
في القبر الجماعي
أحمد بشير العيلة / قصة قصيرة
لا أعلمُ كيف وجدتُ نفسي هنا في هذا القبر الجماعي، وسط أكداسٍ من أناسٍ لا أعرفهم، أو أشلاءٍ ما قدرتُ أن أنسبها إلى أجسادها، منها ما هو متكئٌ على جسدي، ومنها ما هو قربي في متناول يدي، ومنها ما هو بعيدٌ لم أتبيّنه، القبر مزدحم، ولولا كشف البصر عنا أثناء الموت، ما رأيتُ أحداً من كثافة التراب المنهال علي، أجسادٌ انتهت حياتهم في أعمارٍ مختلفة، لكنهم يتساوون الآن في عمرٍ جديدٍ تحت التراب، بدأ في وقت مواراتنا في التراب بجرافة عسكرية، حواسي التي عهدتها وعشتها في حياتي، اختفت تماماً، بل لأقل تغيرت بحواسٍ أخرى وبقدرات أخرى ربما لو امتلكتها في الدنيا لأصبحتُ خارقاً بمقاييس أهلها، البصر حديد؛ أرى ما خلف الأكداس التي فوقي كل الأجساد في القبر رأيتها، واللمس عن بُعد صافحتُ كل الموتى في قبرنا الجماعي وأنا مكاني، والسمع امتد لأبعد نقطة في العدم، نعم أنا هنا في العدم تماماً، حيث يوجد عالم الموتى، وكنتُ أعتقد في حياتي أن العدم فناء، لكنه هنا البقاء عينه، أما الشم فحاسة تقلصت تماماً، حيث كل شيء له نفس الرائحة، الأجساد، التراب، وهل أرى شيئاً غير هذه؟.
حاولت التذكّر كيف جئتُ إلى هنا، آخر منظرٍ رأيته كان في مكتبتي في المنزل، وأنا أبحث عن قصيدة ضائعة كتبتها ذات أحداثٍ مشابهة، لكني لم أنشرها، ووجدت الوقت سانحاً لنشرها الآن، كنتُ أفتش بين الأوراق المحزومة هنا وهناك وبين رفوف الكتب، وكلما مرّ وقتٌ تحسرتُ أكثر على ضياع القصيدة، صوت زوجتي، آه أين أنتِ الآن، كان آخر صوتٍ وصلني قبل أن أجد نفسي هنا، آخر الكلمات التي سمعتها في الدنيا منها نزلت معي إلى هذا القبر، لأنها عالقة في أذني كقرطين فضيين لمَلكٍ فقد مملكته، “اتركها واكتب غيرها”، هكذا قالت زوجتي، وها هي الكلمات الثلاث تدور حولي ولا تهدأ، “اتركها واكتب غيرها”، في هذا القبر الجماعي لم أترك القصيدة وحسب، بل تركت الدنيا كلها، بل هي التي تركتني.
كيف سأكتب هنا؟، هل للكتابة هنا نفس الوجود الساحر في الحياة، هل أصلاً ثمة كتابة في هذا القبر الجماعي، هل يكتب أحدٌ هنا؟، هل لنا يدان لنكتب؟، هل يقرأ أحد؟، هل هناك أثرٌ كتابي لمن نزل تحت التراب قبلي؟ أسئلة لم أعرف هل لها إجاباتٍ أم لا، لكن صدى كلمات زوجتي، أجج في داخلي فضولاً لكي أكتب، لم أعرف، مددتُ يدي وتلمستُ عن بعد في كل الاتجاهات تحت التراب عن أي أداة للكتابة ولو قطعة فحم، لم أجد، فقررتُ أن أواصل البحث عن قصيدتي ولو من تحت التراب، لتكون شاهداً على تاريخ ما كتبت.
أول شيء اكتشفته هنا بعد أن هذا الفضاء الترابي ثنائي الأبعاد، مسطحٌ تماماً، لذا فإن كل أجسادنا هنا في هذا القبر الجماعي ممددة، لا يمكننا صلب طولنا، ربما أيضاً لاختلاف القوانين الحاكمة عن قوانين دنيانا، فلا جاذبية هنا، لا يمكننا الوقوف أو المشي، ممددون كما كنا نضع موتانا، مسطحون كفكرة الموت نفسها، منبسطون لنتساوى، هذا الفضاء الثنائي كان يشبه الورقة التي كتبت عليها قصيدتي، بل إن صورها الشعرية كانت تشبه إلى حدٍ بعيد ما أراه هنا، لأن موضوع الكتابة عن الموت ظلماً كان دأبي.
الغريب أني أرى أجزاءً من كتبٍ كانت تمكث هادئة في رفوفي، لكني لم أرَ مكتبتي وسط هذا القبر الجماعي، ولدٌ كان ممداً قربي كان يقلب فتات الكتب، سألته عمّا يبحث، فقال لعلها كتبي المدرسية، فالجرافات جرفته مع حقيبته المدرسية. أشلاءُ امرأة رأيتها تجمع أشلاء الكتب، لم أعرف لماذا، فالأشلاء لم تنطق، هل كانت تحاول أن تلملم نفسها بشيء من ورق؟!. كل من في هذا القبر تقريباً تعامل بشكلٍ أو بآخر مع الكتب الممزقة، لقد تيقنتُ أنها مكتبتي، لا أدري كيف وصلت هنا، هل لحقتني أم أنا الذي لحقها، هل ماتت حزناً عليّ، هل تعرضنا لنفس ظروف الموت، لا أذكر، فآخر اتصال لي بالدنيا كان في لحظة البحث عن القصيدة.
تعبتُ من التفكير وأنا أسأل نفسي مراراً: “كيف وجدتُ نفسي هنا في هذا القبر الجماعي”، حاولت الاسترخاء من إرهاق التفكير، كل شيءٍ هنا تراب، كنتُ في السابق أتنفس الهواء نقياً بلا حروب، ومحروقاً حين نكون في الحرب، وكنت أرى أسماك بحر غزة تتنفس في الماء، ولم أعرف سابقاً أن هناك كائنات تتنفس في التراب، حتى الموتى تحت التراب لا يتنفسون، فلماذا أنا الآن أتنفس في التراب، هل هذه قوانينُ لفيزياء أخرى، نظرت حولي بنظري الحديدي للأجساد الممدودة في القبر الجماعي، رأيتهم جميعاً مثلي يتنفسون في التراب، فقفزت في ذهني الأسئلة عن ماهيتنا الآن، نحنُ لسنا أحياء لنتنفس الهواء، ولا موتى لينقطع النفس، نحن نتنفس.. إذن ليس هذا هو الموت الذي قالوه لنا، معيشتنا في هذا القبر الجماعي، تختلف تماماً عن الحياة وعن الموت..
ياللمصادفة، كان هذا الموضوع الذي أعيشه الآن بالضبط هو موضوع قصيدتي التي أبحث عنها، وكنت أرثي بها صاحبي الذي استشهد في حرب 2014، لكن في هذه الحرب بعد عشر سنوات؛ فقدتُ نفسي أنا وفقدتُ قصائدي، كانت قصيدتي الضائعة تحاور صديقي وهو شهيد تحت التراب، استرجعتها في ذهني، كأني أنا ذاك الشهيد الذي رثيت، نفس ما صورته في القصيدة وجدته هنا، الأمر الذي حثني على أن أبحث عنها بجد حتى ولو كنتُ تحت التراب، ربما ألقيها ذات وجود على رفاقي في القبر الجماعي.
أحمد بشير العيلة
21/5/2024