختلف أنواع الثروات و الخيرات..

و لكن على ما يبدو أن النصر سيكون في نهاية الأمر للمستضعفين الذين غُلبوا على أمرهم. سَينهزم الطغاة ،لا محالة، و التاريخ هو الذي يقول بأن النصر دائما حلِف طالِبي الحقِّ..

إنّ التجبُّر مآلُه إلى الزوال طال الزمن أم قصُ.. و لكن، على مواطني “منطقة العبيد” مُحاوَلة نفْض غُبار العبوديّة و الاسترقاق الذي دام لِحِقَبٍ طويلة، و ذلك من خلال انتفاضَةٍ شامِلة ضدّ أعداء المنطقة و إجبارهم على التخلّي عن كراسيهم و مُحاسبَتِهم على الثروات و الأموال التي نهَبوها طيلة فترة استِعبادهم لمُواطني المنطقة…  

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب