ثقافة وفنونمقالات

صورة فنان : عبد الوهاب البياتي  بقلم الدكتور ضرغام الدباغ -العراق –

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ -العراق -

صورة فنان : عبد الوهاب البياتي
 بقلم الدكتور ضرغام الدباغ -العراق –
كتبت أكثر من مرة أن صحبة الشعراء والأدباء والفنانين مسألة فيها نظر …! الفنان أو الأديب سيقول لك أنه إنسان يعيش المجتمع كغيره، ويصيبه ما يصيب الناس من علامات ومؤشرات، تعمل في نفسه وفي ظواهر حياته، والفنان محق بهذا. ولكن الناس يريدون من الكاتب أو الفنان أن يكون مثالياً في كما في فكره في تصرفه ومزاجه، ترى من على حق ؟ الفنان والأديب أم الجمهور ..؟
بتقديري كلاهما مصيبان، فالجمهور يرى وهو محق فيما يراه، أن الفنان أو الأديب إنسان طليعي، وينبغي أن يكون على قدر ومستوى ما يطرح، والفنان أو الأديب إنسان يعيش معاناته ويتفاعل معها، ومع معاناة الجمهور، فينجم عن هذا بتحوله إلى مستودع ضخم للمعاناة والألام … ولأنه حساس بل وشديد الحساسية (وهذه نعمة ونقمة في آن واحد) فإن تعبيراته الحسية وتنفيسه عن الضغوط والمعاناة تكون ظاهرة وملحوظة من الناس لأنه يقع تحت أنظارهم وتصرفاته مراقبة من الناس، وغلطته ستكون بغلطتين.
سنحت لي الفرصة أن أتعرف على عدد كبير من الأدباء والكتاب والفنانين العراقيين والعرب وبعض هؤلاء تطورت علاقتي بهم إلى صداقة، وأحياناً إلى صداقة عميقة. ومن بين هؤلاء الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي.
بادئ ذي بدء البياتي لم يكن عابر سبيل في تاريخ الأدب العراقي والعربي، فهو أسم له حضوره وله إنتاجه، وله قراؤه، وبديهي له أسلوبه الذي لا يخطئ من يقرأ له. وبالطبع لا يخلو الأمر من لا يرى هكذا ..! وهناك من يرى أن الشاعر العظيم أن تمثالاً من المرمر الأبيض الناصع الجميل بل المبهر، وينسى أنه بشر وله ولم لا حاجات بشرية، كما له أخطاؤه.
نعم لعبد الوهاب البياتي شطحات أنا أراها لطيفة غيري يراها غير ذلك، فمثلاً كان عبد الوهاب ربما في مرحلة معينة من حياته قد أصبح بدرجة ما نرجسياً ،(Narcissistic)، كنت أسمع ذلك منه، ولكني أتقبلها منه كأديب على أنها عوامل ذاتية ربما تكون دافعة له ليبدع، وكنت قد لاحظت أيضاً من الجواهري الكبير تصرفات لا تصدق بكونها من شخص كبير مثله، ولكن أين الخطأ فهو في آخر المطاف إنسان يحب ويعشق، ويتطرف في حبه ويتوله … هذه أرهاصات غير اعتيادية لرجل غير أعتيادي، فلا يحق لنا أن نطالبه أن يقدم أعمالاً غير اعتيادية، فيما نطالبه أن يكون في أرهاصاته مثله مثل الناس أجمعين. الفنان لا يضع كوابح مثل الناس الآخرين على سلوكه، و الكوابح …؟ برأيه في ذلك قمع للنفس ..
البياتي قال لي يوماً أنه ذهب إلى القاهرة، ” وأنت تعرف ضرغام، يعني أنا لي هناك علاقات عميقة جداً بالوسط الثقافي المصري، لذلك أستقبلني فلان وفلان (أسماء كبيرة) في مطار القاهرة، وجمهرة كبيرة من الكتاب، وسألني أحدهم : كان لديكم في العراق شاعر أسمه الجوهرجي … أو الجواهري .. أين حلت به الدنيا ..؟ ابتسمت أنا … والبياتي لم تغيضه أبتسامتي …!
البياتي كان يغمز من قناة الكثير من الشعراء بهدف إخلاء المسرح لنفسه وحده، فيقول عن هذا الشاعر المشهور: إنه متعافي وسمين كأبن والي تركي …! وعن ذاك أنه خادم، وعن آخر دجال … لا يرضى عن أحد.. ربما عن الموتى فقط، واحيانا لا يستثني من ذلك حتى بدر شاكر السياب الذي لم يكن يحبه حياً أو ميتاً، والحب هنا ليس بالمعنى الغرامي، فبدر كان عملاق شعري لا يمكن تجاهله والبياتي يقول عنه : “…. أي خطية …. كان تعبان … بعدين قصائده كانت من وحي الحرمان … خطية كان يعاني من عقدة قبحه .. ” ويبتسم كأنه يقول أنه كان يتمتع بمحبة الطالبات في الكلية وبدر كان يجيد الإنكليزية، ويقرأ بها ويترجم عنها، والبياتي كان لا يفوت فرصة للانتقاص من هذه الميزة المهمة.
ولكن البياتي رغم ذلك عملاق … لا سبيل لإنكار ذلك إن أحببناه أو كرهناه .. ويؤسفني أن لا أجد اليوم بعد عدة تنقلات كارثية حلت بمجموعة الصور عندي، أن أجد واحدة مع البياتي، ولكني عثرت بين أوراق على رسالة له لي بخطه، وإحدى أجمل قصائده التي أحبها، ” أولد وأحترق في حبي ” وقصيدة” لارا “.. لذكرى صديقي العزيز الراحل أبو علي … عبدالوهاب البياتي .
لارا
عبد الوهاب البياتي
(1)
تستيقظ (لارا) في ذاكرتي: قطًّا تتريًّا, يتربص بي, يتمطَّى, يتثاءب
يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم. أراها في قاع جحيم المدن
القطبية تشنقني بضفائرها وتعلقني مثل الأرنب فوق الحائط مشدودًا في خيط دموعي.
أصرخ: (لارا) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) أعدو خلف الريح وخلف
قطارات الليل وأسأل عاملة المقهى. لا يدري أحد. أمضى تحت الثلج
وحيدًا, أبكي حبي العاثر في كل مقاهي العالم والحانات.
( 2 )
في لوحات (اللوفر) والأيقوناتْ
في أحزان عيون الملكات
في سحر المعبودات
كانت (لارا) تثوي تحت قناع الموت الذهبي وتحت شعاع النور الغارق في اللوحات
تدعوني, فأقرب وجهي منها, محمومًا أبكي
لكن يدًا تمتد, فتمسح كل اللوحات وتخفي كل الأيقونات
تاركة فوق قناع الموت الذهبي بصيصًا من نورٍ لنهارٍ مات.
( 3 )
لارا! رحلتْ
لارا ! انتحرت
قال البوَّاب وقالت جارتها, وانخرطت ببكاءٍ حارْ
قالت أخرى: لا يدري أحد, حتى الشيطان
( 4 )
أرمي قنبلة تحت قطار الليل المشحون بأوراق خريف
في ذاكرتي، أزحف بين الموتى, أتلمس دربي في
أوحال حقولٍ لم تحرث, أستنجد بالحرس الليلى
لأوقف في ذاكرتي هذا الحب المفترس الأعمى, هذا
النور الأسود، محمومًا تحت المطر المتساقط
أطلق في الفجر على نفسي النارْ.
(5)
منفيًّا في ذاكرتي
محبوسًا في الكلماتْ
أشرد تحت الأمطارْ أصرخ: لارا ..!
أصرخ: لارا!
فتجيب الريح المذعورة: لارا!.
( 6 )
في قصر الحمراء
في غرفات حريم الملك الشقراوات
أسمع عودًا شرقيًّا وبكاء غزال
أدنو مبهورًا من هالات الحرف العربي المظفور بآلاف الأزهار
أسمع آهات
كانت (لارا) تحت الأقمار السبعة والنور الوهاج
تدعوني فأقرب وجهي منها, محمومًا أبكي
لكن يدًا تمتد, فتقذفني في بئر الظلماتْ
تاركة فوق السجادة قيثاري وبصيصًا من نور لنهارٍ ماتْ.
( 7 )
لم تترك عنوانًا، قال مدير المسرح وهو يَمُطُّ الكلمات.
( 8 )
تسقط في غابات البحر الأسود أوراق الأشجارْ
تنطفئ الأضواء ويرتحل العشاق
وأظل أنا وحدي, أبحث عنها, محمومًا أبكي تحت الأمطار.
( 9 )
أصرخ: (لارا)
فتجيب الريح المذعورة: (لارا) في كوخ الصياد.
( 10 )
أرسم صورتها فوق الثلج, فيشتعل اللون الأخضر في عينيها والعسليُّ
الداكن, يدنو فمها الكرزيُّ الدافئُ من وجهي, تلتحم الأيدي بعناق
أبدي, لكن يدًا تمتدُّ, فتمسح صورتها, تاركة فوق اللون المقتول
بصيصًا من نورٍ لنهارٍ ماتْ.
( 11 )
شمس حياتي غابت. لا يدري أحد. الحب وجود أعمى ووحيد
ما من أحدٍ يعرف في هذا المنفى أحدًا. الكل وحيدٌ. قلب العالم من حجرٍ في هذا المنفى الملكوتْ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب