يسري الغول ينتقد التشرذم الفلسطيني تحت الاحتلال
رواية “ملابس تنجو بأعجوبة” تنقل مآسي غزة المتواصلة
في “ملابس تنجو بأعجوبة”، يخوض الغول في المسكوت عنه في الأدب الفلسطيني، ويقوم بنقدٍ حادٍّ للصراع المعلن والمستتر بين السلطة الفلسطينية وحركة “حماس” محمِّلاً إيّاهما مسؤولية تردّي الواقع القائم، ويحاكم “الفلسطيني، فرداً ومؤسسة، حزباً وجماعة، إسلامياً أو علمانياً أو يسارياً، قبل أن يحاكم إجرام الاحتلال الصهيوني”، على حدّ تعبير الروائي والأكاديمي الفلسطيني حسن القطراوي، على الغلاف الأخير للرواية.
سؤال التوقيت
ولعلّ السؤال البديهي الذي يطرح نفسه، في هذا المجال، يتعلّق بتوقيت المحاكمة ومدى عدالتها، في الوقت الذي يتعرّض فيه المتّهم لحرب إبادة، تشنّها عليه أعتى آلة عسكرية في التاريخ، وسط تواطؤ القوى العظمى، الخفيّ والمعلن، أو صمتها المطبَق، على الأقل. فهل يمكن محاكمة الضحية في الوقت الذي يعيث فيه الجلاّد قتلاً وتدميراً وإبادة؟ غير أنّ مرور عشر سنوات على الأحداث المرصودة في الرواية من شأنه أن يخفّف من وطأة التوقيت المذكور.
تجري أحداث “ملابس تنجو بأعجوبة”، في عام 2014، خلال الحرب التي شنّها الاحتلال على غزّة في 7 يوليو (تموز)، واستمرّت واحداً وخمسين يوماً، أسفرت عن سقوط 2322 شهيداً و11 ألف جريح. وتدور في مدرسة رسمية اتُّخِذت مركز إيواء للنازحين. ففي هذين الفضاءين، الزماني والمكاني، يشخّص الغول الأعطاب التي تعتري الواقع الفلسطيني، ويخوض في المسكوت عنه، من خلال رصده العلاقات بين شخوص الرواية، وردود أفعالهم على العدوان الغاشم، وتفاعلهم في ما بينهم. وهو ما ينخرط فيه، كلٌّ من موقعه، الضابط كاف، الوزير علاّم البكير، الكاتب سعيد رافع، حارس العمارة هادي المفعوص، الشاب المتمرّد مازنجر، وآخرون.
تتموضع الشخوص المذكورة بين سندان المحتلّ الذي يمعن في القصف والقتل من دون رادع، والمحتلّة أرضه الذي يمعن في الانقسام من دون شعور بالمسؤولية. ويتجاذبها حدّان اثنان؛ حدّ الحركة الدينية المتشدّدة التي تحكم غزّة، وحدّ السلطة الرسمية التي تحكم الضفّة الغربية. وبين الحدّين يحتدم الصراع بين شخصية وأخرى، من جهة، وداخل الشخصية الواحدة، من جهة ثانية، مما يعني أنّ أياً منها لا يذهب إلى الأقصى في موقفه وسلوكه، ويترك للصلح مطرحاً، حتى ولو كان أقرب إلى هذا الحدّ أو ذاك. وعليه، نرى أن الضابط كاف أقرب إلى الحركة الدينية، والوزير علّام أقرب إلى السلطة، والشخوص الأخرى تتراوح بين الحدّين.
أعطاب الحركة
في الحدّ الأوّل، يمثّل الضابط كاف الحركة الحاكمة في القطاع، وتُناط به مهمّة بسط النظام في مركز الإيواء. وهو، خلال تنفيذ المهمّة، كثيراً ما يتنازعه الضابط والإنسان. فكاف الضابط لا يتورّع عن إطلاق النار على شابٍّ غاضب في غمرة القصف، واستدعاء رفاقه لضرب أصحاب المواشي الرافضين إخراجها من المركز، وإطلاق النار على هذه الأخيرة، وإعطاء الأمر بضرب حارس العمارة هادي المفعوص وإصابته بكسور في يده ورضوض في جسده، والتحقيق مع رامي/ مازنجر وإطلاق النار على قدمه، وسواها من السلوكيات. أمّا كاف الإنسان فيعترف، في لحظة صدق مع الذات، بداخله الهشّ خلافاً لخارجه الجهم، يكتب الشعر، يرسم، يحبّ الحياة، يرفض القتل ويمتنع عن تنفيذ أوامر القيادة بتصفية المفعوص ومازنجر، يتجاذب أطراف الحديث مع نزلاء المركز، وينخرط في نوبة بكاء بعد استشهاد عددٍ من الأطفال، صبيحة العيد. وهو يدرك أخطاء جماعته وازدواجية شيوخها، ومع هذا، لا يتورّع عن حرق دفاتر الوزير لأنها تفتح الصندوق الأسود للجماعة. وبذلك، يغلّب انتماءه السياسي على جلاء الحقيقة، وهو ما تقوم به سائر الحركات والأحزاب السياسية.
أعطاب السلطة
في الحدّ الثاني، يمثّل الوزير علّام البكير السلطة الحاكمة في الضفّة، ويذكر في مذكّراته تقلّبه بين المراحل المختلفة؛ فهو، في شبابه، ينتمي إلى الجماعة المتشدّدة، وينخرط في أنشطتها المشبوهة التي ترفض الرأي الآخر وتكفّر المخالفين وتنكّل بالمعارضين، ويشارك في ضرب النساء والرجال ومهاجمة التجمّعات والمنتجعات السياحية والفنادق وحرق الصيدليات اليسارية والمكتبات، في حملة تجهيل ممنهجة للقطاع، باسم الدين. وإذ يكتشف أنّ الجماعة أداة للتفرقة والانقسام، يخرج منها ويلوذ بمرسمه وريشته وألوانه التي تصالحه مع العالم. وهو، في مرحلة لاحقة، يتقرّب من السلطة ورئيسها، في محاولة للحصول على موقع فيها، وحين يتم له ذلك يستغلّ الموقع للترويج لفنّه ولوحاته، وحين يكون عليه الاختيار بين السلطة والحبّ يختار الأولى، ويعترف بذلك بالقول: “كنت وضيعاً، أنانياً، أريد أن أصنع اسماً يتردّد صداه في كلّ مكان، لم أهتم للأطفال أو خديجة أو هيلين” (ص162). ولعلّ تعرّضه لابتزاز الأجهزة الأمنية التي تستخدم الأساليب القذرة للإيقاع بالوزراء والتشهير بهم يدفعه إلى تشبيه السلطة بالعصابة. لذلك، لا يتورّع، في مذكّراته، عن توجيه نقدٍ حادٍّ لها، كما فعل مع الحركة المتشدّدة. وهو، في مرحلة أخرى، يتوزّع بين زوجته العاقر خديجة وعشيقته الصبية هيلين، حتى إذا ما حملت الثانية منه وعرضت عليه الزواج، يدفعه الخوف على موقعه للتنكّر لها. وحين تأتيه بابنته الصغيرة، يوهم زوجته أنه عثر عليها أمام المسجد، ويقنعها بتبنّيها. وبذلك، تجتمع فيه مجموعة من الأعطاب يحاول التكفير عنها بكتابتها في مذكّراته. ويأتي استشهاده مع زوجته، خلال الحرب، ليمنحه صكّ براءة ممّا ارتكب.
على أن استشهاده في منطقة خاضعة لنفوذ الحركة يدفع إلى الاستنتاج أنّ المحتلّ لا يميّز بين فلسطيني وآخر، بين سلطوي وحَرَكي، فالجميع أهداف له. ومن خلال هاتين الشخصيّتَيْن، يشير الغول مباشرةً إلى أعطاب الواقع الفلسطيني، بقطاعه وضفّته، بسلطته ومعارضته، المتمظهرة في التعصّب ورفض الاختلاف والتكفير والازدواجية والقمع، من جهة، والتسلّط والاستحواذ والأنانية والانتهازية وصرف النفوذ، من جهة ثانية.
محاكمة وإدانة
إذا كانت الشخصيتان المذكورتان نموذجين للعسكري والسياسي في الواقع الفلسطيني، فإنّ شخصيات أخرى، تتموضع بين الحدّين الأوّل والثاني، تمثّل المثقّف والمسحوق والمتمرّد، في هذا الواقع. ولكلٍّ منها دورها في مجرى الأحداث؛ فسعيد رافع نموذج الكاتب الذي يرصد المدينة بتفاصيلها، ويقوم بتعرية الواقع وتفكيك أعطابه. لذلك، ينزل إلى الميدان، ويجمع نثار حكاياته من بؤس الناس ومعاناتهم، ويقوم بتحويلها إلى قصص وروايات. وهو، إذ يفقد مخطوطاً روائياً ومشاريع قصص في شقّته المهدّمة ويعثر على دفتر مذكّرات جاره في العمارة الوزير علّام، يقرّر كتابة الرواية المفقودة مستفيداً من تلك المذكّرات. وهو، في سلوكه، أمينٌ على وظيفة المثقّف، فيمارس التفكير النقدي للسلطة الحاكمة باسم الدين، من جهة، ويتعاطف مع المسحوقين والفقراء والمتمرّدين، من جهة ثانية.
وهادي المفعوص نموذج للشابّ المُعدَم، يدفعه فقره للعمل حارس عمارة، يراقب الجميع، ويتسقّط الأخبار، ويُسخّف كلّ شيء حوله. ولعلّه يفعل ذلك انتقاماً من ظروفه المادية. وهو شهادة على التناقض الكبير بين ما يطفو على سطح المجتمع من بطولات، وما يعتمل داخله من مآسٍ. غير أنّ نزوعه إلى الثرثرة الدائمة يجعل الممسكين بزمام الأمور يفكّرون في التخلّص منه، فتلفّق له التّهم، ويتمّ التحقيق معه وتعنيفه، حتى إذا ما أوشكت الأمور أن تعود إلى نصابها، يفرّ إلى الضفّة الغربية.
أمّا رامي/ مازنجر فهو نموذج للشابّ الذي تتواطأ عليه الظروف القاسية، المتمثّلة بموت والديه، ووضع عمّه يده على الإرث، وسرقة نصّابٍ محترف ماله القليل، وافتقاره إلى الدعم السياسي، وعدم حصوله على فرصة عمل. غير أنّه يقاوم الظروف بما ملكت يداه، فينشئ كشكاً صغيراً يعتاش منه، وينام في بيت مهجور عند أطراف المخيم، ويتبلور لديه وعيٌ سياسي حاد، فيعلن التمرّد على السلطات، على أنواعها، الدينية والسياسية والعسكرية والاجتماعية، ويمارس حياته ورغباته بلا خوف، ويدفع ثمن هذه الممارسة. غير أنه، حين يبدي شجاعة فائقة في مساعدة الآخرين معرّضاً نفسه للخطر، يتحوّل من منبوذ إلى بطل يخطب ودّه الجميع، حتى أنّ الضابط كاف يعرض عليه الزواج من أخته.
هكذا، ومن خلال هذه الشخصيات وغيرها، يصوّر الغول في روايته حياة النزوح وما يحفّ بها من بؤس وقلق وخوف وشظف عيش وقمع وإذلال وصراع وغيرها من الأعطاب التي تطفو على السطح. وهو، إذا كان في هذا التصوير يحاكم الواقع الفلسطيني، فإنّ هذه المحاكمة تشكّل، بالتأكيد، إدانة صارخة للاحتلال، والقوى العظمى، شاهدة الزور على الجرائم المتمادية.
المصدر :الاندبندنت العربية –