مقالاتكتب

قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” تاليف الدكتور محمد كامل عجلان

 بقلم فاطمة بن محمود / تونس

العولمة بين الهيمنة والفشل

قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” تأليف الدكتور محمد كامل عجلان

 بقلم فاطمة بن محمود / تونس

تقديم الكتاب:

  عن الهيئة المصرية العامة للكتاب صدر كتاب “ايديولوجية العولمة: دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” للدكتور المصري محمد كامل عجلان سنة 2018 (ط1) في حجم متوسط يمتد على 175 صفحة، وهي دراسة مهمة في آليات السيطرة الرأسمالية وفضح مقولاتها الخفية التي تبيح لها الهيمنة على العالم ووضع يدها على مقدرات الشعوب و تذويب هويتها  للتحكّم في مصيرها.

قدم الدكتور عجلان هذه الدراسة لتفكيك العولمة بما هي الأيديولوجية الرسمية للرأسمالية وتحميل الغرب مسؤولية الفوضى المربكة التي عليها العالم من جهة التفاوت الاقتصادي الكبير بين الشعوب، وانتشار العنف بكل تمثلاته الرمزية والمادية، وغير ذلك من تهديدات صريحة للإنسان تسحب منه اﻻقامة المريحة التي وعدت بها العلوم لتزج به في جحيم الواقع مثلما أرادت الرأسمالية المتوحشة.

     لعل أهم ما لفت الإنتباه في هذا المبحث الهام أن الدكتور عجلان تناول العولمة بالبحث في جذورها وتمظهراتها وتأثيراتها وأيضا في مخرجاتها التي ساهمت في خلخلة العالم، معتمدا في ذلك على أهم اﻻطروحات الفكرية و وفق تمشي منهجي واضح.

لماذا هذا الكتاب؟

أعتقد أن هذا الكتاب مهم لفهم ميكانيزم التفكير الذي يحرك العالم حتى نفهم كأفراد ننتمي إلى شعوب العالم الثالث ما يدور حولنا و ما يحاك لنا وما ينتظرنا، لذلك يأتي هذا الكتاب ليكشف آليات التفكير للنظام الرأسمالي وأدواته المعرفية التي تمكنه من التحكم في العالم.

يبدو لمتصفح الكتاب أن هذه الدراسة مبحث أكاديمي لكني أعتقد انها أنها أكثر من ذلك، إنه كتاب يمثل ردة فعل من المثقف في العالم العربي الذي وجد نفسه معنيا مباشرة بهذه اﻻيديولوجيا التي تهدد وجوده وتشوش حاضره وتربك مستقبله، بمعنى أن الأزمة الحضارية التي وجد عليها المثقف العربي نفسه هي التي تدفعه الآن إلى ركوب القطار وهو يمشي، أي يجد نفسه مضطرا لمواجهة أطروحات العالم الغربي ليفهم ما يدور حوله.

مثّل زمن العولمة رجة للمثقف العربي ﻷنه اكتشف متأخرا فشل المشاريع السياسية العربية وعجز الدولة الوطنية عن تحقيق نهضة حقيقية وتأسيس ديمقراطية فعلية، بل لاحظ تقهقر هذه الدولة وعجزها عن اﻻيفاء بأبسط مستلزماتها وهي اﻻكتفاء الذاتي الغذائي الذي يضمن لها نوعا من اﻻستقلالية السياسية، لذلك صدمة المثقف العربي من دولة وطنية فاشلة و جاثمة بكل كلاكلها على شعوب مستضعفة ينتشر فيها الجهل والأمية وتزداد فيها الفجوة بين الطبقات اﻻجتماعية جعلت المثقف العربي يواجه العولمة بالتفكير فيها وتفكيكها علنا، وهو بذلك يواجه ضمينا الدولة الوطنية التي لم تفشل فقط في تحقيق نهضة لشعوبها بل ساهمت بالتحالف مع قوى العالم الليبرالي في التنكيل بتلك الشعوب، لذلك أعتقد أن المثقف العربي اليوم يحاول أن يجيب وفق الراهن الذي يعيشه عن السؤال الذي طرحه المفكر اللبناني شكيب أرسلان سنة 1939 “لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟”

العولمة بين المصطلح والظاهرة:

     سعى الدكتور عجلان في كتابه “ايديولوجية العولمة” إلى تناول العولمة من جذورها، فاعتبر الغرب كيان جغرافي لا يمثل موقع أو مكان بعينه بل جهة لها ثقافة مخصوصة ولذلك عاد للتاريخ ليفهم منابت العولمة بل ليقف عند تكونها الجنيني في رحم الغرب، العولمة ظاهرة حديثة لكنها تعود إلى عوامل تاريخية أدت إلى ظهور أوروبا و ساعدتها لتصبح سيدة العالم، و يعود الفضل في ذلك إلى سببين مترابطين هما:

– الاكتشافات الجغرافية الهامة التي لم تعد فيها اﻻرض مركز الكون وهو اكتشاف خطير مثّل منعطف ليس في العلم فقط بل في تاريخ البشرية كله، وكان لهذا تأثير في العنصر الثاني وهو:

 – الثورة الفكرية و العلمية أي عندما انتقلنا من مركزية الأرض إلى  مركزية اﻻنسان التي أعلن عنها الكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر إذن أنا موجود). تتمثل خطورة هذا اﻻعلان الديكارتي في خلخلة حضور الكنيسة وتحرّر اﻻنسان من سلطتها لفائدة سلطة العقل.

عودة الدكتور عجلان إلى تاريخ أوروبا جعله يواكب تطور العقل الغربي ويقف عند أهم محطاته اﻻيديولوجية الليبرالية والماركسية، وينتبه إلى التأثيرات المتبادلة لها في الواقع، بمعنى أن الفكر هو الذي كان يقود اﻻنسان إلى الفعل في الواقع وتغييره.

لعل من أهم ما فعله الدكتور عجلان في العنصر اﻷول من الكتاب أنه قام بالفصل بين العولمة بما هي “مصطلح” و العولمة بما هي “ظاهرة”، فهو يرى أن مصطلح العولمة حديثا، أول من استعمله هو عالم اﻻجتماع الكندي “مارشال ماكلوهان” وشاع استعمالها منذ التسعينات، ولكن العولمة بما هي ظاهرة تمثل هيمنة ثقافة اﻷقوى إنما تعود الى عصر النهضة وعبرت عنها الفلسفة وتشكلت في الثورة الصناعية وفرضتها القوى السياسية وامتدت إلى الآن، أي أن فكرة الهيمنة على الآخر ليست وليدة ظهور العولمة كمفهوم بل تعود منابتها إلى عصر النهضة، بمعنى أن العولمة بما هي ظاهرة سابقة تاريخيا عن العولمة كمفهوم. خطورة هذا اﻻستنتاج حسب رأيي أنها تبرز فكرة الهيمنة بما هي تفوق طبيعي من أوروبا على الآخر المختلف عنها.

العولمة طريقة تفكير:

يؤكد الدكتور عجلان في الفصل الثاني أن العولمة تتأسس على عناصر اقتصادية وسياسية وثقافية وهو ما يجعل منها رؤية للعالم وموقف من الآخر المختلف، وهي لا توجد لنفسها مبررات للسيطرة على العالم و التحكم في الشعوب بل إن جذورها هي التي تجعلها كذلك، بمعنى أن العولمة هي نتاج طبيعي لتحرر العقل الغربي من كل سلطة خارجية كما أنها نتيجة حتمية لمسار اقتصادي ليبرالي قائم على التطور التكنولوجي ويتغذى على حساب اﻷسواق الخارجية. بمعنى أن العولمة كأطروحة تحررت ذهنيا من أي عنصر خارجي وارتبطت ماديا بالهيمنة على كل ما هو خارجي، من خلال هذه المعادلة الصعبة استطاعت أن تنمو و تتطور وتصبح شعار المرحلة.

ﻷن العولمة هي طريقة تفكير ونمط حياة لذلك لم تلتزم بمكان بعينه فقد برزت مع سيطرة بريطانيا اﻻستعمارية ولكنها بعد الحرب العالمية الثانية انتقلت إلى الولايات المتحدة اﻻمريكية لتُضخ فيها دماء جديدة و تتربى على اقتصاد مفتوح وتنمو بين الشركات العملاقة و من ثمة تتحول إلى وحش يزحف على الدول الفقيرة يلتهم خيراتها ويتحكم في مصائرها ويذيب هوياتها وينشر فيها فيروسات الفساد السياسي واﻻقتصادي حتى تحول وحش العولمة إلى عملاق متوحش.

لعل السؤال الذي يلح علينا هو: أين هي الدولة الغربية في مواجهة العولمة؟

لم يفت الدكتور عجلان الانتباه الى دور الدولة التي يرى أنها هي نفسها كانت تغيّر جلدها، بمعنى أن فشل الدولة في مفهومها الماركسي على الصمود وانسحابها كان لصالح الدولة الليبرالية التي لم تعد تقوم بدور الحامية للقوانين والحافظة على مصالح الشعوب، بل تغيّرت وأصبحت هي نفسها في خدمة مصالح الرأسمالية وتحولت إلى أداة الطبقات المسيطرة لقهر الطبقات الضعيفة في الداخل وقهر الشعوب الضعيفة في الخارج، وبذلك أصبحنا نتحدث عن دولة الرفاه. في المقابل نجد الدولة الوطنية” لشعوب العالم الثالث هي نفسها قد تحولت من داعية إلى التحرر الوطني وثائرة على المنظومة اﻻستعمارية أصبحت بدورها  أداة لخدمة العولمة وبذلك تحولت إلى حجر عثرة ضد تحرر شعوبها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. أن تكون العولمة بدون حدود ولا موانع سيجعلها تنتهي بالبشرية إلى التهلكة حتما وهذا ما سيؤكده الدكتور عجلان في الفصول اللاحقة من الكتاب.

 الركائز الفكرية لايديولوجية العولمة أو فشل الحداثة:

أعتقد أن الفصل الأهم في هذا الكتاب الذي عنونه الدكتور عجلان “بالركائز الفكرية لايديولجية العولمة” تناول فيه أهم مكونات العولمة المتمثل في الجهاز المفاهيمي التي غزت به العالم من ذلك مفهوم: الحداثة.

لا يفوت الدكتور عجلان الانتباه إلى التباس مفهوم الحداثة وهو ما جعل من تحديداتها مختلفة و متباينة عبر التاريخ انطلاقا من لحظة تراجع الكنيسة وانبثاق عصر الأنوار  في القرن السادس عشر مما جعلها مرادفة للعلمانية ولحقوق اﻻنسان، إلى حد اعتبارها مرتبطة أساسا بالتطور التقني والعقلانية المنفتحة على التعدد و بالتالي تحولها إلى نزعة انسانية تتمثل في مجموع القيم اﻻنسانية المرتبطة أساسا بالعقلانية.

غير أن الفشل الصادم للحداثة في الالتزام بوعودها القيمية والأخلاقية وعجزها عن حماية اﻻنسان في ذاته هو الذي جعل من العولمة تزيد من بسط هيمنتها على العالم، وتمعن في إفشال المشاريع الوطنية و تستنزف خيرات الشعوب الضعيفة، لذلك نجد العالم في حالة فوضى عارمة.

يتمثل فشل الحداثة خاصة في إعلانها عن “موت اﻻنسان” و”نهاية التاريخ”مع فوكوياما وعن “صراع الحضارات” مع هينجتون، ويعني ذلك اعترافها باندثار الوجود القيمي للإنسان وتفكيك عالمه الثقافي، وبالتالي لم يعد الإنسان يرمز إلى العقل والخلق و اﻻبتكار، أيضا فقد الإنسان قيمته الأخلاقية بما هو  الكائن الأفضل و لم يعد هناك مبررا للحديث عن المساواة والكرامة في ظل هيمنة السوق والقيم اﻻستهلاكية وتسليع اﻻنسان ذاته..

هذا يعني أننا سنجد أنفسنا في مرحلة ما بعد الحداثة في مواجهة انسان جديد منهك و مستنزف يحتكم إلى بعد واحد مادي.

 يبحث الدكتور عجلان في جوهر العولمة بما هي بنية تفكير لها مفاهيمها وآلياتها وهو ما يجعل منها أطروحة فكرية لها مبرراتها ومخرجاتها، وبالتالي مواجهة العولمة لا يمكن أن تكون بمجرد رفض قوانينها بل بمواجهة أطروحة مضادة لها بنائها المنطقي وتناسقها الداخلي ونفوذها الثقافي و سلطتها اﻻعلامية.

تبدو  الآن أطروحة ما بعد الحداثة طوق النجاة للغرب المعولم وفرصة إنقاذ اﻻنسان في العالم المتخلف، غير أننا سنجد أطروحة ما بعد الحداثة (أي ما بعد العولمة) في مأزق حقيقي، هل ستكون ردا حقيقيا عن الحداثة أم ستكون مجرد تطويرا لها وتقديمها في شكل مغاير؟ يبدو هذا السؤال مهما من حيث انه يفضح مرحلة ما بعد الحداثة و يؤكد أنها لم تقطع مع الهيمنة والغطرسة.

تقدم مرحلة ما بعد الحداثة وعودها في أن تكون ضد المركزية في دلالاتها اﻻقتصادية و السياسية والثقافية، وتكون ايضا ضد احتكار السوق واحتكار المعرفة والعلوم .

من هذا المنطلق كان من الطبيعي ان يولي الدكتور عجلان مساحة لتقديم و نقد العرض الذي قدمه فوكوياما لتأسيس انسان جديد.

نقد أطروحتي فوكوياما و هنجتون:

بعد تفكيك العولمة ومختلف تجلياتها يختار الدكتور محمد عجلان في الفصل الرابع من كتابه نقد العولمة من خلال مجموعة من اﻻستنتاجات، من بينها أن اطروحة فوكوياما نفسها يعتبرها محدودة و تعاني من تناقضات عديدة خاصة فيما يتعلق بماهية اﻻنسان أو ما يسميه بالتيموس، و بالتالي لا ترتقي لتكون في مستوى النظريات الفلسفية الكبرى، وأن كل ما قام به فوكوياما هو مجرد تحليلات أقرب إلى الخطاب السياسي منها إلى السجال الفكري.

أما أطروحة هينقتون المتمثلة خاصة في مقولته الشهيرة “صدام الحضارات” يقول عنها الدكتور عجلان في هذا الكتاب انها في جوهرها لم تأت لتفند مرحلة الحداثة بل لتدعيم مقولاتها، و ربما لذلك تَمّ تبني أطروحة هينقتون نفسها من طرف الآلة اﻻعلامية اﻻمريكية و توظيف مقولاته لصالح الرأسمالية الغربية.

في خصوص مقولة “نهاية التاريخ” التي يبشر بها هينقتون و التي تعني ضمنيا أنه لم يعد هناك أي منافس للحضارة الغربية، وأن كل المختلف عنها أصبح يسير في ركابها وهو ما يعني أن الجميع قد أذعن لها تماما، خطورة هذا اﻻستنتاج يعني وفق هينقتون أن الصراع في العالم لم يعد صراعا اقتصاديا بل تحول إلى صراع  ثقافي بالأساس، وتتمثل خطورة هذا الرأي في أنه يقدم تبريرا لهيمنة ثقافة القوي الذي سيذيب ثقافة المختلف عنه ويصهرها في بوتقته، وبالتالي يدعم هينغتون ضمنيا هيمنة وتسلط ثقافة الغرب على شعوب العالم.

ينتهي الدكتور عجلان أن كل من أطروحتي فوكوياما وهينقتون ليست سوى امتدادا للعولمة، وأن مرحلة ما بعد الحداثة هي شكل آخر لتواصل الحداثة و هذا يعني أنهما اطروحتين لعولمة واحدة، بمعنى أن العقل الغربي مازالت له القدرة على إنتاج عناصر قوة من ضعفه.

خطورة هذا اﻻستنتاج تعني أن العولمة لم تنته، بل هي متواصلة وتزحف بعنف وتتغلغل بوحشية وهذا ما يجعل العالم في مواجهة مستقبل غامض و وضع غير مريح.

لعل ما يحسب للدكتور عجلان في كتابه “ايديولوجية العولمة” أنه قدم بحثا شاملا ودقيقا، في كل مرة كان يعود إلى منابت أي فكرة هامة في الكتاب وهو ما جعل من رؤيته عميقة، أي لا يتوقف عند الأحداث بل يعود إلى حركة التاريخ لفهم تطور العقل البشري في إنتاجه للمعرفة التي يعود الفضل فيها إلى واقع علمي وسياسي واقتصادي، بمعنى أن الفكرة ابنة واقعها وتتطور وفق سياقها التاريخي.

أيضا ما يحسب للدكتور عجلان أنه حافظ على قدر مهم من الموضوعية الذي جعله يتناول هذا المبحث بحياد، فهو مثلا لا يرى في العولمة شرا مطلق بل ثمّن ما يمكن اعتباره مكاسب باستطاعة الشعوب الضعيفة أن تعتمد عليها ﻻمتلاك أدوات يمكن أن تساهم في نهضتها وبذلك يحمّل المسؤولية ضمنيا إلى الدولة الوطنية وتحديدا إلى الأنظمة السياسية في دول العالم الثالث إفشال كل مشاريع محلية لتطوير بنية العقل والنهوض بالمجتمع، لذلك أعتقد أن المضمر في أطروحة الدكتور عجلان لا يقل قيمة عن المعلن فيه، هذا ما يجعل من هذا الكتاب الذي يقدمه للباحث العربي تستحق أكثر من قراءة وله مكانته على رف كل مكتبة عربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب