الولايات المتحدة تتّجه إلى “السقوط النهائي”.. “هزيمة الغرب” أصبحت حتمية
يتوقّع مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز، أنه – دون مساعدات عسكرية إضافية من واشنطن – ستضطر أوكرانيا إلى الدخول في مفاوضات سلام مع روسيا بشروط موسكو في غضون عام. لكن صحيفة “نيويورك تايمز” – تذهب إلى أبعد من ذلك – إذ تحذّر من أنّ قيادة الولايات المتحدة للعالم تسير إلى الاضمحلال، إذ لم تعد واشنطن تمتلك الوسائل اللازمة للوفاء بوعودها التي تطلقها في مجال السياسة الخارجية.
وأوضح الصحفي الأمريكي كريستوفر كالدويل في مقاله بـ”نيويورك تايمز” أنه استند في تحذيره إلى ما ورد في كتاب جديد بعنوان “هزيمة الغرب”، لمؤلفه الفرنسي إيمانويل تود، وهو مؤرخ وعالم أنثروبولوجيا شهير. وسبق لتود أن تنبأ بانهيار النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وذلك في كتاب آخر صدر في عام 2002 تحت عنوان “ما بعد الإمبراطورية”.
ويقول كالدويل إنّ المؤلف الفرنسي يشعر بخيبة أمل متزايدة تجاه الولايات المتحدة، بل بات معاديا لها. وبدا الصحفي الأمريكي وكأنه يوافق على الحجج التي ساقها تود في كتابيه، حيث استهل مقاله في “نيويورك تايمز” باقتباس عبارات موحية وردت في خطاب الرئيس جو بايدن عن حالة الاتحاد الذي ألقاه صباح الجمعة، والذي انتقد فيه نظيره الروسي فلاديمير بوتين على غزوه أوكرانيا. وفي الخطاب، قال بايدن “إذا كان أي شخص في هذه القاعة يعتقد أن بوتين سيتوقف عند أوكرانيا، فأنا أؤكد لكم أنه لن يفعل ذلك”.
وأتبع الرئيس الأمريكي ذلك بالقول – عند لقائه رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون، الذي تعد بلاده أحدث عضو ينضم إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) – إن “أوروبا في خطر”.
أما مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز، فقد قال خلال جلسة استماع للجنة المخابرات في مجلس النواب الأمريكي: “إنه (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) مهتم بمثل هذه المفاوضات إذ يمكنه إملاء الشروط. وأعتقد أنه دون مساعدة إضافية، هذا هو المستقبل الذي يمكن أن ينتظر أوكرانيا بعد عام من الآن”.
واعتبر أن غياب المساعدات العسكرية الجديدة سيؤدي إلى تراجع أكبر للقوات الأوكرانية، وفقدان البلدات التي سيطرت عليها القوات الأوكرانية. وأشار رئيس وكالة المخابرات المركزية إلى أن عواقب هزيمة أوكرانيا سوف تؤثر على مصالح الولايات المتحدة ليس فقط في أوروبا، ولكن أيضا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
كما أكد وزير خارجية هنغاريا بيتر سيارتو أن عددا من الدول الأوروبية التي تؤيد استمرار النزاع الأوكراني، ستغير موقفها إذا عاد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى السلطة في بلاده. وتؤكد موسكو دائما استعدادها للمفاوضات، لكن كييف فرضت حظرا عليها على المستوى التشريعي في البلاد.
ولا يزال بايدن – كما يعتقد كاتب المقال في صحيفة “نيويورك تايمز” – “مصمما على أنه لن يكون هناك داع لأن يدافع الجنود الأمريكيون عن أوروبا، بل إن متحدثا باسم البيت الأبيض ذهب أبعد من ذلك الأسبوع الماضي عندما صرح بأنه من “الواضح تماما” أن استخدام قوات أمريكية برية مسألة غير مطروحة للنقاش.
ووفقا للمقال، فإن احتمال أن تُقدِم روسيا على مزيد من التوغلات هي الحجة الأقوى التي اعتمدت عليها واشنطن في جر “الناتو” إلى أتون الحرب، وفي جذب أعضاء جدد إلى الحلف الأطلسي. ولكن إذا كانت مثل هذه التوغلات مدعاة لقلق حقيقي – كما يقول كالدويل – فإن استخدام قوات برية سيكون أحد خيارات الولايات المتحدة وحلفائها بطبيعة الحال. كما “إن الأساس المنطقي لمشاركة الناتو في الحرب الروسية الأوكرانية يصبح أكثر غموضا في ذات الوقت الذي يتوقع فيه المرء أن تكون أكثر وضوحا”.
وبحسب المقال، فإن الأوروبيين – شأنهم شأن الأمريكيين – قد سئموا من الحرب، وتزداد شكوكهم في قدرة أوكرانيا على الانتصار فيها. ولعل الأمر الأكثر أهمية أن الأوروبيين لا يثقون بأمريكا “التي لم تفعل شيئا كثيرا في هذه الحرب لتبديد تلك الشكوك بشأن دوافعها وكفاءتها، التي برزت إبان حربها على العراق قبل عقدين من الزمن”.
ويعود كالدويل إلى الحديث عن رؤى المؤلف الفرنسي إيمانويل تود، الذي يعتبره من المنتقدين لضلوع الولايات المتحدة في أوكرانيا، إذ يرى أن الإمبريالية الأمريكية “لم تعرض بقية دول العالم للخطر فحسب، بل نالت من الشخصية الأمريكية”.
ومن المظاهر التي تدل على تراجع الدور الأمريكي في العالم، أن روسيا استطاعت تحدي العقوبات ومصادرة أصولها التي فرضتها واشنطن في سعيها إلى تدمير الاقتصاد الروسي. ولم تعد القاعدة الصناعية للولايات المتحدة ولحلفائها الأوروبيين كافية لتزويد أوكرانيا بالعتاد – وبخاصة المدفعية – اللازم لتحقيق الاستقرار، ناهيك عن الفوز بالحرب.
تحوّلات جذرية
ويؤكّد تود أنّ “انغماس” الأمريكيين “المتهور” في الاقتصاد العالمي كان خطأ، فالولايات المتحدة باتت تصنع سيارات أقل مما كانت عليه في ثمانينيات القرن الماضي، وتنتج قمحا بكميات أقل.
ومن الأسباب التي يسوّقها المؤلف الفرنسي في كتابه الأخير – طبقا لكالدويل – تلك التي تنطوي على ما يسميها “تحولات ثقافية أعمق وطويلة الأمد”، ويقصد بذلك طموح كثير من الأفراد في الغرب إلى العمل على إدارة الأمور وقيادة الأفراد في مجالات العمل، “وهم يريدون أن يصبحوا سياسيين وفنانين ومدراء، وهو أمر لا يتطلب دائما تعلم أمور معقدة فكريا”.
وأشار في هذا الصدد إلى أن الولايات المتحدة تعاني من هجرة الأدمغة داخليا، إذ ينصرف الشباب عن المهن التي تتطلب مهارات عالية، إلى مهن أخرى في مجالات مثل القانون والشؤون المالية وغيرهما.
ويقول كالدويل إن تود انتقد تراجع قيم الأسرة في المجتمعات الأنغلوأمريكية التي يقل فيها دور الأب، ولا تتوافق مع ثقافات تقليدية في دول مثل الهند، أو حتى مع ثقافات حديثة “أكثر أبوية” مثل روسيا.
ويشدد المؤلف الفرنسي على أن الثقافات التقليدية لديها الكثير مما تخشاه من ميول الغرب التقدمية، وربما تقاوم التحالف مع الدول التي تتبنى تلك القيم في سياساتها الخارجية. ويعتقد تود أن بعض القيم الغربية “غارقة في السلبية”.
صاحب نبوءة “السقوط النهائي”
يعدّ إيمانويل تود – وهو مؤرخ وأنثروبولوجي وعالم اجتماع ومحلل سياسي – أحد القلائل المتبقين من مثقفي المدرسة الفرنسية القديمة، ويوصف بأنه هو مفكر من فئة نادرة تعتمد الحقائق والمعطيات،
عرف تود بحس إستراتيجي ثاقب، إذ كان قد توقع انهيار الاتحاد السوفيتي في كتابه الشهير “السقوط النهائي” الذي أصدره عام 1976 وهو ابن 25 عاما، انطلاقا من نظريته في “أنساق القرابة الأسرية” وإحصائيات عن معدلات وفيات الأطفال الرضع في الاتحاد السوفيتي.
وبعد قرابة ربع قرن أصدر تود المتهم بمعاداة الولايات المتحدة كتابا بعنوان “ما بعد الإمبراطورية” (2001) قدم فيه حججه على أفول أمريكا كقوة عالمية مهيمنة رغم مزاعم انتصارها الكبير بانهيار الاتحاد السوفيتي.
وتكمن أهمية طروحات تود في استخدامه العوامل الثقافية في رصد المعطيات الجيوسياسية بدلا من نموذج صراع القوة المهيمن على الدراسات الإستراتيجية. وفي جانفي 2024 صدر كتاب تود الجديد “هزيمة الغرب” الذي أثار فور صدوره جدلا واسعا متشعبا، وهو خلاصة قراءة تود للنظام الدولي الجديد في ضوء حرب أوكرانيا المستمرة منذ سنتين.
عصابة واشنطن
ويشرح تود – في الفصل العاشر من الكتاب بعنوان “العصابة الحاكمة في واشنطن” – بالأرقام أسباب قوة اليهود في السياسة الخارجية الأمريكية. ومخافة اتهامه بمعاداة السامية وهي تهمة رائجة، يحرص الكاتب على تأكيد أنه يتحدر من عائلة يهودية من أصول مجرية. ويذكر تود أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومساعدته فيكتوريا نولاند من أصول يهودية.
في حين أن الرئيس بايدن ومستشاره للأمن القومي، جيك سوليفان، كاثوليكيان من أصول آيرلندية، لافتاً إلى أن اليهود لا يشكلون سوى 1.7 في المائة من الشعب الأمريكي (ص 288)، فيما تمثيلهم في المواقع الرسمية، وتحديداً المرتبطة بالسياسة الخارجية لا علاقة له بنسبتهم العددية.
ويسيطر اليهود على مواقع القرار في المراكز البحثية، والمثال على ذلك أن ثلث أعضاء الهيئة الإدارية لـ”مجلس العلاقات الخارجية” من اليهود، كما أن ثلاثين في المائة من أصل أكبر مائة ثروة في الولايات المتحدة هم أيضاً من اليهود. ولهؤلاء، كما هو معروف، تأثيرهم الكبير على الجامعات والمعاهد العليا على اعتبار أنهم من كبار المانحين، وهو ما ظهر جلياً مع العدوان على غزة.
ويُفسر الكاتب أهمية اليهود بعاملين: الأول تراجع القيم البروتستانتية لدى المجموعة الحاكمة السابقة وهي «WASP» (الأنغلو ساكسونيون – البيض البروتستانتيون). والثاني تركيزهم على التعليم، وارتياد المعاهد والجامعات الأكثر تميزاً ما يؤهلهم لاحتلال أعلى المراكز.
أوروبا إلى الانحدار
ويشير الكاتب بان أوكرانيا ليست وحدها التي تتجه إلى الانتحار بل معها أوروبا (ص 161). والحجة التي يسوقها تود أن الاتحاد الأوروبي الذي كان يسعى ليكون القوة الثالثة المستقلة بين الولايات المتحدة والصين “اختفى تماماً وراء الحلف الأطلسي الخاضع لأمريكا”، وأن الدول الاسكندينافية والمشاطئة لبحر البلطيق “أصبحت تابعة مباشرة لواشنطن”.
وبالتوازي، يؤكد الكاتب أن الحصار المفروض على روسيا “مدمر للاقتصادات الأوروبية”، ومن ذلك ارتفاع أسعار الغاز والمحروقات والتضخم ما يهدد الصناعات الأوروبية “ويقودنا إلى مفهوم الانتحار”.
ولتثبيت نظريته، يؤكد تود أن الميزان التجاري الأوروبي تحول من فائض إيجابي قيمته 116 مليار يورو في 2021 إلى عجز يتجاوز 400 مليار يورو في 2022، ناهيك عن تكلفة باهظة للحرب. ويتساءل: «لماذا يريد الغربيون حرباً بلا نهاية» بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد صيف عام 2023؟
ومرة أخرى يتبنى تود السردية الروسية القائلة إن روسيا «تحارب على حدودها، بينما الجبهة تبعد 3200 كلم عن لندن و8400 كلم عن واشنطن». وخلاصة الكاتب أن «المشروع الأوروبي (الأساسي) مات، وأن أوروبا تحتاج إلى عدو خارجي وجدته في روسيا».
وفي سياق انتقاداته يوجه سهامه إلى بريطانيا التي يصف ردود فعلها بـ«المضحكة»، وهي تحاول الإيحاء بأنها تعيش مرة أخرى «معركة إنجلترا» ضد الجيش الألماني، وقارن وزارة الدفاع البريطانية بـ«أفلام جيمس بوند» وروايات «OSS117» (ص 194)، كما عدّ أن لندن الأكثر تطرفاً بالدفع نحو مواصلة الحرب.
حميد سعدون
الايام نيوز